مقالات

نضوج الاختلافات

الهدى 1246                                                                                                      أغسطس – ديسمبر 2022

دون شك فإنَّ العلاقات أساسيّة، ولا يُتصوَّر أن الإنسان يستطيع أن يعيش بمفرده في جزيرة منعزلة أو صحراء قاحلة، لكن على الجانب الآخر فإن العلاقات مرهقة! نعم.. مرهقة. واكتشاف الآخر وإن كان رحلة شاقة، إلا أنها رحلة ممتعة، فما أروع أن تَكتشِف وتُكتَشَفْ، تشكِّلْ وتشكَّلْ، تعطي وتستقبل، تحزن وتفرح، تبكي وتضحك، وفوق كل هذا تُحِبْ وتُحَبْ، وكل هذا لن يحدث مطلقًا دون «الآخر»! وحديثي هنا بخصوص «نضوج الاختلافات» سيكون عن «نضوج اختلافات الآراء» وليس «اختلاف الطباع»، يقول أرسطو عن أفلاطون، وقد كان أفلاطون معلمه: «أفلاطون أستاذي، ولكن الحق أولى من أفلاطون!»، وتنقسم مراحل التفاعل في العلاقات إلى ثلاث مراحل هامة، وهي:
1. التفاعل المؤدب: وهو منطقة تعارف حَذِر، وهذه المرحلة عمرها قصير، يكون الحديث فيها سطحيًا يدور حول أمور عامة كحالة الطقس مثلاً، كما أنه روتينيٌ قد يتشابه -إن لم يتطابق- في كل الحالات من العلاقات في بدايتها، يتوقف عند عبارات محفوظة كـ «صباح الخير»، «مساء الخير»، وغيرها.
2. التفاعل العاصف: وهي الحلقة المتوسطة، وفيها تتجلى فيها الاختلافات بوضوح عند اتساع المساحة بين الواحد والآخر، وقد تؤدي هذه الحلقة إلى نسف الحلقة الأولى (التفاعل المؤدب)، أو الارتقاء إلى مستوى أنضج وأعمق في الحلقة الثالثة (التفاعل المنتج).
3. التفاعل المنتج: وهو التفاعل الذي ينتج عن التفاعل العاصف، بعد أن تكون الحدود قد رُسِمَتْ، مع الإقرار بالاختلافات وقبولها من جانب، والاتفاق على التعاون واستثمار تلك الاختلافات من الجانب الآخر.
والتفاعل المؤدب هو بداية، لكنه ليس النهاية، وإن استمرت العلاقة به، فهي علاقة مريضة، فالاحتكاكات دليل نضج العلاقات، ومن الجدير بالذكر فإن حِدَة الاحتكاكات تكون بين الفرد والآخر في بداية العلاقة، وإن كان البعض يتسرع وينظر إليها على أنها احتكاكات صعبة بسبب اختلاف وجهات النظر وربما الشد من كلاهما في بعض الأوقات، إلا أنها في الحقيقة احتكاكات بناءة، لأن من خلالها نعرف ما يقبله «الآخر» وما لا يقبله، والآخر نفس الأمر بالنسبة لنا. وهي أشبه باحتكاكات التروس في بدايتها، فلأنها تروس جديدة فإن احتكاكها ببعض يكون حادًا في بدايته، كما أن حركتها تكون بطيئة، لكن هذه التروس تزيد سرعتها شيئًا فشيئًا لأنها تتطبع على بعضها البعض. ونفس الأمر بالنسبة للإنسان والآخر! وهنا الحاجة إلى «النضوج»، «الموضوعية» عند التفاعل العاصف لتحقيق التفاعل المنتج.
نرى في العهد الجديد نماذج رائعة لنضوج الاختلافات، والفصل بين العلاقات الشخصية، والمواقف العملية، أذكر ثلاثة مواقف على الأقل:
1. برنابا وبولس: ساعد برنابا بولس في كسر الحاجز بينه وبين التلاميذ، «فَأَخَذَهُ بَرْنَابَا وَأَحْضَرَهُ إِلَى الرُّسُلِ وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَبْصَرَ الرَّبَّ فِي الطَّرِيقِ» (أع9: 27)، ليس هذا فحسب، لكنه أيضًا استعان (برنابا) ببولس في أنطاكية، في الوقت الذي تصدر فيه برنابا المشهد، «ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ» (أع11: 25)، لكن حتمًا سيحدث الاختلاف، وبالفعل حدث الاختلاف بينهما في اصطحاب مرقس معهما، لدرجة أنه «حَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ» (أع15: 39)، وقَبِلا كلاهما الاختلاف، وفصلا بين العلاقات والموقف، اختار أحدهما (بولس) الإنجاز، والآخر (برنابا) التشجيع. ليس هذا فحسب، بل قال أيضًا بولس في (غل2: 13): «حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!». لم يتكلم برنابا بكلمات المعايرة لبولس، كمعايرته بأنه هو الذي قرَّبَه للتلاميذ، أو هو الذي استدعاه للخدمة في أنطاكية بعد أن اتسعت الخدمة، لذا كان برنابا كبيرًا وليس صغيرًا، ومن المؤكد أن بولس أيضًا كانت له أفضال على برنابا، ولكن عند تقييم الموقف لسنا بصدد مثل هذه الأمور.
2. بولس وبطرس: حدث أن الرسول بولس وبَّخ الرسول بطرس، إذ يقول: «وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً» (غل2: 11)، لكن ماذا قال الرسول بطرس في رسالته؟ قال: «كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ» (2بط3: 15)، لاحظ الأوصاف التي وصف بها بطرس بولس: الأخ، الحبيب، الحكيم!
3. أفودية وسنتيخي: يقول الرسول بولس: «أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْراً وَاحِداً فِي الرَّبِّ. نَعَمْ أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضاً، يَا شَرِيكِي الْمُخْلِصَ، سَاعِدْ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ، مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضاً وَبَاقِي الْعَامِلِينَ مَعِي، الَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ» (في2: 3- 4). كلٌ من أفودية وسنتيخي خادمة –ربما شمَّاسة- اختلفتا في الرأي، ورغم ذلك يقول الرسول بولس عنهما: «هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ»، كما أنه (الرسول بولس) لا يخجل من أن يستعين بصديق ليُقرِّب بينهما المسافة.
كل هذه النماذج توضح نضوج الاختلافات، إنَّ الاختلاف الناضج هو الذي يحترم تنوع الآراء، ولا يطوِّح بالعلاقة ليلقيها في أقرب سلة مهملات لمجرد الاختلاف، نرى المستوى الذي وصل إليه الاختلاف في الآراء في برامج التوك شو، ومناقشة القضايا المختلفة في اللقاءات، بل ولا أبالغ إن قُلت في الخدمة الكنسية أيضًا! قال جان جاك روسو لفولتير: «إنني لا أؤمن برأيك، لكني على أتمّ استعداد لأن أموت دفاعًا عن حقك في أن تُبدي رأيك وتعلنه للناس!»، وقال الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!»، وقبلهما قال أفلاطون: «الرأي هو شيء وسيط بين العلم والجهل!».

د. القس مدحت موريس

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
نائب رئيس مجلس الإعلام والنشر في سنودس النيل الإنجيلي
رئيس لجنة الإعلام والنشر في مجمع المنيا
كاتب وله عدد من المؤلفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى