الصليبقضايا وملفاتملفات دينية

المتهم الأول في جريمة الصليب

الهدى 1230                                                                                                          أبريل 2021

اعتاد الناس وهم يتأملون في قصة الصليب أن يتساءلوا فيما بينهم: مَنْ الذي صلب المسيح؟! هل هم اليهود الذين إفتروا عليه وإشتكوه وأسلموه، وشهدوا وهتفوا ضده، ونادوا وأوصوا بصلبه؟ أم هم الرومان الذين حاكموه في محاكمة ظالمة، وأصدروا الحكم عليه بزعامة بيلاطس الوالي، ونفذوا جريمة الصلب بأيدي الجنود الرومان الأثمة الذين تجردوا من كل المشاعر والعواطف الإنسانية، ونفذوا جريمة الصليب بكل الأساليب الوحشية والإرهابية والإجرامية، ذلك لأنهم إحترفوا التعذيب والتنكيل في عمليات الصلب.
أعتقد أن الإنسان وهو يسأل هذا السؤال يجد فيه راحة نفسية معينة، كأنه يدين ويستنكر ويشجب ما حدث، ويعطي إيحاء لسامعيه أنه من المستحيل أن يقترف هو مثل هذه الجريمة.
في يقيني أن الذي صلب المسيح لم يكن مجرد تخطيط جماعة معينة، أو قرار حاكم معين، وإن كان هذا ماحدث، وإنما هي الخطية التي إستشرت في قلوب شريرة، وضمائر خربة، ونفوس مريضة من جماعات أو أفراد تجمعت وتضافرت وقادت السيد إلى الصليب.
نعم! ما أبشع الخطية فهي التي تقف وراء جريمة الصليب، حتى وإن كان الصليب في قصد الله الأزلي وترتيبه السابق قبل كل الدهور، ونرى الخطية في صور وأشكال والوان أذكر منها:-
أولًا: خطية التزمت لحرفية الوصية والروحانية الصورية
الدارس المدقق لقصة الصليب يري بوضوح إن التزمت والتعصب الديني ممثلًا في الكتبة والفريسيين هو الذي قاد يسوع إلى الصليب، فلقد كانوا يغارون على الناموس بحسب مفهومهم الحرفي المتزمت، كانت الشريعة بالنسبة للفريسيين وصايا جامدة قاسية، حتى صاروا عبيدًا لها، وبالرغم من أن السيد كان يحترم الشريعة ويقدر الناموس، وأعلن أنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله(متى 5: 17)، لكن تفسيره للناموس كان روحيًا وليس حرفيًا، فسمح لتلاميذه أن يقطفوا السنابل وهم جياع يوم السبت (لوقا 6: 1- 5)، وشفي صاحب اليد اليابسة يوم السبت(مر3: 3) ولعل هذا يفسر ما قاله بأن «السَّبتُ جُعِلَ لأجلِ الإنسانِ، لا الإنسانُ لأجلِ السَّبتِ» (مرقس 2: 27).
كان يسوع يعلم الناس بساطة وجمال الحياة الروحية دون مظاهر وشكليات، في الوقت الذي كان الفريسيون يريدون السيطرة على الشعب بسلطان الدين الطقسي… لهذا سارت الجماهير الغفيرة وراء يسوع، فإغتاظ منه قادة الدين… وكانت نتيجة الحسد… الصليب.
نعم! لقد اهتم الرب يسوع بالجوهر أكثر من المظهر… أما الفريسيون فكانوا يهتمون بنقاوة الظاهر دون الداخل ولذلك قال لهم. «ويلٌ لكُمْ أيُّها الكتبةُ والفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ! لأنَّكُمْ تُشبِهونَ قُبورًا مُبَيَّضَةً تظهَرُ مِنْ خارِجٍ جَميلَةً، وهي مِنْ داخِلٍ مَملوءَةٌ عِظامَ أمواتٍ وكُلَّ نَجاسَةٍ»(متى 23: 27).
