الروحانية الإنجيلية

روحانيّة أم تقوى؟

الهدى 1256 – 1259                                                                                                       مايو – أغسطس 2024

روحانيّة أم تقوى؟، لم يرغب المصلحون الإنجيليون في القرن السّادس عشر، استخدام كلمة «روحانيّة» المستخدمة من قبل الكنيسة، لأنَّهم رأوا أن تلك الكلمة، ارتبطت بممارسة الحياة المسيحيّة في الأديرة من قبل الرهبان والراهبات، وعدم إشراك العلمانيين في هذه الشركة الروحيّة. رفض المصلحون هذا الفصل بين الإكليروس والعلمانيين، لهذا نادوا بعقيدة كهنوت جميع المؤمنين. إنّ الكلمة التي فضّل المصلحون، استخدامها لوصف عيش الحياة المسيحيّة، هي كلمة، «التقوى». إنّ المعنى الأساسي للتقوى هو، «عبادة الله».
وفي المعنى الثانوي، التقوى هي تقديم الاحترام للأهل والسلطات، والقيام بأعمال رحمة للآخرين المحتاجين. علّم المصلحون، أنّ التقوى المسيحيّة هي دعوة الله للجميع -إكليروس وعلمانيين، لعيش الحياة المسيحيّة الحقة. قال كلفن، «إنّ معرفة الله الحقيقيّة تتألّف من الدّين والتقوى: الدّين، هو الإيمان الممتزج مع مخافة شغوفة بالله. والتّقوى، هي الوقار ومحبة الله التي تأتي بمعرفة واختبار الفوائد الروحيّة التي يقدمها لنا المسيح. فإنه من خلال الدّين والتّقوى، يقدّم المؤمنون قلوبهم للرب: بالمحبة والخدمة والامتنان والوقار. في تعليقه على قول الرسول بولس: «ولكن التقوى نافعة لكل شيء، إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة» (1تيموثاوس 4: 8). عرّف كلفن التقوى، على أنها: «الحركة النشطة التي تنبع من الروح القدس، عندما يُلمس القلب ويستنير الفهم.» أوضح مفهومه عن التقوى قائلًا: «ليست التقوى روحانيّة شخصانيّة منفصلة عن العقيدة المسيحيّة. ولا هي مجموعة من الحقائق المفترضة منفصلة عن الشّغف الروحيّ والمحبة لله.» قال: «التقوى هي: بداية، ووسط، ونهاية العيش المسيحيّ.» أدرك كلفن، أن محبة المؤمن والمؤمنة لله، هي الجزء الأساسي من التقوى. أعلن قائلًا: «أنْ تعرف الله، يعني أنْ تحب الله. وأنْ تحب الله، يعني أنْ تعرف الله. لأنه ليس هناك طريقة أفضل نخدم بها الله أكثر من محبته، بالوسائل التي يطلبها منّا الله. ليس هناك أمر أهم نعبّر فيه عن محبتنا لله، أكثر من أن يمتلك الله كل عاطفة قلوبنا. وليس هناك من ذبيحة يقدّرها الله، أعظم من أن نقدّم أنفسنا أوّلاً لله، من خلال محبتنا الصادقة والعفويّة له.»
آمن كلفن أن الحياة المسيحيّة يجب أن تشمل الجانبين: الرأس والقلب، الفكر والعاطفة، معرفة الله ومحبة الله. ذكر كلفن في كاتخيسمه الأوّل، الذي كتبه عام 1538: «ليس الإيمان المسيحي مجرّد معلومات عن الله، أو فهمًا ذهنيًا للكتاب المقدّس. وإنما ثقة ثابتة وأكيدة للقلب بالله، والتي من خلالها تستكين وتستريح نفوسنا بأمان في مراحم الله، التي وعدنا بها في الانجيل». يُصرّ جان كلفن، أن الحياة المسيحيّة، تتضمن أكثر من الفهم والاعتراف بالإنجيل. فهي تتطلّب أيضًا احتضان رسالة الإنجيل، والتغيّر بها. كتب كلفن، «لا نستلم العقيدة المسيحيّة، فقط من خلال الفهم والذاكرة وحدهما، لكننا نحتضنها، فقط عندما تمتلك كل النفس، وتجد مقعدًا ومكان راحة لها، في أعماق عاطفة قلوبنا. الجانبان: الرأس والقلب، الفكر والعاطفة، يشكلان ويصيغان كل بعد من أبعاد الحياة المسيحيّة. إنّ اهتمام كلفن بتجاوب المؤمن والمؤمنة: الفكري والعاطفي والإرادي مع الله يتخلّل كل كتاباته. آمن كلفن، أن الروح القدس هو الوحيد القادر أن يُجلِّس حقيقة الله، في القلوب البشرية. هذا النوع من المعرفة الاختبارية لإنجيل الله، هو الذي يثمر فينا حياة مسيحية متغيّرة. قال كلفن: «عن العقيدة الصّحيحة أن تدخل قلوبنا وتتفاعل مع حياتنا اليومية وتغيّرنا.»
أطلق المصلح جان كلفن على عمله اللاهوتي العظيم، «أسس الدين المسيحي»، تسمية «ملخّص التقوى»، لأنّه أراد من خلال كتابه المميّز هذا، أن ينشر العقيدة الصحيحة، ويشرح كيف تكون التقوى المسيحية الحقيقية. لم ينظر كلفن إلى التعليم اللاهوتي، كمسعى أكاديمي فقط، لكنه وجد في دراسة اللاهوت فرصة جوهرية، من أجل إمداد المسيحيين بالمعرفة لخيرهم. لم يرَ كلفن أنّ التقوى هي مجرّد اهتمام روحي ساذج، ينقصه كثيرٌ من المعرفة، كما ينظر كثيرون إلى هذا التعريف اليوم، بل بالعكس، رأى أنّه لا مكان للجهل لمضمون الإيمان في التقوى. فالتقوى الجاهلة، لم تكن في فكر كلفن، لأن التقوى الحقيقية تسعى باستمرار لمعرفة الله، من خلال الدراسة المتعمّقة لكلمته المقدّسة.
وجد كلفن، أنّ اللّاهوت والتقوى، ينتميان إلى بعضهما. قال: «من الممكن التمييز لنرى الفرق بينهما، لكن لا يمكننا الفصل بينهما. آمن أن الحياة المسيحية تبدأ في التّجديد، عندما ينقل الروح القدس قوّته المغيِّرة الينا، وتستمر حياتنا المسيحية حين يوجّه الروح القدس حياتنا، من خلال وسائل النّعمة، التي تقودنا إلى القداسة. رأى أنّ التقوى هي ثمرة المعرفة الصحيحة لله ولنفوسنا. وهذه المعرفة تتطلّب الدّراسة المنتظمة لكلمة الله للحصول على التعليمات الإلهيّة، لأن الكتاب المقدّس هو الذي يحدّد طبيعة عقيدة التقوى. قال كلفن، «التقوى هي موقف مسيحي، ينشأ من التّفكير في هبات الله». عرّف «التقوى»، على أنها: «الوقار الممزوج بمحبّة الله». وجد أن التقوى، تتطلّب الإقرار بحقيقة الإعلان الإلهي، لأنه الأساس للحياة المسيحيّة، وللنمو في المسيح. قال جان كلفن: «تتضمّن حياة التقوى عنصرين أساسيين: الأوّل، الدّراسة الشخصيّة لكلمة الله. والثاني، المشاركة في الإعلان العلني لحقائقها، من خلال الوعظ باستقامة بكلمة الله، وإرشاد المؤمنين نحو الحياة المسيحية. آمن كلفن، أنّ الله يتعامل مع مختاريه الأتقياء من خلال وسيلتين: الأولى، من الداخل، بواسطة الروح القدس. والثانية من الخارج بواسطة كلمة الله. فمن الداخل، ينير الروح القدس عقول المؤمنين ويوجّه قلوبهم، نحو محبة البِّر، والقيام بأعمال الخير والصلاح، جاعلاً منهم خليقة جديدة. ومن الخارج، ينشئ فيهم من خلال كلمته المقدسة الرغبة الصادقة ليعيشوا حياة التقوى المسيحيّة.

عمل الروح القدس في التقوى

اعتقد كلفن، أنّ إعلان الله الخاص في يسوع المسيح بواسطة الروح القدس، هو الأساس للتقوى الحقيقية. آمن، أنّ الروح القدس هو الذي يخلق فينا الإيمان، عندما نقرأ كلمة الله ونلتصق بها وهكذا نعيش حياة التقوى. فلا أحد يستطيع أن يختبر الإيمان، دون شهادة الروح القدس، التي تقنعه بذلك. ولن يكون هناك حياة روحيّة فينا دون تجديد الروح القدس، الذي يجعلنا نختبر الإيمان المخلِّص في المسيح يسوع. آمن كلفن، أنّ الروح القدس لا يبادر فقط بمنحنا نعمة الإيمان في الحياة، لكنه أيضًا يُنمّي الإيمان، كيما يقودنا إلى ملكوت الله. آمن كلفن، أنّ الروح القدس يمحّور حياتنا حول كلمة الله في الكتاب المقدّس، فنطيع كلام المسيح وتعاليمه في كل حياتنا وتصرفاتنا. قال: «الإيمان يؤكّد على رسالة الكتاب المقدّس، لأن الروح القدس يُنير فكر الإنسان، حتى يؤمن ويحتضن المسيح، موضوع إيماننا». وأضاف: «إنّ الروح القدس لا يضيف على وحي الكتاب المقدّس، لكنه يتكلّم فينا عندما نقرأه، ويهيّئنا لاستلام رسالته كحقيقة في حياتنا». وبالتالي، فالتقوى مرتبطة وملتصقة بكلمة الله.
اعتقد كلفن، أنّ الروح القدس: يُنير الكلمة، ويمنحنا الإيمان، ويوحّدنا بالمسيح، ويقودنا إلى الثّقة فيه، واختبار يقين الخلاص. آمن أنّ الروح القدس يقود المؤمنين إلى التمسّك بالعقيدة الصحيحة، والتي بدورها تنظّم كل الحياة. اعتقد كلفن، أنّ الروح القدس، هو السلطة الأساسية: للعقيدة، والممارسة، وكل تفاصيل الحياة. ففي حين أن الفلاسفة اعتمدوا على العقل وحده، واتّخذوه الدّليل الأعلى للحياة، رأى كلفن ضرورة إخضاع العقل للحقيقة المعلنة في الكتاب المقدّس. والحقيقة المعلنة، تتطلّب من العقل، أن يعطي المكانة الأولى لعمل الروح القدس، وإخضاع نفسه لقيادته. رأى أنّ الإيمان الحقيقي، يتجسّد بالاستمرار والحفاظ على علاقة الثقة المخلّصة من خلال قوّة الروح القدس. ومع أن يقينيّة الإيمان، تأتي من خلال المعرفة الكتابيّة، إلاّ أنها تُكتسب من خلال تعليم الروح القدس، وليس من خلال ذكائنا. آمن أنّ الروح القدس يربط المؤمنين والمؤمنات على الأرض، بالمسيح الذي في السماء. وهكذا، يستطيع أن يجمع الأرض بالسماء.
مجّد المصلح جان كلفن عمل الروح القدس، عندما وصفه بأنه: روح الله، وروح المسيح، ودعا المؤمنين إلى عدم الفصل بين الروح القدس وكلمة الله، كما كان يفعل بعض راديكاليو إصلاح عصره. لوصف عمل الروح القدس في داخل الإنسان، قال كلفن: «إنّ بداية ونمو كلّ شيء صالح فينا، يرجع إلى عمل الروح القدس. فالله يمنحنا الروح القدس كيما يقودنا، ويمنحنا الحكمة، حتى نميّز بين هو صائب وما هو خاطئ، ويوجّهنا لنقوم بأعمال الصلاح. دعا كلفن جماعة الإيمان، إلى التمتّع بكامل ثمار الروح القدس والتي هي «محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفّف» (غلاطية 5: 22-23)، كيما يختبروا المعنى الحقيقي للتقوى.

التقوى هي الاتحاد السرّي مع المسيح

شبَّه كلفن العلاقة الحميميّة، بين جماعة الإيمان والمسيح، بالعلاقة الحميميّة التي تخلق في الزواج، فتتضمّن الصداقة والشركة الشخصية العميقة، التي هي ثمار النعمة المبرّرة. من التعاريف التي استخدمها كلفن للإيمان، «الاحتضان الدافىء للمسيح الذي يسكن فينا، والامتلاء بروحه القدوس». قال كلفن: «لا يعلن الله لنا، فقط فضله وهباته، وإنما بالدرجة الأولى يعلن نفسه، لأنّ الإيمان هو ليس مجرّد النظر إلى المسيح، وإنما احتضانه ومعانقته والاتحاد معه، كيما يسكن فينا. آمن كلفن، أنّ الإيمان المبرِّر، يقود المؤمن إلى علاقة شخصيّة حميميّة وسرّيّة مع المسيح. رأى، أن معظم الناس يعتبرون الشركة مع المسيح، والإيمان به، على أنه الشيء نفسه، إلاّ أنه رأى غير ذلك. اختبر كلفن أنّ الشركة مع المسيح، إنما هي نتيجة الإيمان به. وهذا الإيمان يُبنى على أساس أبدي، بين الله وشعبه». قال كلفن، «عندما نختبر الإيمان، لا يلتصق فينا شخص المسيح فقط في رباط من الوحدة، وإنما نرتبط بشركة روحية أجمل، فننمو تدريجيا يومًا بعد يوم في جسده، وننمو بشكل كامل معه.»
استخدم كلفن في طبعته الفرنسيّة لعمله اللاهوتي، «أسس الدين المسيحي»، تعبير «أونيون ساكره»، أي الاتحاد المقدس بالمسيح. قصد بذلك، الشركة الروحية والاتحاد في المسيح، الذي يتمتّع به المؤمنون والمؤمنات. إلاّ أنه شدّد كثيرًا، على أنّ هذا الاتحاد، لا يعني الذّوبان في شخص المسيح، وفقدان المؤمن لهويته الفريدة التي هي هبة الله للإنسان. تحدّث كلفن في كتاباته عن اتحاد المؤمن السرّي في المسيح. لكنه لم يفسِّر الموضوع بشكل وافٍ لأنّه اعتقد أنّ هذا الموضوع، هو في طبيعته لا يفسّر بشكل كامل، بالرغم من إيمانه أنّ اتحاد المؤمنين السرّي مع المسيح هو حقيقة جوهرية في حياة الإيمان. كان حذرًا جدًا في التّشديد على ضرورة الفصل والتّمييز بين الله الخالق، وأي شيء آخر مخلوق، لكي يتجنّب عقيدة «وحدة الوجود» الوثنية التي تُفيد، أنّ الله موجود في كل الأشياء.
فإنه بينما أكّد كلفن أنّ الروح القدس يوحّد جماعة الإيمان في المسيح. إلاّ أنه كان حذرًا جدًا في استخدام تعبير الاتحاد السرّي، لكيلا يساء فهم هذا التعبير الدقيق.

التقوى هي السلوك في حياة القداسة

لم يتوافق المصلح كلفن، مع الذين اعتقدوا أنّ الإيمان هو مجرّد معرفة أكاديمية، لأنه عد أنّ الإيمان الذي يصل إلى العقل ويتوقّف عنده فقط، لن يقود الإنسان إلى عيش حياة التقوى. فهم كلفن تعقيدات الطبيعة البشرية ورأى أنّ علينا أن نختبر محبّة المسيح، ليس فقط في عقولنا وإنما يجب أن تشارك في هذه المحبة، عواطفنا وإراداتنا تصرفاتنا وكلّ حياتنا. قال كلفن: «علينا أن نمتلك المسيح، إلاّ أنّنا لن نكون قادرين على ذلك، إن لم نصير مشاركين في قداسته. فالله لا يمنحنا نعمة التّبرير، دون منحنا نعمة التّقديس للسلوك في حياة البرّ والصلاح والاستقامة، والنمو في الحياة الروحيّة. فالناس الذين يختبرون خلاص الله، يسعون لأن يرضوه بسلوكهم في حياة القداسة. فالله لم يعطنا كلمته، فقط ليخبرنا كيف نتعلّم منها، أو كيف نتكلّم بفصاحة وبلاغة، وإنما ليصلح حياتنا، لكي نخدمه ونتصرّف بناء مرضاته. آمن كلفن، أنّ التقوى تتطلّب من الذين اختبروا الإيمان بالمسيح، ترك الممارسات الخاطئة، والعيش تحت سيادة روح الله القدوس، الذي هو نبع كل قداسة وبِّر وكمال. لكي يتمكّن المؤمنون من عيش حياة مسيحية حقّة ومستقيمة، فهم يحتاجون إلى تعليمات واضحة من كلمة الله في الكتاب المقدس.
لم يصدّق كلفن أولئك الذين ادّعوا إمتلاكهم الإيمان دون تجسيده في سلوكهم وحياتهم. قال: «نحن لا نصدّق أولئك المتصوّفين السّاذجين، الذين يقرأون آيات من الكتاب المقدّس من رؤوس ألسنتهم، دون إظهار فاعليته في حياتهم. يجب أن يخترق الكتاب المقدّس حياتهم، ويسكن في قلوبهم، ويؤثّر على كل الإنسان فيهم». وأضاف: «إذا ما أردنا أن نعرف إن استفاد إنسان ما من قراءة الإنجيل أم لا، علينا أن نلاحظ مسيرة حياته وتصرفاته. فإذا لم تنسجم مع مبادىء وقيم وأخلاقيات الكتاب المقدّس، فهذا يعني أنه لم يختبر التقوى الحقيقية.»
بالرغم من أن كلفن كان حريصًا جدا، على إرجاع الفضل في عمل الخلاص، بشكل كامل إلى نعمة الله، إلاّ أنه أيضًا فهم أنّ النعمة الإلهية، لا تُنكر أو تستثني مسؤولية المؤمن الشخصية في تلمذة نفسه، والحرص على السلوك بالقداسة والبر، كي ينمو في التقوى. فالمشاركة في المسيح، تبدأ عند اختبار تجديد الروح القدس في الحياة، إلاّ أن ناموس الله يعلّم المؤمنين: من هو الله، وماذا يطلب منهم، كي يعيشوا لأجله ويخدموه. قال كلفن: «نحن مكرّسون لله، كي نستطيع أن: نتكلّم، ونفكّر، ونتأمّل، ونسلك، وأن نقوم بكل شيء لأجل مجده. وهذا ما يتطلّب الإنكار المستمر لذواتنا، وإخضاع عواطفنا وكل ما نملك له. لكن هذا الأمر لن يحدث، إن لم تكن هناك إماتة داخلية فينا، لأنّ جذور الخطية تبقى دائمًا موجودة، حتى في حياة القديسين». وأضاف: «ممّا لا شكّ فيه أنّ المؤمنين يختبرون توتّرات وصراعات داخلية شديدة، لأن جهودهم في إنكار الذات، تتصارع مع رغباتهم الطبيعية الخاطئة، والميول الشريرة فيهم. لهذا، يجب أن يكونوا صارمين في التعامل مع شرورهم، للتخلّص منها». أعلن كلفن قائلًا: «علينا أن نجاهد ونناضل ونصارع ونستخدم كامل طاقتنا، عندما نتواجه بالتجارب المريرة، كيما نقضي على الشرور التي تواجهنا، لكن هذا الأمر يتطلّب أولا البدء بإنكار ذواتنا». وجد كلفن أن الحياة المسيحية، إنما هي حرب لا هوادة فيها ضدّ الخطية. قال: «مهما حاول شعب الله، أن يقمعوا هذه الشرور التي تواجههم، فإنه سيبقى بعضٌ منها فيهم، فإنهم لن يتمكّنوا من مصارعة الخطية، دون معونة إلهيّة. لكن، بما إن الله يعلم ضعفاتنا، فإنه يزوّدنا بالروح القدس كي يعمل بشكل مستمّر فينا، ويُميت فينا تدريجيًا بقايا الخطية، ويجدّد فينا الحياة السماوية.»

التقوى هي النظر إلى الحياة في ضوء الأبدية

نظر المصلح كلفن إلى الحياة، على أنها «نهر جارف، تقود الإنسان في مسالك وطرق لا يختارها». شبّه الحياة، بمجموعة متداخلة من الطرق، تؤدّي بالإنسان إلى الضياع والتيهان، فلا يعرف كيف يجد الطريق الصحيح للخروج من تيهانه. وجد كلفن، أنّ الحل الوحيد للخروج من هذا الضياع والتيهان، لا يتحقق إلاّ بالإيمان بالرب يسوع المسيح والعيش تحت سيادته، لأنه هو الذي يعطي المعنى للحياة.
بالرغم من انغماس كلفن في شؤون وشجون الحياة الحاضرة، من خلال كتاباته، في مجالات الحياة المتعددة: من التربية والتعليم، إلى الإقتصاد، إلى الإجتماع، إلى السياسة، إلى علاقة الكنيسة مع الدّولة، وغيرها من المجالات الأخرى. فإنه لم يتعلق بمباهج الحياة. قال، «بينما نحن نعيش على هذه الأرض، علينا أن نتذكّر دائمًا، أنّنا نتجه نحو ملكوت الله، الذي يجب أن يكون انتماءنا الأوّل إليه. علينا أن نتوق ونشتاق إلى الراحة الأبدية مع المسيح. لكن في الوقت نفسه، علينا ألاّ نهمل واجباتنا كمسيحيين على الأرض، إلى أن يدعونا الرب إلى بيته السماوي. على هذا الأساس دعا كلفن جماعة الإيمان، إلى الحفاظ على التوازن، بين متطلّبات الوجود على هذه الأرض، ومتطلبات الانتماء إلى ملكوت الله.
دعا كلفن المؤمنين والمؤمنات، إلى النّظر والتأمّل، في كل ما يحدث معنا في حياتنا الحاضرة، في ضوء الأبدية. عد هذه الطريقة مفيدة جدًا لنا، للنظر الى كلّ ما يحدث معنا في هذه الحياة الحاضرة. قال، «ليعوّد المؤمنون أنفسهم على الازدراء بالحياة الحاضرة، لكن ليحرصوا على ألاّ يكرهونها، أو يكونوا غير شاكرين لله على نعمتها، بل يجب أن يعدوا الحياة الحاضرة، من هبات الله الكريمة للإنسان. وبالتالي، عليهم قبولها وعيشها بموقف الشكر. فسّر كلفن تعبير «الازدراء بهذه الحياة»، على أنّه التعلّم على اجتياز مسيرة هذه الحياة، وكأنّ هذا العالم غريب عنّا، وأن نتعامل مع كلّ الآلام والمشاكل التي تصيبنا، كونها أمور مؤقّتة وعابرة، فلا نضع قلوبنا عليها، بل نبقى ننظر إلى أنفسنا كسائحين غرباء ننتظر مسكننا الحقيقي وموطننا الأساسي السماوي، الذي هو، «المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله» (عبرانيين 11: 10). إنّ إيمان كلفن، أنّ السماء هي موطنه الأصلي، قلّل من ارتباطاته القوية بالأرض وأنتج عقلية سبّاقة. قال، «إذا ما عشنا كغرباء في العالم، فإننا سنستخدم ما نملكه، وكأنه ينتمي إلى شخص آخر غيرنا، وكأننا نستخدمه فقط ليوم واحد. شبّه الحياة المسيحية بالانخراط في خدمة عسكريّة مؤقّتة، في عالم عدائي.
آمن كلفن، أنّ التأمل في الحياة القادمة، هو جزء جوهري من الحياة المسيحية، وسط صعوبات الحياة الكثيرة التي تعيشها جماعة الإيمان، لا سيما عندما تزداد تلك الضغوطات كثيرًا، وتحاول أن تدمّرهم وتسحقهم. لهذا، عليهم أن يتذكروا دائما، أنهم يعيشون في مكان مؤقّت وكأنهم في المنفى، وأنّ السماء هي موطنهم الحقيقي. يجب أن يوّجهوا قلوبهم وأشواقهم إلى العالم الأبدي. قال كلفن، «يجب أن ننتظر الحياة القادمة، ونعوّد أنفسنا على عدم التّمسك بالحياة الحاضرة، بل التأمل في الحياة الأبديّة. فالله يسمح لشعبه بأن يصابوا باضطرابات وحروب وأمراض وسرقات وكافة أنواع الصّعوبات والجروحات، ليتذكروا أنّ هذه الحياة مصيرها الفناء. لكن، مع أن الشّرور سترافقنا في هذه الحياة وتسبّب لنا الآلام والضّيقات وتشدّنا إلى الاهتمامات الأرضيّة، علينا أن نركّز كامل أنظارنا على الأبديّة، كي نتحمّل ثقل تلك الآلام. فبإيماننا بسيادة الله المطلقة، وأن كل ما يحدث، يحدث بعلمه، فإنّ هذا الإيمان يجب أن يخلق فينا الرضا ويخرجنا من يأسنا والآمنا. لكن لنفكر دائمًا أثناء الآمنا وصعوباتنا في انتصار يسوع المسيح على الخطية، ونتذكّر أنّه بروحه القدّوس يجعلنا مشاركين في انتصاراته.

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى