الإصلاح الإنجيلي

تحديات معاصرة تدعو إلى إصلاحٍ إنجيلي

الهدى 1260 – 1263                                                                                                    سبتمبر – ديسمبر 2024

اعتدتُ منذ طفولتي الاحتفال مرَّتين في شهر أكتوبر من كلِّ سنة. في مدارسنا نحصل على إجازةً في السَّادس من أكتوبر كلَّ عامٍ للاحتفال بنصر أكتوبر المجيد، وبعدها بأسبوع، وبناءً على قرارٍ خاصٍّ منِّي، كنت أعطي لنفسي إجازة أخرى لأحتفل مع أسرتي بعيد ميلادي. إلَّا أنَّ الرَّبَّ يشاء أن يضمَّ إلى هذين الاحتفالين ذكرى أخرى مجيدة تعرَّفتُ عليها عندما بدأت دراستي لحركة الإصلاح. فالعالم الإنجيليُّ يحتفل سنويًّا كلَّ 31 أكتوبر بذكرى الإصلاح، اليوم الذي علَّق فيه مارتن لوثر الاحتجاجات الخمسة والتِّسعين على باب كاتدرائيَّة فيتنبرج -ألمانيا.

وكما أنَّ لكلِّ حركةٍ شعارًا، فللإصلاح الإنجيليِّ عديدٌ من الشِّعارات التي من الممكن أن تُعبِّر عنه، أحد تلك الشِّعارات هو «ecclesia reformata, semper reformanda» ما معناه «الكنيسة مُصلَحة، ومستمرَّة في الإصلاح».[1] وقد استُخدِم هذا الشِّعار كثيرًا في الأوقات المعاصرة، وأغلب مَن استخدموه أساؤوا استخدامه. في الآونة الأخيرة نادى كثيرون بإصلاح الإصلاح، راغبين في تغيير وتعديل كثيرٍ من بنود الإصلاح، ظنًّا منهم أنَّها لا تواكب العصر، وأنَّها تجعل الأشخاص يرفضون الإيمان المسيحيَّ.

هل تحتاج الكنيسة اليوم إلى استعادةِ الإصلاح أم إلى إصلاحٍ مختلفٍ؟ بمعنى، هل ما تحتاجه الكنيسة اليوم هو إعادة إحياء ركائز الإصلاح السَّابق نفسها؟ أم تغيير هذا الإصلاح بإصلاحٍ جديدٍ يتناسب مع الأفكار اللِّيبراليَّة والتَّوجُّهات الإنسانيَّة الحديثة؟

سأتناول في هذا المقال ثلاثة أمور أو ركائز أساسيَّة بُنيَ عليها الإصلاح الإنجيليُّ في الماضي، وهي ما نحتاج إلى إحيائه اليوم لكي تكون الكنيسة مُصلَحة ومستمرَّة في الإصلاح.

1. مركزيَّة الكتاب المقدَّس

مينا شابٌّ جميل كادح، يسعى يوميًّا لكسب قوته من خلال تأجير سيَّارته وقيادتها لمن يحتاجها. في أثناء سفري إلى إحدى المحافظات استعنتُ بمينا وبسيَّارته، وبعد وقتٍ قليلٍ تعرَّفنا بعضُنا ببعضٍ، وعرف مينا أنَّني إنجيليُّ الإيمان، وقد كان يعاني من عديد من المشكلات مع الكنيسة الإنجيليَّة (التي لم يزُرها إلَّا مرَّة واحدة)، إلَّا أنَّه وسط كلِّ تلك المآخِذ قال إنَّه يُحسَب لكم أنَّكم تحبُّون وتفسِّرون الكتاب المقدَّس، وإنَّه له الأولويَّة في اجتماعاتكم. وأنا أتمنَّى أن يكون مينا على صواب!

إن أردت أن تعرف ما هي علاقة المُصلحين بالكتاب المقدَّس يجب أن تبدأ قبل مارتن لوثر بكثير، تبدأ مع ويكلف وهسّ.[2]

جون ويكلف (1330-1384): عاش مُطارَدًا من بابا الكنيسة الكاثوليكيَّة آنذاك، لأنَّه عزم على ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللُّغة الإنجليزيَّة، الأمر الذي اعتبره البابا هرطقةً، وأعلن بسبب هذا عصيانَ ويكلف وكونه مُهرطِقًا. قال ويكلف: «إذا قرأ شعب إنجلترا الكتاب المقدَّس بأنفسهم سيكون هذا هو أفضل ضمان لهم لاتِّباع المسيح». وبسبب مثل تلك الأقوال؛ وتعاليمه وخدمته في ترجمة الكتاب المقدَّس، أصدرت الكنيسة أمرًا بعد موت ويكلف بما يقرب من نصف قرن بأن تُخرَج عظامه من قبره وتُحرَق!

جون هسّ (1369-1415): المُصلحُ التشيكيُّ الذي قال عنه لاحقًا مارتن لوثر: «لو كان هسّ مُهرطقًا فلا يُوجَد شخصٌ تحت الشَّمس يمكن أن يُعتبَر مسيحيًّا». في أثناء محاكمة هسّ أمام المجلس الذي عُيِّن من الكنيسة اتُّهم بالهرطقة وطُلِب منه التَّراجع عن تعاليمه، ردَّ هسّ: «أنا على أتمِّ استعداد لأن أتراجع عن تعاليمي إن أثبتُّم لي من الكتاب المقدَّس أنَّها خطأٌ»، وعندما رفضوا أن يناقشوه من الكتاب المقدَّس طلبوا منه فقط إمَّا أن يعلن تخلِّيه عن تعاليمه، وإمَّا سَيُعدَم، فردَّ وقال: «من الأفضل لي أن يُعلَّق حجر الرَّحى حول عُنقي وأُلقَى في البحر، قبل أن أُنكِر الحقَّ الإلهيَّ»، وبسبب تمسُّكه بالحقِّ الإلهيِّ المُعلَن في الكلمة المُقدَّسة، مات جون هسّ حرقًا.

وفي عصر الإصلاح الإنجيليِّ كانت مركزيَّة الكتاب المقدَّس أحدَ الرَّكائز التي تميِّز مَن ينتمون إلى الكنيسة البروتستانتيَّة، على عكس كنيسة روما في ذلك الوقت التي أقرَّت أنَّ كلمة الله أكبر من أن تُوجَد فقط في كتابٍ، وأنَّ كلمة الله موجودة في هيكلٍ ثلاثيٍّ: 1. الكتاب المقدَّس، 2. التَّقليد، 3. السُّلطة التَّعليميَّة (مُمثَّلة في بابا الكنيسة).[3] ذلك ما اعترضت عليه حركة الإصلاح رافعة شعار Sola scriptura أو الكتاب المقدَّس وحده. ووحده هنا لا تعني بمفرده (فكلُّ المُصلِحين بلا استثناء قد قرأوا وتعلَّموا من كتب آباء الكنيسة، لك فقط أن تقرأ للمصلح جون كالفن لترى الكمَّ الهائل من الاقتباسات التي اقتبسها من كتب الآباء)، ولكنَّها تعني أنَّه له وحده السُّلطة العُليا، ولا يمكن أن يُوضَع بجانبه أيُّ عنصرٍ آخر.

ونجد في البند 8 من الفصل الأوَّل من إقرار إيمان وستمنستر -سنتكلَّم عنه في النُّقطة التَّالية- الآتي:

«إنَّ العهد القديم باللُّغة العبريَّة (التي كانت اللُّغة الأصليَّة لشعب الله القديم)، والعهد الجديد باللُّغة اليونانيَّة (التي كانت في وقت كتابته الأكثر شُهرة بوجهٍ عامٍّ بين الشُّعوب)، لكونهما موحًى بهما من الله مباشرةً، وأيضًا بواسطة رعايته وعنايته الفريدة، حُفظَت نقيَّة في كلِّ العصور. لذلك، فهي أصليَّة، حتَّى إنَّه في كلِّ الخلافات الدِّينيَّة، ينبغي أن ترجع الكنيسة في النِّهاية إليهما».[4]

فقد آمن لاهوتيُّو وستمنستر أنَّ الكتاب المقدَّس لا خطأ فيه (حُفِظَ نقيًّا)، وأنَّه المرجع النِّهائيُّ للكنيسة. وهذا ما نجده أيضًا في البند 1 من الفصل نفسه: «إنَّ سلطان الكتاب المقدَّس، الذي لأجله ينبغي أن يُؤمَن به ويُطَاع، لا يعتمد على شهادة أيِّ إنسانٍ، أو كنيسةٍ، ولكن كلِّيًّا على الله مؤلِّف الكتاب: لذلك يجب أن يُقبَل، لأنَّه كلمة الله».

آمن المصلحون أنَّ الكتاب المقدَّس كتابٌ فريدٌ، كتابٌ منزَّهٌ عن كلِّ خطأ، له وحده السُّلطان على المؤمنين، ومن دونه لا نستطيع أن نعرف الله. وعن هذه النُّقطة الأخيرة يقول جون كالفن: «يجب أن نَفِدَ إلى الكلمة حيث الله موصوف بصدق… وإن جنحنا عن الكلمة، حتَّى لو سعينا باستعجالٍ جاهدٍ، فلن نبلغ الهدف لأنَّنا خرجنا عن المسار».[5]

وأمام هذا الإرث الإنجيليِّ الضَّخم الخاصِّ بكفاية وعصمة ومركزيَّة الكتاب المقدَّس نجد أنفسنا اليوم أمام تحدٍّ، تحدٍّ يدعونا إلى استرجاع روح الإصلاح مرَّة أخرى في ما يختصُّ بكلمة الله.

كلمة الله التي تُهاجَم يوميًّا على كثيرٍ من المنابر الإنجيليَّة حول العالم كلِّه من التَّيَّارات اللِّيبراليَّة التي تُشكِّك في عصمة الكتاب المقدَّس وفي وحيه.

كلمة الله التي بدلًا من كتابة آلاف الصَّفحات كتفسيرٍ لها، محاولين أن نُخرِج منها الجُدُد والعُتَقاء، نجد اليوم -وللأسف حتَّى في المكتبات الإنجيليَّة لبيع الكتب- كثيرًا من الكتب التي تدَّعي أنَّ الكتاب المقدَّس غير معصومٍ من الخطأ، وأنَّه مليء بالأساطير، وأنَّ قصصه ليست تاريخيَّة، والمعجزات التي ترد فيه ليست حقيقيَّة.

كلمة الله التي بدلًا من أن تُشرَح باتِّضاعٍ على منابر كلِّيَّات اللَّاهوت، أصبح من المألوف اليوم أن تجد كلِّيَّةَ لاهوتٍ تتباهى بأكاديميَّتها وهي تنقُد الكتاب المقدَّس كأيِّ كتابٍ آخر، وتتَّهمه بعدم الصِّدق في أحداثه ومحتواه. فنرى إحدى كلِّيَّات اللَّاهوت في الغرب تتباهى على أحد مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بأنَّها تخلَّصت من قيود الأصوليَّة وتدعم التَّحوُّل الجنسيَّ والشُّذوذ كحقٍّ للإنسان. وكلِّيَّة أخرى تصلِّي على إحدى صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ لطُلَّابها المصريِّين (الذين يدرسون بالخارج) لكي يرجعوا مصر حاملين معهم اللَّاهوت الأنثويَّ الذي تعلَّموه في كلِّيَّتهم.

كلمة الله التي استُبدِل بها اليوم وصفات سريعة على المنابر يوم الأحد، وصفات التَّنمية البشريَّة والعلوم الاجتماعيَّة، وهؤلاء مَن يقومون بهذا يدَّعون أنَّ كلمة الله أصبحت قديمة وأنَّ شعب الله يحتاج إلى سواها لكي ينمو.

كلمة الله التي أصبح من السَّهل اليوم أن تسمع واعظًا مشهورًا على إحدى القنوات الفضائيَّة المسيحيَّة يقول إنَّ متَّى أخطأ في أثناء كتابة إنجيله وهو يذكر بعض الآيات.

أمام هذا الفرق الشَّاسع بين حال الإصلاح الإنجيليِّ اليوم، وما علَّم وآمَن به المصلحون الأوائل، يجب أن ندعو إلى استعادة الإصلاح مرَّة أخرى، يجب أن نتضرَّع إلى الرَّبِّ لكي يهبنا محبَّةَ كلمته، وتقديرَ أنفاسه، واحترامَ وحيه مرَّةً أخرى كما فعل المُصلحون الأوائل.

2. أهمِّيَّة إقرارات وقوانين واعترافات الإيمان

ربَّما تجد أنَّه من الغريب بعد هذا الشَّرح المُطوَّل عن «مركزيَّة الكتاب المقدَّس» أن تكون النُّقطة التَّالية هي «أهمِّيَّة إقرارات وقوانين واعترافات الإيمان». قد يُظهِر هذا وكأنَّه تضادٌّ، فهل يؤمن الإنجيليُّون بإقرارات الإيمان إلى جانب الكتاب المقدَّس؟ وكيف يمكن مُصالحة هذا مع الـ Sola Scriptura أو الكتاب المقدَّس وحده؟

يشرح كيث ماثيسون أنَّ استخدام المُصلحين -ونحن اليوم- لإقرارات الإيمان ليس منحدرًا زلقًا نحو الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة، فالكنيسة الإنجيليَّة لا تستخدم إقرارات الإيمان على كونها وحيًّا إلهيًّا، ولا تضعها بجانب كلمة الله وتساويها بها، لكنَّها تستخدمها ككلمات بشريَّة غير معصومة، مهمَّة لفهم العقائد الكتابيَّة، ولتنظيم إيمان الكنائس.[6]

ومنذ بداية عصر الإصلاح نجد المؤمنين يهتمُّون بوضع إيمانهم في شكلٍ نظاميٍّ، لكي يعبِّروا به عن إيمانهم في العقائد الكتابيَّة المختلفة. من أهمِّ إقرارات واعترافات الإيمان المُصلَحة ما يلي:

* دليل أسئلة وأجوبة هايدلبرج (1562): هو واحد من أقدم إقرارات الإيمان المُصلحة الكلاسيكيَّة، وهو على شكل أسئلة وأجوبة تتناول الرَّكائز الأساسيَّة للإيمان المسيحيِّ بحسب الفكر المُصلَح.

* إقرار الإيمان البلجيكيُّ (1618-1619): بدأتْ كتابته سنة 1561 -قبل دليل أسئلة وأجوبة هايدلبرج- لكنَّه ظهر بشكله النِّهائيِّ أثناء انعقاد سنودس دورت. وهو إقرار إيمان واسع يشرح كثيرًا من العقائد المسيحيَّة، ويهدف إلى تأصيل فكرة أن الإصلاح هو نفسه إيمان الكنيسة عبر التَّاريخ وليس بدعةً جديدةً.

* إقرارات سنودس دورت (1618-1619): وهو مع دليل أسئلة وأجوبة هايدلبرج وأيضًا إقرار الإيمان البلجيكيِّ يشكِّلون ما يُسمَّى بـ The Three Forms of Unity. على خلاف السَّابقَين. فإقرار إيمان سنودس دورت يهدف إلى شرح العقيدة الكتابيَّة بخصوص الخلاص والتَّعيين المُسبَق، وتفنيد العقيدة الأرمينيَّة بخصوص ذلك.

* إقرار إيمان وستمنستر (1646): وهو الوثيقة الأهمُّ والأكبر والأكثر تفصيلًا وإيضاحًا من بين إقرارات الإيمان المُصلحة. يتكوَّن من 33 فصلًا يغطُّون كلَّ عقائد الكتاب المقدَّس من وجهة النَّظر المُصلحة.

هذه ليست كلَّ إقرارات الإيمان، فيمكن إضافة اعتراف الإيمان المعمدانيِّ 1689، وحتَّى بيانات صغيرة كبيان شيكاغو عن عصمة الكتاب المقدَّس لسنة 1978، بجانب قوانين الإيمان المُعترَف بها من كلِّ الكنائس كقانون الإيمان النِّيقويِّ وقانون إيمان الرُّسل.

ولكن ما الحال اليوم؟ هل ما زالت الكنيسة البروتستانتيَّة تستخدم هذه الإقرارات؟ هل ما زالت تقرأها؟ هل يعرف اليوم شعبُ كنائسنا شيئًا عن هايدلبرج أو دورت؟ هل يعرفون ولو بالاسم فقط أنَّ هناك اعترافَ إيمانٍ يُدعى وستمنستر؟

إنَّ اللُّغة السَّائدة اليوم في وسَطنا الإنجيليِّ هي لُغة نبذ العقيدة، حركات مثل Jesus hates religion أو يسوع يكره الدِّين سبَّبت صدامًا بين الإنجيليِّين اليوم وكلِّ ما يُسمَّى عقيدة.

أصبح من المألوف اليوم أن نسمع أحد الوعَّاظ يفرِّق بين الإيمان والعقيدة، وأنَّ الإيمان المسيحيَّ يختلف عن العقيدة المسيحيَّة!

بكلِّ بساطة نسمع اليوم بصفتنا خدَّامًا عشرات المرَّات كليشيهات مثل «بطَّلنا وعظ»، «عايزين عملي كفاية لاهوت»… بعُدتْ الكنيسة عن التَّعليم والعقيدة واللَّاهوت، وتركت كلَّ هذا لمباني الكلِّيَّات، وربَّما تخصَّصت هي في التَّأمُّلات البسيطة وكثيرٍ من التَّنمية البشريَّة.

في أثناء محاولتي لإيجاد شيء جيِّد لمشاهدته على القنوات الفضائيَّة، لاحظتُ إذاعة احتفال لأحد الكنائس يقوم فيها الرَّاعي بضمِّ أعضاء جدد إلى كنيسته المحلِّيَّة. مبارك! شيء جميل أن يضمَّ الربُّ إلى كنيسته المحلِّيَّة مؤمنين كلَّ يوم. ولكن في كلمته لهؤلاء الأعضاء الجدد قال لهم راعيهم وهو القسُّ المسؤول عن التَّعليم في هذه الكنيسة: «أريد أن أقول لكم شيئًا، أنا لا أتَّفق مع كلِّ شيءٍ في إقرارات إيمان الكنيسة… ومن ضمن الأشياء الخاطئة عقيدة التَّعيين المُسبق». إذًا النَّتيجة، لدينا كنيسة أعضاؤها وراعيها لا يؤمنون بإقرارات إيمان هذه الكنيسة، لكنَّهم يخدمون فيها ولا يحترمون دستورها!

نعم، نحتاج اليوم إلى إعادة الإصلاح مرَّة أخرى، نحتاج أن نتعلَّم من جديد من المُصلحين الأوائل، ومن كلمة الله قبل الكلِّ عن أهمِّيَّة العقيدة، ودور إقرارات واعترافات الإيمان في الكنيسة. أظنُّ أنَّ واحدةً من أكبر التَّحدِّيات اليوم التي تجعلنا ندعو إلى إعادة الإصلاح مرَّة أخرى هو إهمال إقرارات الإيمان المُصلحة ونبذ كلِّ ما يرتبط من بعيد أو قريب بالعقيدة.

3. عقيدة التَّبرير بالإيمان وحده

ما من عقيدة أساسيَّة ومركزيَّة في اللَّاهوت أو الفكر الإنجيليِّ مثل عقيدة التَّبرير بالإيمان وحده. وهي العقيدة التي قال عنها مارتن لوثر: «هذه العقيدة هي الرَّأس وحجر الزَّاوية، وهي وحدها من تَلِد كنيسة الله وتغذِّيها، ومن دونها لا يمكن لكنيسة الله أن توجد ساعة واحدة».[7] وبأكثر تفصيل قال أيضًا:

«إنَّ بند التَّبرير هو الرَّئيس والأمير والسَّيِّد والحاكم والقاضي في كلِّ أنواع العقائد، إنَّه يحفظ ويحكم كلَّ عقيدة الكنيسة ويرتفع بضميرنا أمام الله. مِن دون هذا البند يكون العالم موتًا تامًّا وظلامًا دامسًا. ما من ضلالة نراها حقيرة جدًّا وخرقاء جدًّا ومُبتذلة ومرفوضة من العقل البشريِّ، إلَّا وتكون قادرة على إغوائنا إذا كنَّا لا نعرف هذا البند ونتأمَّل فيه[8]

قام الإصلاح منذ نشأته على تعليم هذا الحقِّ، أنَّنا نتبرَّر بالإيمان بشخص المسيح وحده، وهذا التَّبرير هو إعلانٌ قضائيٌّ فيه يحسبنا الله أبرارًا، لا بسكب أو زرع أيِّ برٍّ داخليٍّ فينا -كما كانت كنيسة روما تُعلِّم- بل بإعلاننا وحسباننا أبرارًا.

ويعبِّر عن ذلك اعتراف الإيمان المعمدانيُّ (1689) فيقول: «الذين يدعوهم الله دعوةً فاعلةً، هو يبرِّرهم أيضًا، لا بسكب البرِّ فيهم، بل بأن يعفو عن خطاياهم، ويحسبهم أبرارًا… ومن ثمَّ، فإنَّ الإيمان الذي يقبل المسيح ويستريح به وببرِّه، هو الأداة الوحيدة للتَّبرير.. تبريرهم (أي المختارين) هو نعمة مجَّانيَّة». [9]

وبحسب البند 2 من الفصل 11 في إقرار إيمان وستمنستر: «هكذا قبول المسيح، والاتِّكال عليه، وعلى برِّه هو الوسيلة الوحيدة للتَّبرير».

ببساطة، لا يمكن أن تكون إنجيليًّا وأنت لا تؤمن أنَّ التَّبرير هو عمل نعمة الله ويحدث من خلال الإيمان -الثِّقة والاتِّكال الكامل- بالربِّ يسوع، وليس بأعمالنا نحن سواء كانت أعمالًا صالحةً أو غير ذلك.

واليوم نجد للأسف على منابرنا مئات الأصوات التي تنادي بعكس ذلك! تنادي بأنَّ الإيمان الواعي بالمسيح غير أساسيٍّ للخلاص، وأنَّه من الممكن أن يخلُص شخصٌ وهو لا يؤمن بالمسيح -أو يعتبره مجرَّد نبيٍّ- لمجرَّد أنَّه عاش حياةً تقيَّةً.

نقرأ اليوم في الكتب ما يُسمَّى باللاهوت المُستحدَث لبولس New Perspective of Paul ومحاولة تغيير كلمة «الإيمان» بكلمة «الأمانة» في الكتاب المقدَّس.

اليوم بكلِّ بساطة ينادي الصُّوفيُّون بأنَّ لله مشيئة أن يُخلِّص بعض الصُّوفيِّين في كلِّ العالم من دون التَّقيُّد بأيَّة شرائع ولا معرفة بالمسيح، يكفيهم أن يحيوا حياة المحبَّة الحُرَّة لأنَّ المحبَّة دائمًا هي ما تربح Love Wins.

اليوم يمكنك أن تقرأ تفسيرًا لرسالة رومية من قسٍّ إنجيليٍّ أو دكتور في اللَّاهوت يقول فيه إنَّ حسبان البرِّ ليست عقيدة كتابيَّة، وإنَّ التَّبرير ليس مفهومًا قضائيًّا، وإنَّ ما علَّمه المُصلحون كان خطأً جسيمًا في فهم لاهوت الخلاص.

اليوم يمكن أن تقرأ تعليقًا على الفايسبوك لأحد الشُّيوخ الإنجيليِّين الأفاضل فيه يُعلِن أنَّ الكرازة كانت فقط أيَّام الرُّسل في وقت تأسيس الكنيسة، كلُّ ما نحتاجه اليوم هو أن نؤثِّر في النَّاس على مستوى المجتمع، لا أن نكرز بإلهٍ يخلِّص من الجحيم، ولا بخطيَّة تؤثِّر في الكيان البشريِّ.

اليوم يمكن أن تذهب إلى حدثٍ كبيرٍ يحدث سنويًّا يحضره الآلاف من أولادنا من الكنائس الإنجيليَّة المختلفة، لترى القسَّ ذا الكاريزما يعظ بكلِّ حماسةٍ ونشاطٍ ويقول: «لو المسيح مات بدالك ده يبقى ظلم… مافيش حاجة اسمها بدليَّة في الصَّليب، ده تعليم غلط».

فهل نحتاج إلى إصلاح؟ نعم، بكلِّ تأكيد، بملء الفم نحتاج إلى استعادة روح الإصلاح المفقودة. نحتاج مرَّة أخرى إلى لوثر لكي يدقَّ آلاف الاعتراضات على أبواب كنائسنا ويعلن أنَّ الخلاص بالمسيح وحده، وأنَّ التَّبرير لن يتمَّ أبدًا من دون الإيمان بالرَّبِّ المُخلِّص والاتِّكال الكامل عليه.

نحتاج إلى خدَّام مثل ويكلف وهسّ، عندهم استعداد لأن يقدِّموا أجسادهم كلَّ يوم ذبيحةً، مستعدِّين أن يُوصَفوا يوميًّا بأنَّهم أصوليُّون ومتعسِّفون، فقط لأنَّهم يعلنون أنَّ المسيحيَّة الكتابيَّة تنادي بحصريَّة الخلاص بالإيمان بالمسيح.

هل تحوَّل النُّور إلى ظلامٍ دامسٍ؟

إن كنتَ قد قرأت كلَّ هذه المقالة، وما زلت تتذكَّر بدايتها، وهو الاحتفال بذكرى الإصلاح في 31 من أكتوبر كلَّ عامٍ، ربَّما تتساءل الآن: «أيُّ احتفالٍ هذا… فقد أصبحت الذِّكرى مجرَّد حبرٍ على ورق».

لا، لقد حاولتُ أن أظهِر كمَّ الاحتياج إلى استعادة روح الإصلاح مرَّة أخرى، لكنَّني لا أتجرَّأ أن أقول إنَّه لا يوجد شاهدٌ لله أمين ما يزال موجودًا، فهناك آلاف الرُّكب التي ما تزال أمينة لكلمة الله ولمجده، هناك آلاف القسوس والكنائس والخدمات في كلِّ العالم مَن يعلِّموننا يوميًّا كلمة الله من دون غشٍّ، ويعيشون الإصلاح ولاهوته في كنائسهم وبيوتهم.

ولكن مع مرور الوقت، للأسف فقدنا هويَّتنا، أصبح أغلبنا إنجيليًّا فقط لأنَّ قسِّيس الكنيسة لا يرتدي ملابس خاصَّة، أو لأنَّنا في العبادة نرفع أيادينا.

هويَّتنا الإنجيليَّة متأصِّلة في كلمة الله الحيَّة المعصومة من الخطأ، مشهودٌ لها ومُعبَّرٌ عنها في إقرارات إيماننا المُصلحة، مختومة بشعار Sola Fide أو بالإيمان وحده.

أخي في المسيح، نعم تحتاج كنيستنا إلى إصلاح، لكنَّها لا تحتاج إلى اختراعِ إصلاحٍ جديدٍ، هي لا تحتاج إلى التَّطلُّع للأمام والبحث عن جديد، هي تحتاج إلى أن تنبش إرث الماضي لتكتشف كنوز الإصلاح الإنجيليِّ الثَّريَّة والنَّافعة لكلِّ جيلٍ.

الحواشي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يشرح روبرت جودفري أنَّ هذا الشعار مأخوذٌ من أحد كتب التأمُّلات للكاتب Jodocus van Lodenstein في عام 1674.
روبرت جودفري، فهم استمراريَّة الإصلاح في قرينتها، خدمات ليجونير، 11 أكتوبر 2024.

https://ar.ligonier.org/tabletalk/semper-reformanda-in-its-historical-context/

[2] الجزء الخاصُّ بويكلف وهس مأخوذ من قراءات كثيرة، ولكن يمكن الرجوع إلى كتاب أبطال الإيمان، ريتشارد م. هانيولا، الرابطة الإنجيليَّة في الشرق الأوسط MERF.

[3] مايكل كروجر، الكتاب المقدَّس وحده، مقال على موقع خدمات ليجونير، بتاريخ 11 أكتوبر 2024.

https://ar.ligonier.org/tabletalk/scripture-alone/

[4] إقرار إيمان وستمنستر، ترجمة خدمات الألفيَّة الثالثة، 2016.

https://arabic.thirdmill.org/mission/ArabicWCFScriptureProofs.pdf

[5] جون كالفن، أُسس الدين المسيحي، المجلد الأول، دار منهل الحياة، 2017. ص81.

[6] كيث ماثيسون، خمسة أمور ينبغي عليك أن تعرفها عن قوانين الإيمان، خدمات ليجونير، بتاريخ 11 أكتوبر 2024.

https://ar.ligonier.org/articles/5-things-creeds/

[7] آر. سي. سبرول، ما هو لاهوت الإصلاح، 500Plus، 2021. ص 87.

[8] نفس المرجع السابق، ص 88.

[9] اعتراف الإيمان المعمدانيُّ، خدمة النشر المعمدانيَّة الأردنيَّة، 2023، ص 59.

جوزيف أنطون

*حاصل على ماجستير الدراسات الكتابية من كلية ناشيونال للاهوت، وماجستير اللاهوت من كلية نيوجنيفا.
* يخدم في مجال التعليم والتدريس في أكثر من كلية لاهوت بمصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى