العضوية المشيخية صمام الأمان وديمومة الإصلاح
الهدى 1236 أكتوبر 2021
ابتهجت كثيرًا وانفرجت أساريري عندما دُعيت إلى الكتابة في هذا الملف، فليس أبهج من اشتراك الحلم والأمل في مُداعبة السرائر! وأنا مُهتمٌ –مع كثيرين- بكنيستي وما كان من إصلاحها، وما يتحداها في واقعها، وما نأمل أن تُصلحه ليصفو لها ولنا وجه مُستقبلها. ولكن قفز إلى ذهني أيضًا –ولا أعلم لماذا- قصة زرقاء اليمامة، تلك الفتاة العَربية النجديّة، والتي قيل أنها كانت تُبصر الشَعَرةَ البيضاء في اللبنِ، وترى الشخصَ مِن على يوم وليلة. إن المُدقق في قصة زرقاء اليمامة يا صديقي يكتشف أن ميزتها الأساسية لم تكن قوة البَصر، بل البصيرة. فالبصيرة هي قوة الإدراك والفِطنة، إذ يروى عنها أنها حذرت قومها من شجر يسير، فلم يصدقوها وسخروا منها، فكانت الكارثة! تذكرت هذا إذ تذكرت كم تحدث وكتب أفاضل كثيرون في هذا الملف، شارحين، ناصحين، لكن على ما يبدو -وما يشي به واقعنا- أنهم لم يكونوا أكثر حظًا من زرقاء اليمامة!
فتعالى إذًا يا صديقي لنبدء من البداية، من القاعدة، من الجذر…
ما هي الكنيسة؟
«هي كنيسة الشعب، فالشعب هو القاعدة، الشعب هو الذي يختار القسوس، ومن الشعب ينتخب الشيوخ والشمامسة. لذلك سُميت الكنيسة مشيخية لأن النظام المشيخي هو نظام إدارتها. فالقسوس شيوخ معلمين، وشيوخ الكنيسة هم مدبرون يعاونون القسوس في تأدية مهام وظيفتهم.»([1]) هكذا نصّ دستور الكنيسة الإنجيليّة المشيخية في وصفه لماهية الكنيسة، واختصارًا لهذا التعريف يمكننا أن نسميها كنيسة الشعب أو كنيسة العضو.
يقول القسّ عيد صلاح في وصف تكوين الكنيسة الإنجيليّة: «الكنيسة الإنجيليّة هي كنيسة العضو، ومجموع الأعضاء يكوِّن الكنيسة، ومجموع الكنائس يكوِّن مجمعًا، ومجموع المجامع يكوِّن السنودس…»([2]) وهو ما يوضح –إضافةً لما جاء في الدستور- كيف يفهم الفكر المشيخي تكوين الكنيسة بالأساس، وكيف نفهم أساس الجماعة على أنه نواتها؛ وعليه فإن الحديث عن العضو والعضوية في إطار الحديث عن مُستقبل الإصلاح لهو أصل الموضوع وليس فَرعًا.
العضوية في النظام المشيخي
ينص دستور الكنيسة الإنجيليّة بمصر في مادته الثامنة بعد المائة على أن:« تتكون الكنيسة من أعضاء، ولكل عضو عمل معين حسب ما أخذه من مواهب الروح القدس. وعلى كل عضو أن يستخدم مواهبه بأمانة متعاونًا مع غيره، ليكون جسد المسيح مؤديًا رسالته علي أكمل وجه.» وفي المادةِ الثانيةِ والتسعين بعد المائة على أنه: «… تستمر العضوية قائمة وصحيحة طالما كان العضو مُتصلاً بالكنيسة، قائمًا بالتزاماته نحوها. وخاضعًا لدستور الكنيسة ونظامها.» ([3]) وهذا يُشير بشكل لا لبس فيه إلى سمتين رئيسيتين للعضو المشيخي، ألا وهما: فاعليته، والتزامه؛ إذا يؤكد الدستور على أنَّه للأعضاء دورًا هامًا، هو في أصله ما نُسميه عمل الكنيسة، وما يُقيد الأعضاء إلى بعضهم هو الالتزام بالدستور والنظام، والاتصال المتكامل بالجسد الواحد.
ويتقدم الدستور في مادة السادسة عشر بعد المائتين في شرحه للاجتماع الكنسيّ الإداريّ (الجمعية العموميّة) ليُزيح الستار كاشفًا عن جانبٍ من جوانب فاعلية العضو، إذ يُقر هذا الاجتماع بموافقة الأعضاء برامج الكنيسة وميزانيتها، ويراجع العمل، والتقارير الماليّة للعام المُنصرم. هذا الدور المزدوج المخول للأعضاء في التخطيط والمراقبة، يُرينا مدى قوة وفاعلية العضوية المشيخية في تقرير واقع وسياسة الكنيسة، ومُراجعة ومُحاسبة قياداتها، وهو ما يفرد له الدستور موادًا كثيرًا في اختيار القادة، وعزلهم، وكل ما إلى ذلك.
واقع العضوية المشيخيّة اليوم
المُدقق النظر، والمهموم بواقع الكنيسة اليوم يمكنه بيُسر أن يلتقط مُعاناة العضويّة المشيخيّة في كنائسنا اليوم، ويمكننا أن نُشير إلى جوانب ثلاث في هذا الأمر، وهي:
- ضُعف إقبَالٍ: يقول القسّ ثروت ثابت راصدًا تلك المشكلة: «من يُلاحظ بدقة ويرصد الأحداث بأمانة في العشرين عامًا الماضية، يجد أن هناك تراجُعًا واضحًا في عضوية الكنيسة الإنجيليّة مُقارنةً ببَدء عهدها، ومقارنةً بتزايُد عدد سكان مصر.» ([4]) ويَرجع هذا التراجع في الإقبال على العضوية في رأينا لعدة أسباب، على رأسها: اللاطائفية، وغياب اللون المشيخي المُمَيز في التعليم والعِبادة والكرازة تأثرًا بتياراتٍ مختلفةٍ، ما غاب معه الدافع للانتماء لهذا الكيان، الذي بات باهتًا.
- تَشرذمٌ وتَشتتٌ عقدي: يقول الراحل القسّ فايز فارس:
الكنائس اليوم تُعاني من عدم التزام أعضائها بنظامها، ومبادئها، وفرائضها، … في الكنيسة الواحدة تجد أصحاب العقائد المتباينة في موضوعات جوهرية، بل إننا أحيانًا نجد هذه الظاهرة في العضو نفسه! فنرى العضو الإنجيلي في جزء من عقيدته إنجيليًا كتابيًا، وفي جزء آخر خمسينيًا أو معمدانيًا، أو تقليديًا… وسبب هذه الظاهرة هو عدم تأصيل الفكر اللاهوتي في الكنيسة بصورة مُقنعة ومؤثرة..([5])
وبالتأكيد، فإن هذا المناخ ليس مناخًا مُشجعًا على الانتماء، والانتساب لكيان مُشتت الروابط، مُتشرذم الهُوية، مُتناقض الأفكار والدعاوى أحيانًا.
- تغييب إداريّ: تُعاني العضوية المشيخيّة أيضًا في هذه الأيام تغييبًا إداريًا -مُتعمَدًا- لدور الجمعية العموميّة، وتهميشًا مقصودًا؛ فبغرض تركيز السُلطة في أيدي المجالس، اتشح نفر من القساوسة بسلطويّة كهنوت قام الإصلاح في مواجهتها أساسًا! مُسقطين كل دورٍ للأعضاء في المُراقبة والتخطيط، وبات انعقاد الجمعية العموميّة غير مطروحٍ إلا قُبيل انتخابات فقدت حتى فكرتها الديموقراطيّة، فصارت موجهة في غالب الأحيان! كل هذا أفقد الأعضاء أحساسهم بالفاعلية والتأثير، على عكس ما نادى به النظام المشيخي في الأساس!
في حديثي مع الشباب حول العضويّة والانتماء، لا ينفكون يسألون ذات السؤال في كل مرةٍ: «ماذا أستفيد من عضوية الكنيسة؟!» وحين استفيض في الشرح والتفسير، أجد أمامي عبارة صادمة من كثرة صدقها، إذ يعلقون في أسفٍ: «على ما يبدو أن الأفكار مطروحة، والنصوص موجودة، لكن يظل التطبيق غائبًا!» وإلى أن يحضُر أو يُستحضر هذا التطبيق أظن أنهم سيغيبون وسيطول غيابهم!
الجمعية العمومية حجر الزاوية
الأمر أخطر وأبعد من مُجرد تشجيع على الانضمام لعضويّة الكنيسة، ولا بيت القصيد هو الترويج لذلك، لكن النظام المشيخيّ قد حمل في ذاته أسباب القوة، ومكمن الضعف، فكيف هذا؟
قام النظام المشيخي بالأساس على الفرد العضو، المتعلم، الواعي، المُنضبط؛ فلما اجتمع مجموع هؤلاء الأعضاء، ونظّم العلاقة بينهم دستورٌ واضحٌ مُفصلٌ، دارت كل الأدوار في تكاملٍ، وضمن هذا الدستور للعضو مُمارسة ديموقراطية في التخطيط والمُراقبة والانتخاب، تُنمي فيه مع الوقت المسئولية؛ فكانت تلك الحاضنة مَفرَخةً تلقائيةً للقيادات مُستقبلًا؛ تُفرِخ قيادات مُفرزة بطريقة ديموقراطية واعية، وإرادة حُرّة دون توجيه.
أما ما يجري اليوم من هدم وتقويض لحجر زاوية البُنيان المشيخيّ، من خلال الفت في عضد الجمعيّة العموميّة، والتكريس لسلطويّة فرديّة للمجالس الكنسيّة، وكهنوت سلطويّ للقساوسة، مع إهمالٍ للتعليم اللاهوتيّ والنظاميّ، وتغييب للمُمارسة الفاعلة، لهو اغتيال مُتعَمّد لمستقبل الإصلاح، وهو ما باتت إرهاصاته جليًّة للأعمى، في الفكر اللاهوتي، والبُنيان النظاميّ، والهيراركيّة الإداريّة للكنيسة المشيخيّة.
والمضطلع بشئون المجامع المشيخيّة اليوم يلمس مدى الغياب، والوَهن فكرًا ونظامًا، حتى بتنا نرى غياب بعضها عن أولى اختصاصاتها، فتصلنا أحيانًا دعوة تنصيب راعٍ، انصب جُلَّ اهتمام الداعي فيها على إظهار كيانات أخرى -لها كل التقدير- ليس مجالها لتتصدره! وهذا وبكل أسفٍ يحدُث أحيانًا كثيرة جهلًا بالنظامِ، مما دفع الكثيرين للخلط بين ما هو للسنودس وماهو لرئاسةِ الطائفةِ!
وما كل هذا الوهَن الفكريّ، والترهُل الإداريّ الذي تُعاني منه الكنيسة في واقعها اليوم، إلا نِتاج إهمال وتهمييش دور الأعضاء في الكنيسة المحليّة، وتغييب التعليم النظاميّ، والمُمارسة الفاعلة للدور الروحي والإداريّ للأعضاء في الكنيسة المحليّة، تحت دعاوى زائفة.
الجمعيّة العموميّة هي صِمام الأمان الذي يضمن انضباط الكنيسة آنيًا من خلال أعضائها، وتقدمها وارتقائها مُستقبلًا من خلال قادتها.
ماذا عن المستقبل؟
حتى لا يكون كلامًا في الهواء، -كان هذا عنوان كتاب للراحل المفكر فرج فودة، -وقد راح هو الآخر ضحية بصيرته كصديقتنا زرقاء اليمامة التي حدثتك عنها في مطلع المقال- وحتى لا أبدو ناقدًا مُتشائمًا، أو تتهمني بسوداوية الرؤية، خصصت هذه الفقرة من المقال، لأفرغ -في عُجالة- ما في صدري بشأن المُستقبل، وأغسل يدي.
مُستقبل الإصلاح مُهدد في كنائسنا، وبكل أسف التهديد داخلي! والعلاج أيضًا داخلي، لكنه لن يتأت إلا من خلال إرادة فاعلة بِدءًا من مجالس الكنائس المحليّة، إلى رئاسة السنودس، ولهؤلاء أقول ثلاث كلمات:
- التعليم صمام الأمان: اهتموا بالتعليم اللاهوتي والنظامي في الكنائس المحليّة، فمُعظم النار من مُستصغر الشرر! ضعوا خُططًا تضمن تعليمًا لاهوتيًا رصينًا مؤصلًا، يوقف نزيف التشرذم، وصراعات التُرَّهات التي استنزفت طاقات شبابنا؛ وتضمن أيضًا وعيًا نابهًا بالدستور والنظام الإداريّ المشيخيّ. فعِّلوا فحص العضوية فهو ليس روتينًا شكليًا! ازرعوا وانتظروا الحصاد.
- المُمارسة ديمومة الإصلاح: ادعموا وفعِّلوا دور الشباب في العمل الروحيّ والقياديّ في كنائسكم، والنظاميّ في مجالسكم؛ فعِّلوا الأداة الديموقراطيّة في الحِوار والإقرار والمُراقبة والانتخاب، اِخضعوا لجمعياتكم العموميّة قبل أن تحاسبوها، فتُعَلِّمُونَ شبابنا الخضوع والاحترام والالتزام.
- الحقوق جاذبة: اطلقوا حقوق الأعضاء في كنائسهم، فتأثير وجودهم وعملهم هو أبلغ رسالة جذب لأعضاء كثيرين جُدد يرون مستقبلهم في أقرانهم الحاليين؛ هذا أبلغ من كل خطابات التشجيع الوهميّة، ومن لطميات البُكاء على ماضي الكنيسة التليد!
الخُلاصة
خُلاصة هذا الاستعراض السريع في جملة واحدة قالها الليث بن سعد لهارون الرشيد إذ سأله الأخير عن السبيل إلى الإصلاح، فأجابه: «مِن رأسِ العينِ يأتي الكَدَر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي!» فإن كُنا نطلب إصلاحًا لكنيستنا، فعلينا مُراجعة رأس العين، وهي الأعضاء، فالجمعية العموميّة الواعية المنضبطة هي بوصلة الكنيسة إداريًا وروحيًا. وإن إهمال مجالس الكنائس التدقيق في فحص المتقدمين للعضويّة، وتقويض الجمعية العموميّة بوقف أو عرقلة أعمالها في التخطيط والمراقبة، لهو جريمة كُبرى، وسهم نافد إلى قلب ديمومة الإصلاح الإنجيليّ.
فيا قِمم الكنيسة أدركوا واقعنا، واهتموا بأعضاء كنيستكم، شجعوهم، علّموهم، اطلقوا أياديهم المغلولة بوسواس سُلطان زائف تلبَّسكم، ماهو من الإصلاح في شيء! واعلموا أنه إن صَلُحَت القواعد، صَلُحَت الرؤوس!
هذا صوتٌ آخرٌ يناديكم، أنّا نرى أحجارًا تتحرك، وأركانًا تميد، فإما صدَّقتم،
وإما ننتظر حظ زرقاء اليمامة من اقتلاع العيون!
الحواشي
([1]) دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر، (القاهرة: دار الثقافة 2019) طـ3، صـ21.
([2]) عيد صلاح، نحو تعميق ثقافة العضوية في الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر- قراءة دستورية، مُحاضرة غير منشورة.
([3]) دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر، (القاهرة: دار الثقافة 2019) طـ3، صـ83، 136.
([4]) ثروت ثابت، الانضمام للعضوية خطوة للأمام، (القاهرة: سنودس النيل الإنجيلي، مجلس التربية، 2012م)، صـ 7.
([5]) فايز فارس، التعليم والنهضة، (القاهرة: أرشيف الكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة بمصر، 2021)ت: عيد صلاح، نشر إلكتروني على الرابط التالي https://epcear.com/