من أسف هذه الجماعة المتدينة المتمسكة والمتشدقة بحرفية الوصايا هي التي دقت المسمار الأول في مأساة الصليب، ولم يختلف اليوم عن الأمس فما أكثر الذين يصلبون المسيح بتزمتهم وتعصبهم وفريسيتهم، ولأمثال هؤلاء يقول الرب:» ويلٌ لكُمْ أيُّها الكتبةُ والفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ! لأنَّكُمْ تُعَشِّرونَ النَّعنَعَ والشِّبِثَّ والكَمّونَ، وترَكتُمْ أثقَلَ النّاموسِ: الحَقَّ والرَّحمَةَ والإيمانَ. كانَ يَنبَغي أنْ تعمَلوا هذِهِ ولا تترُكوا تِلكَ»(مت23: 23).
ثانيًا: خطية المصالح التي تتصالح ضد الصالح
الدراس لكلمة الله يرى أن اسم الفريسيين يأتي مرتبطًا بإسم الصدوقين في مناسبات كثيرة، للدرجة التي فيها يتخيل البعض أنهم على علاقة وثيقة ووطيدة معًا ويوجد توافق تام بينهما، إنما العكس هو الصحيح، فلقد كان الصديقيون على خلاف دائم وتصادم مستمر مع الفريسيين.
ففي الوقت الذي كان فيه الفريسيون يدققون في تنفيذ صغائر الأمور في الناموس لدرجة التزمت والتعصب البغيض، كان الصديقيون يسخرون منهم.
كان الفريسيون يتكلون على سمعتهم الدينية، وكان الصديقيون يعتمدون على مكانتهم الاجتماعية المرموقة، الشيء الوحيد الذي جمع بينهما هو العداء السافر منهما على الرب يسوع، والتآمر ضده، ومحاولة اصيطاده بأي وسيلة، وأخيرًا اشتركوا معًا في الشهادة ضده.
وأسفاه عندما يجمع الشيطان قلوب الأعداء المتخاصمين لتتآلف معًا في تعاون خبيث لتحقيق أسوأ المقاصد أو كما يقولون « المصالح تتصالح» لم يكن الخلاف الديني هو سبب عداء الصدوقيين للمسيح وإنما الشيء الذي أثار الصدوقيين هو عندما إقترب من مكاسبهم المادية، أو كما يقال عندما لمس حافظة نقودهم، وهاجم سلطانهم وإستغلالهم للدين، عندما طرد من الهيكل الصيارفة، وباعة الحمام، وصاح صيحته الشهيرة «بَيتي بَيتَ الصَّلاةِ يُدعَى. وأنتُمْ جَعَلتُموهُ مَغارَةَ لُصوصٍ!» (لوقا 19: 46).
لقد كان الهيكل هو مورد رزقهم، ويجمع منه الكهنة ورؤساء الكهنة ثروتهم، ويستغلون الناس بأسلوب بغيض.
وهنا ندرك أن الصدوقيين ثاروا على الرب يسوع عندما تعرض لمنطقة نفوذهم وإستغلالهم.
وأسفاه! لقد أخذت جماعة الصدوقيين مكان الصدارة في مأساة الصليب، فهم الذين اتفقوا مع يهوذا على تسليمه، لأن رؤساء الكهنة كانوا من الصدوقيين، وهم الذي جاءوا للقبض على يسوع، وهم الذين كانوا يطلبون شهادة زور عليه، وهم الذين اشتركوا مع الفريسيين في محاكمتة أمام مجمع السنهدريم، وهم الذين دفعوه إلى بيلاطس الوالي، وهم الذين حرضوا الجموع أن ينادوا بإطلاق باراباس وبصلب يسوع، والأغرب من كل هذا وذاك أن رؤساء الكهنة وهم صدوقيون كانوا واقفين بجوار الصليب يجدفون على يسوع ويستهزئون به.
كل هذا لأن يسوع هدد نفوذهم، وكشف استغلالهم، وإقترب من منابع ثروتهم.
ثالثًا: خطية الإشاعات الكاذبة والعواطف المتقلبة
من الأسف ترسم ريشة الوحي المقدس جماهير غفيرة من الشعب اليهودي في مأساة الصليب، الشعب الذي أحبه يسوع وتحنن عليه، وكان يجول بينهم يصنع خيرًا ويشفي مرضاهم… كنت أتخيل أن الشعب سيأخذ موقف الدفاع عنه… كنت أتصور عندما يسأله بيلاطس… ماذا أفعل بيسوع؟! سيهتفون: أطلقه… أطلقه، ولكن من أسف كانوا يصرخون: اصلبه… اصلبه، وعندما خيّرهم مَنْ في العيد يطلقه لهم يسوع أم باراباس؟! كنت أظن أنهم سيطلبون الإفراج عن يسوع، لكنهم من أسف طالبوا بإطلاق سراح باراباس وصلب يسوع.
ماذا حدث لهذه الجماهير؟ أليست هذه الجماهير هي التي كانت تتزاحم حول يسوع، وكلها إعجاب بمعجزاته الباهرة؟! وتعاليمه الساميه؟، وأرادت يومًا أن تختطفه لتجعله ملكًا؟ وقبل الصليب بأيام معدودة كانت تهتف قائلة « أوصَنّا مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبِّ!»(متى 21: 9).
ماذا حدث… كيف تحولت هذه الجموع… من قلوب تفيض بالحب والتبجيل والإكرام إلى حناجر تطالب بالجحود والنكران والإعدام؟
في يقيني أن الجهل كان وراء إنسياق الجماهير في تأييد الكهنة والكتبة والفريسيين في المطالبة بصلب المسيح فمكتوب «لو عَرَفوا لَما صَلَبوا رَبَّ المَجدِ» (1كورنثوس 2: 8). ولهذا صلى المسيح على الصليب قائلًا: «يا أبَتاهُ، اغفِرْ لهُمْ، لأنَّهُمْ لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ» (لوقا 23: 34).
فلا عجب أن قال بطرس للشعب اليهودي في إحدي عظاته عن صلبهم للمسيح «أنا أعلَمُ أنَّكُمْ بجَهالَةٍ عَمِلتُمْ، «(أعمال 3: 17).
نعم! خطية الجهل أهلكت كثيرين كما قال النبي « هَلكَ شَعبي مِنْ عَدَمِ المَعرِفَةِ «(هو4: 6). ما أكثر الذين لهم نيات طيبة لكنهم يجهلون الحقائق ويقعون في أخطاء قاتلة… وقديمًا قال أحدهم « إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة» والجهل هو الذي يقود إلى التعصب الأعمي، فيحكم حكمًا خاطئًا على الناس دون مناقشة ومعرفة… لقد أشاع الكهنة والفريسيون أن يسوع ينادي بمبادىء مخالفة للناموس، وأنه حسب الناموس يجب أن يموت، وانتقل الخبر من شخص إلى آخر وشاع الأمر وتحمس الناس ضد يسوع ونادوا بصلبه، ولم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا ماذا فعل أو قال مخالفًا للناموس؟ ومن رآه أو سمعه؟ وهل حوكم محاكمة عادلة أمام مجمع السنهدريم؟!
ما أكثر الذين نصلبهم بإشاعاتنا أو بتصديقنا لإشاعات الآخرين عليهم، ونحكم عليهم وندينهم دون أن نعطيهم فرصة ليدافعوا عن أنفسهم، بل حتى دون أن نعطي أنفسنا فرصة للتحقق من صحة ما يقال عنهم.
تخيل أحدهم أنه كان موجودًا ساعة الصليب وأمسك بواحد من الجماهير التي كانت تهتف.. اصلبه… اصلبه، وسأله ماذا فعل يسوع من جرم حتى تنادي بصلبه؟ فأجابه: أنا لا أعلم.. لكن رئيس الكهنة يقول أنه فاعل شر.. وأنا أتبع ما يقوله الرؤساء.. إن هذه هي مسؤوليتهم وليست مسؤوليتي.
نعم نحتاج أن نتعلم من قصة الصليب أن نحذر من الإنقياد وراء الإشاعات الكاذبة المغرضة، وأن لا نحكم على أمر قبل دراسته دراسة متأنية مستفيضة من كافة الجوانب، حتى لا نصدر أحكامًا باطلة وظالمة، وعلينا أن نتحلى بقوة الثبات في جانب الحق حتى لو وقف الجميع ضدنا، كما وقف أثناسيوس بصلابة وشهامة وبسالة ضد هرطقة آريوس وعندما قيل له: العالم ضدك يا اثناسيوس، عندئذ أجاب: وأنا ضد العالم.
ويبقى السؤال هل يختلف اليوم عن الأمس؟! أم كما بالأمس كذلك اليوم؟! فلو تجسد المسيح في عصرنا ألا نتخذ نحن نفس المواقف التي نلوم عليها اليوم الذين صلبوه؟! هل يعيد التاريخ نفسه فينا وبنا… هل؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى