الميلادملفات دينية

معنا إلى منتهى الأيام

الهدى 1227                                                                                                            يناير 2021

أحد النصوص الميلادية المحببة لنا كأسرة، وأعتقد أنها كذلك بالنسبة لكثيرين، هو ما جاء في إنجيل متى ١: ٢١- ٢٣ عن العذراء مريم: «ستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم… وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل»
والنبوة المشار إليها هنا مأخوذة من إشعياء 7: 14.. والسؤال هنا: تُرى هل ظلت هذه النبوة بلا معنى لمدة 700 سنة حتى وُلد المسيح بالفعل في بيت لحم؟ بالطبع لا؛ فإن قراءتنا للأحداث المذكورة في الإصحاحين 7 و8 من سفر إشعياء تساعدنا على فهم الظروف التي صاحبت النبوة، وتقودنا لنرى بعدًا أعمق لما قصد أن يقوله البشير متى عندما اقتبس هذه النبوة.
يحكي هذان الإصحاحان عن آحاز ملك يهوذا عندما تآمر ملكا أرام وإسرائيل لمحاربته، وصعدا ليستوليا على أورشليم العاصمة. وعندما وصل الخبر إلى بيت الملك اضطرب قلبه وخاف جدًا هو وشعبه؛ عندئذ أرسل الرب إليه النبي إشعياء ليقول له: «احترز (تنبه) واهدأ (اطمئن)، لا تخف ولا يضعف قلبك» (7: 14). ثم عاد الرب وكلم الملك قائلاً: «اطلب لنفسك آية من عند الرب إلهك»، لكنه رفض أن يضع ثقته في الله لينجيه. وبقية الأحداث المذكورة في الإصحاحين تحكي كيف كان آحاز الملك الخائف على استعداد أن يتحالف مع مصر أو آشور حتى يضمن استمرار حياته ومركزه. وفي ظل هذه الأزمة، وشعور الملك بالضعف والعجز، جاء الوحي على لسان إشعياء برسالته عن «عمانوئيل» ليشجع الناس على الصبر والثقة في الله.. وهو المفهوم الذي تكرر في بقية إصحاحات السفر (31-40).
في العهد القديم كانت الأسماء التي تُعطى للأبناء تحمل معنى، ويظل صاحب الاسم يذكِّر الناس بالرسالة التي يحملها اسمه حيثما وُجد. لقد وُلد لإشعياء ثلاثة أبناء، وكان اسم كل منهم يحمل رسالة للشعب في الظروف التي يمرون بها.. الابن الأول اسمه «شآر ياشوب»، والذي يعني «البقية سترجع»، في إشارة إلى قصد الله أن يحفظ المؤمنين به حتى نهاية التاريخ بالرغم من أي ظروف كارثية أو أزمات قد تواجهه. أما اسم الابن الثالث فهو «مهير شلال حاش بز» (8: 3)، وكان هذا يُنبئ بسقوط أرام ودمار إسرائيل اللذين تآمرا على يهوذا. ومع أن النص لم يذكر شيئًا بوضوح عن الابن الثاني لإشعياء «عمانوئيل»، لكنه، مثل الابنين الآخرين، كان آية أعطيت لتؤكد معية الله مع الشعب.. «سأكون معكم كأفراد وكأمة في وسط كل الظروف التي لا تستطيعون مواجهتها بمفردكم.» لقد كان هذا الوعد بحضور الله في وسط الأزمات، وعندما يسود الخوف، هو إعلان محوري عن طبيعة شخص الله في العهد القديم.. فلاهوت الاسم «عمانوئيل» يعني أن حضور الله مع شعبه يعطي الرجاء والإمكانية التي تذهب أبعد من حدود ما نراه أو نتوقعه للمستقبل.
بهذه الخلفية النبوية عن الاسم عمانوئيل كتب البشير متى ليعلن لنا مع ميلاد يسوع عن المهمة التي جاء إلى العالم من أجلها.. فلم يكن الأمر مجرد اقتباس، لكنه بالأحرى تأكيد للاهوت العهد القديم عن حضور الله مع شعبه؛ حيث يملأ الفراغ البشري فيما نعجز عن عمله أو مواجهته. لم يقصد البشير بهذا الاقتباس أن يؤكد فقط على الميلاد العذراوي للمسيح، ولا أن يعلن فقط أن ميلاده جاء تتميمًا للنبوات؛ لكنه بعمق وإيجاز عبَّر عن لاهوت التجسد في كلمتين: «الله معنا!»
لم يُذكر الاسم «عمانوئيل» في أي مكان آخر في نصوص العهد الجديد.. لكن البشير متى يعود فيستخدمه عند نهاية إنجيله بصيغة المستقبل، عندما سجل دعوة المسيح لأتباعه بأن يذهبوا بالبشارة عنه إلى العالم أجمع، وختمها بالوعد: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر».. وهي نفس الكلمات التي تعني عمانوئيل في لغة العهد القديم.
في ملء الزمان وُلد «عمانوئيل» في ظروف ضاغطة تشبه كثيرًا ما نجتازه اليوم في بلادنا؛ لكن بولادته تحدى كل قوى الرومان الذين كانوا يحاولون بالإرهاب أن يدمروا الأمة ويفسدوا خطة الله لخلاص العالم.. بولادته وصلبه وقيامته قضى على أسطورة الإمبراطورية التي لا تزول.. بولادته لم يعد هناك مكان لكراهية وتطرف المتزمتين، إذ غلبهما بالحب الذي أبداه للجميع بلا تمييز. لقد قدم مولود المذود للعالم بديلاً للعنف والإرهاب السائدين آنذاك.. قدَّم الحق والعدل، التواضع والمغفرة، الشفاء والمصالحة؛ فحرك الضمير الإنساني، وفتح بابًا للحرية والخلاص، ليس فقط من عبودية الرومان وإرهاب الدينيين، بل ومن عبودية الإنسان للخطية. ولادة «عمانوئيل» أعلنت للبشرية أن ضيق واضطهاد الماضي والحاضر لن يستمرا إلى الأبد؛ لأنها فتحت بابًا للرجاء في عالم جديد.
«عمانوئيل» منذ القديم مع شعبه، «عمانوئيل» معنا اليوم في ظروفنا، «عمانوئيل» سيستمر معنا إلى منتهى الأيام.. وإن كان الله معنا، فأي شر أو ظروف يمكن أن تكون علينا، وأي إرهاب يمكن أن يخيفنا أو يجبرنا أن نتخلى عن إيماننا أو الذهاب للعبادة في كنائسنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى