فنون

أيام المُريا حوار خارج الزمن

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

بين جوقات الملائكة المسبِّحة ذات الصوت العذب، تلألأت أسوار المدينة كحجرِ يشبٍ بلّوريٍّ، حتى بات انعكاس لمعانها مبهرًا. بين الياقوت والزبرجد والذهب والزمرّد والعقيق الأخضر، علَت الأسوار العظيمة ذات الاثني عشر بابًا المُنسدلة أمامها لآلئها الثّمينة، كما يأتي من بعيد خرير مياه النّهر الصّافي اللّطيف الخارج من عرش القدير، كما ينفجر النّور المهيب من مجد العليّ الذي يجعل الملائكة تغطي وجهها بجناحيها، ها هو الشّيخ العجوز إبراهيم جالسًا -يتكئ على قبضة يده اليسرى، بينما ذراعه اليمنى ممدّدة على رجله اليُمنى- متفكِّرًا في كل ما حدث ولسان حاله:
-«لماذا، لماذا كل هذا؟» شعر بيدّ تربت على كتفه وصوت دافئ ينادي باسمه جعل قلبه يخفق.
-«ماذا بك يا خليلي؟ أما زلت بعد تُفكِّر؟»
انحنى إبراهيم ساجدًا أمام هذا الصّوت
-«أيها القدير، نعم ما زلت أفكِّر وأبحث عن إجابة.»
مدّ القدير يده وأقام الشيخ المنبطح على وجهه ونظر في عينيه، قائلًا:
-«ماذا تريد؟»
-«أنت تعلم كل شيء… قلّ لي، لماذا فعلت هذا معي؟ لماذا جعلتني أمرّ بكل ما مررت به؟»
-«لقد قلت لك ما ينبغي أن أقوله وقتها… قلت لك: الآن علِمت أنك خائف الله فلم تُمسك ابنك وحيدك عنّي.»
-«ولكن هل لا بُد أن أذبح ابني لكي تعلم أنني أحبك؟! ألا تعرف خبايا القلوب؟! ألم تفهم فكري من بعيد؟! ألم تر بعينك التي تكشف أستار الظلام ما في قلبي تجاهك؟! لقد عشت كثيرًا أُصارِع مع أفكاري، لماذا حدث كل هذا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ كيف سأكون؟ ولكن كل معاناة هذه الأسئلة كانت تسقط أمام السؤال العظيم لماذا أنا موجود في هذه الحياة؟ كنت على يقين من أنّ هناك غرضًا وقصدًا، وبدأت رحلة معرفة القصد منذ دعوتك، حتّى لو كنت لا أعرف ما تُخبِئه لي الأيام، حتّى لو كان ألم غموض الرّحلة ينهشُ في ذهني بين الحين والآخر، فاكتشفتُ أنّ كنز رحلتي في تحقيق القصد، الذي هو تغييري إلى صورتك، وهذا التّغيير يتبعه قطع كل صِلةٍ بحياتي القديمة. ولكن ما زلت أتسائل: لماذا؟!»
-أنت تعلم يا بُني أن الألم في نسيج تغيير هذا الكيان، إن الإجابة على الأسئلة قد تريح العقل بعض الشيء، ولكنها لا تريح الكيان، لستم مجرّد عقول كي تُشبَع من الإجابات، ولكنّكم شخصيات لها أرواح، هذه الأرواح لا تُشبَع إلّا من خلال علاقة، وتتطلّب العلاقة دائمًا نوعًا من الألم حتى ترتقي الشخصية. حتى وإن بدا الأمر كله غامضًا! يبدو أن الغموض مهما كان مؤلِمًا، دائمًا أسبابه عظيمة!»
ابتسم القديم ثم استطرد «أتذكر يا خليلي حين قلت إنّني لا يمكن أخفي شيئًا أنا فاعله عنك؟»
-«نعم أذكر.»
ضغط برفقٍ على كتفيه فأجلسه، وجلسوا سويًا، قبل أن يُكمل:
-«دائمًا ما كنت أحب أن أُعلن لك ما أريده، كنت دائمًا صديقي، أنا أبتهج بعلاقتي مع خليقتي، كما أنني أحب أن أعلن دائمًا عنّي، فإذا جاء وقت وأصبحت فيه كما تدعونني غامضًا، حتمًا سيكون لهذا الغموض أسبابه، لأن هذه ليست طبيعتي.»
-«نعم أنا أعي هذا، وها أنا عندك بعد انتهاء حياتي، وأنت هنأّتني حين قابلتني عيانًا لأنني عشت غرض وجودي، وحققّت القصد الذي خلقتني له في هذه الحياة، وإلى الآن لم تقُّل لماذا فعلت بي هكذا.»
ابتسم القدير ابتسامة صافية، وقال:
-«إبراهيم، أنت هنا الآن، ولا يوجد هنا حساب للوقت، أنت في الأبدية، انتظر وستعرف قريبًا ما تريد.»
قاطعتهم تسبيحات جوقات الملائكة في صفوف منتظمة قائلة:
«المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة.»
ابتسم الشيخ، قائلًا:
-«يا له من حدثٍ مُنتَظر!»
-«نعم، لقد عشتم طويلًا تنتظرون هذه اللّحظة»
-«ولكن ماذا سيحدث بعد؟»
-«ستعرف يا خليلي، لقد وُلِد ابني وها هو يحقق القصد، لذلك أنا أحبه وأُسَرّ به.»
وفي تلك اللحظة انشّقّت السّماء فجأة وظهر الابن على الجبل مع ثلاثة آخرين من تلاميذه متغيِّرة هيئته، كان وجهه مضيئًا كالشمس، وثيابه بيضاء كالنّور، وموسى وإيليا كانا يتحدثان معه، ثم جاء صوت الآب من السماء:
-«هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.»
التفت إبراهيم إلى الآب مبتسمًا، وقال:
-«أنا اختبرت ذلك الشعور، لديك ابن وحيد تحبه وتفرح به، ولا تريد أن يحدث له أي مكروهٍ. ولكن أتعلم شيئًا، لقد اجتزت في امتحان أصعب منك بكثيرٍ.»
نظر إليه القدير في ابتسامة دافئة، وأجاب:
-«لا تتعجّل يا خليلي، انتظر وسترى من الذي اجتاز ومن لم يجتز، تعال وانظر.»
مال إبراهيم فرأى الابن يُقاد موثقًا، يُجلد ويُلطم ويُبصق عليه، فهمس في داخله:
-«نعم كل هذا مؤلم، ولكنه ليس أصعب مما مررت أنا به.»
ثم رآه يقف أمام القضاء والحُكم يصدُر عليه بالإعدام، وفي هوانٍ وخِزيّ رآه يسير درب طاعته المريرة للآب حاملًا خشبة إعدامه، ثم عاد يهمس في داخله بضيق أكثر:
-«ماذا هذا؟ ماذا بعد؟»
انتَظر إبراهيم ملاكًا يمنع تجرُّع الابن كأس هذا العذاب، ولكنّه وجد السّيف يهوي للذّبح، وجد خليله مُعلّقًا، مصلوبًا ينادي وليس من يسمع، حتى الآب وجده في شدة مرارته وهو يحجُب وجهه مقتصًّا عدالته من ابنه الوحيد المحبوب، وأخيرًا وجد الابن يُسلِّم الروح بين يديّ الآب. ها الحبيبان يعانيان نتيجة إعلان الحب العظيم، وفجأة رأى إبراهيم صرخة الخليقة المتألمة إلى خالقها، رأى السّماء تنوح وتبكي حتى انهمرت دموعها على الأرض، والشمس تحتجب في ذروة ظهيرتها مُفسِحة المجال للظلام الكئيب ليُخيّم على الأجواء الحزينة، فنظر الآب المتألم إلى إبراهيم، وقال:
-«أرأيت يا خليلي، أرأيت أنّني أنا مَن جاز وليس أنت!
أرأيت أنّ ما حدث لك في القديم كان رمزًا لي في أعظم حدث في الوجود، حدث الفداء!
أعَرِفت الآن لماذا فعلت هكذا بك!
اخترتك أنت وابنك لكي تكونا أُولى اللّبِنات للإعلان عن مشروع الفداء العظيم.
إبراهيم، إنّ الخليقة كلها تهللَت يوم أن خُلِقَت، ولكنها تمجدّت يوم أن فُدِيَت!»
وقع إبراهيم عند قدميّ القدير ساجدًا متهللًا، قائلًا فيما يشبه التّسبحة:
-حقًا قدوسٌ أنت، العالم بكل شيء، الحكيم القدير…
يا له من شرف، يا له من قصد، لقد استحقّ الأمر ألم ومعاناة كل السنين…
لقد عِشتُ بقية حياتي غير فاهمٍ، ولكنني الآن أتهلّلُ شاكرًا…
ها أنا ساجدٌ أمامك، أُعلن أن أعظم ما في الحياة هو تحقيق قصد الوجود،
حتى لو حاكت الحياة في نسيجها ليلًا من الغموض.

مهندس أمير عادل

* مهندس معماري. حاصل على بكالوريوس اللاهوت،
* يدرس حاليًّا درجة الماجستير في اللاهوت بكليّة اللاهوت الإنجيليّة المشيخيّة.
* صدر له مؤخرًا كتاب: حكاية حكمة وروايّة: بين لحظتي العري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى