أثر الإصلاح الإنجيلي عبر المرسلين في الشَّرق الأوسط
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
في كتابِها «وتَذَكَّرْتُ»، أوْرَدَت الكاتبة «إميلي الرَّاسي» قصَّة رجُل بروتستانتي اسْتُدْعي إلى «اسْطنبول» لأمْرٍ ما، فسَأله المَسؤول عن هويَّته ومَذْهَبه، وأخيرًا سأله إذا كان مُتَعلِّمًا أمْ أميًّا. فاحْتدَّ الرَّجُل وحَسِب السُّؤال إهانَةً له وقال: «كيف تَسْألني، هَلْ أنْتَ مُتعلِّم أمْ أميّ؟ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنِّي بروتستانتي؟ فهَل يُعْقَل أنْ أكون أمِيًّا؟» وأخرج الإنْجيل مِن جَيْبه. هذه قصَّة طريفة تُقدِّم لنا مِثالًا عن مدى ارتباط اسْم البروتستانت أو الإنْجيليِّين بالعِلْم والتَّربية. وهذه حقيقة يَعْرفها كلّ مَنْ يعرف تاريخ الإصلاح الإنْجيلي والمُرسَلين الإنجيليِّين. فأيْنَما انْتَشروا، انْتَشَرت المَدارس والجامِعات، وساهَموا في النَّهْضة الثَّقافيَّة والحضاريَّة في المُجتمعات. ولكن السُّؤال: «ما الذي قاد المُصلِحين الإنْجيليِّين إلى الاهْتمام بالتَّربية، واسْتِطْرادًا فَتْح المدارس؟».
بدأ الإصلاح الإنجيليّ مِن اختبار روحيّ وفِكْريّ عَميق، اخْتبره مُطْلِق الإصلاح «مارتن لوثر». فذاك الاخْتبار الذي غَيَّر حياته، تأسَّس على الكتاب المقدَّس، فصار ذلك الكتاب، له ولبقيَّة المُصلِحين الإنْجيليِّين، المَصْدر الوحيد للعقيدة والإيمان والحياة، ورَكيزة تفكيرهم، ومَوْضِع بحثهم. وهكذا قام «لوثر» بتَرْجمة الكتاب المقدس مِن اللُّغات الأصْليَّة، التي كُتِبَ فيها، وهي العبريَّة للعهد القديم واليونانيَّة للعهد الجديد، إلى لُغَة الشَّعْب الألمانيَّة. وقد بَذَل المُصلِحون جهودًا كبيرة لتَصِل كلمة الله إلى النَّاس، فلا تَفوتهم رسالَته التي تدعو الجَميع إلى الحياة الأفْضَل، بالإيمان بالرَّبِّ يسوع المسيح. ولكن كيف يَتعرَّف النَّاس على الكتاب المقدَّس إنْ لَمْ يَتعلَّموا القراءة والكتابة؟ فلا بدَّ إذًا مِن المَدارس. وهكذا عَمِلوا على إنْشاء المَدارس لتعليم القراءة والكتابة، ليتعرَّف النَّاس على الأخْبار السَّارة التي يتَضَمَّنها الإنْجيل. كما أنَّ العامِل الأساس الذي مَهَّد الطَّريق، وساعَد على انتشار المدارس والجامعات، هو انْتساب بعض مسيحيي ذلك العَصْر مثل «ايراسموس» وغيره إلى الحَركة الإنسانيَّة، التي ازْدَهَرت آنَذاك، والتي أثَّرَت على المُصلِحين وشَجَّعَتْهم هم وغيرهم على الدِّراسة والتَّحصيل العِلْمي.
إلَّا أنَّ العامِل الأساس الآخَر الذي ساهَم في اقْتران اسْم الإنْجيليِّين بالعِلْم، هو الْتزام المُصلِحين الإنْجيليِّين، الذين حَملوا لواء الإصْلاح، بالتَّربية والتَّعليم، لقَناعَتِهم بأهمِّيَّتهما في إجْراء التَّغيير في حياة الإنسان والمُجتمع. ومِن المُصلِحين الذين ساهموا في النَّهْضَة التَّربوية: «مارتن لوثر» (ألمانيّ)؛ «فيليلب ميلنكتون» (ألمانيّ)؛ «مارتن بوتسر» (ألمانيّ)؛ «هينريخ بولينغر» (سويسريّ)؛ و»جان كلفن» (فرنسيّ). فقد طال إصْلاح أولئك المُصلِحين وغيرهم القِطاع التَّربوي في أوروبا، في وَقْتٍ اقْتَصر فيه التَّعليم على قِلَّة قليلة مِن أبناء المَيْسورين مِن التُّجَّار والنَّافذين في المُجتمع. كما أنَّ التَّعليم الذي كان في الأدْيرَة لَمْ يَكُن يَحْظى بِرِضَى كثيرٍ مِن الأهالي آنذاك. وقَدْ كانت أولى اقْتراحات «لوثر» تَحويل الأديرة إلى مدارس للتَّربية والتَّعليم. ظهر تَشْجيعه على فَتْح المدارس مِنْ خِلال كتاباته ومَواقِفه. ففي عام 1524م. دعا في رسالة أرْسَلَها إلى جميع المَجالس المَسؤولة عن إدارة المُدُن في ألمانيا كلِّها، إلى تأسيس المدارس والاهْتمام بالتَّربية والتَّعليم، مُؤكِّدًا أنَّ فُرْصَة التَّعلُّم يَجِب أنْ تكون لكُلّ عامَّة الشَّعب، ولكلّ فئات المُجتمع مِن إناث وذكور، فُقراء وأغنياء. ومِن الأمور الأخيرة التي قام بها قَبْل موته، تأسيس مدرسة في مَسْقَط رأسِه. وفي العام 1530م أرسَل «لوثر» رسالة ثانية بعنوان «في ضَرورَة إبْقاء الأولاد في المدارس» مُؤكِّدًا للأهْل على أهمِّيَّة المدارس للإفادة منها، لا سيَّما الإفادة الرُّوحيَّة، التي تقدِّمها لأولادهم. ظَهَرَت نتيجة تشديد الإنجيليِّين على التَّعليم والتَّربية في نهاية القرن السَّادس عشر، مِن خلال التَّغيير الذي حَصَل في أنْظِمَة المدارس، مِن تطوُّرٍ للمناهِج والأساليب التَّربويَّة في الدُّول والمَناطق التي وَصَلها الإصلاح الإنجيليّ، لا سيَّما ألمانيا، مِمَّا جَعَل الإنجيليِّين يرسون أُسُسًا تربويَّة قَيِّمَة، بنى عليها المُرَبُّون اللَّاحِقون. بالإضافَة إلى ذلك، فإنَّ المُصلِح «لوثر» كان أستاذًا جامِعيًّا في حَقْل اللَّاهوت. وتَرْكيزه على دراسة الكتاب المقدَّس بلغاته الأصليَّة التي كُتِبَ فيها ظَهَرت نتيجته في الجامِعة التي عَلَّم فيها، إذْ تغيَّرت مَناهِجها لتَشْمل التَّشديد على اللُّغات. كما أنَّ «لوثر» اعْتَقد أنَّ مِنهاج التَّعليم الكلاسيكيّ القديم، الذي يُركِّز على العلوم الإنسانيَّة مِن تاريخ وأدَب وفلسفة وحَضارات، تُزوِّد المؤمنين بالسِّياق التَّاريخيّ والاجتماعيّ واللُّغوي لفَهْمٍ أفْضَل للكتاب المقدَّس، كلمة الله. ورَفَض الفِكْرة السَّائدة لدى كثيرين آنَذاك واليوم، بأنَّ هدف التَّعليم هو السَّعي وراء المال. وآمَن أنَّ الهَدف الأساس هو التَّعَمُّق في فَهْم كلمة الله.
أمَّا المُصلِح الفرنسيّ «جان كلفن» فقد كان مُحامِيًا يَحْمل شهادَة الماجيستير في الحُقوق. صَرَف الوقت الأطول يَنْهَل مِن ينابيع الثَّقافة والفلسفة، ممَّا رآه مُناسبًا ومُفيدًا. أُعْجِبَ بِما قاله الفيلسوف «أرسطو»، وبَعض الفلاسفة اليونانيِّين القدماء، أنَّ هَدَف التَّربية هو اكْتشاف الفَضائل والأخْلاق، واعْتَبَر أنَّ ذلك التَّفكير ما هو إلَّا تَحْضير لاسْتقبال حقائق الإيمان المَسيحي. لكنَّه حَذَّر مِن المُوافَقَة على كلّ شيء يقوله الفلاسفة. اسْتخدم «كلفن» عِلْم المَنْطِق والتَّحليل الذي اسْتقاه مِن الفلاسفة، ليكونَ أسْلوبًاً مَنْهَجيًّا يُطَبِّقه على دراسة وتفسير الكتاب المقدَّس. كما كان مِن القادة التَّربويِّين الذين ساهَموا في تنمية التَّعليم العاليّ. فحِين كان في «جينيف» أسَّس عام 1559م مدرسة تحضيريَّة، ومَعْهدًا للدِّراسات العُلْيا، الذي تحوَّل فيما بَعْد إلى جامعة «جينيف».
وهكذا، مِن الكتاب المقدَّس حَجَر الأساس لكلّ دراسة وتعليم، انْطَلَق الإنْجيليُّون إلى العالَم حامِلين كلمة الله التي لا تُغَيِّر فقط القَلْب، أيْ الجانِب الرُّوحيّ للإنسان، بَلْ كُلّ الإنسان المَخْلوق على صورة الله. وهكذا وصَلوا إلى لبنان في بداية القرن التَّاسع عشر. وتَكرَّر الاختبار نفسه، الذي حصل مع المُصلِحين الإنْجيليِّين الأوائل، فعَمِلوا على ترجمة الكتاب المقدَّس مِن اللُّغات الأصليَّة إلى اللُّغة العربيَّة. ورأس مَشروع التَّرجمة المُرسَل القس الدّكتور «غالي سِميث» سنة 1847م. وعاوَنه الأستاذ «بطرس البُستاني»، والشَّيخ «ناصيف اليازجي». وبعد تِسْعِ سنوات مِن وفاة القس «سميث»، خَلَفَه القس الدّكتور «كورنيليوس فاندَيك» الذي أنْهى العمل سنة 1865م، فسُمِّيَت التَّرجمة بترجمة (فانديك-البُستانيّ)، وهي التَّرجمة المُعْتَمَدَة مِنْ قِبَل الكنائس الإنْجيليَّة، كما تَسْتخدمها الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيَّة، والكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة في مصر.
ولا بدَّ مِن ذِكْر أهمِّيَّة المَطبعة ودَوْرها الأساس في تَسْهيل ونَشْر الكتاب المقدَّس، وتَزْويد المدارس والجامِعات بالكُتُب، الأمْر الذي ساهَمَت فيه «المَطْبعة الأميركانيَّة» الإنْجيليَّة لمدَّة قرن ونَيْف بفَرْعَيْها العَربيّ والأرْمَنيّ. وقد بَرَزَت تلك المَطبعة كإحْدى أهمّ دور النَّشْر في هذه المنطقة من العالَم، إذْ كان لها آنذاك مُساهَمة فَعَّالة في نَشْر الأعمال الأدبيّة والفِكْريّة التي أنْتَجَتْها النَّهْضتان، العَربيّة والأرمنيَّة، في أواسِط القرن التَّاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
توجَّه المُرْسَلون الإنْجيليُّون بالكتاب المقدَّس لتأسيس الكنائس والمدارس جَنْبًا إلى جَنْب في عديدٍ مِن المناطق. وأودُّ أنْ أسْرد هنا قصَّة تؤكِّد على تلازُم الكنيسة والمدرسة: «يُحْكَى أنَّ الإرساليَّة الإنجيليَّة انْتَدَبَت أحَد أعضائها (يُعْتَقَد أنَّه المُرسَل القس الدّكتور «كورنيليوس فاندايك») مِن بيروت لتَنْظيم كنيسة إنْجيليّة جديدة في قرية في جنوب لبنان. وفيما هو يودِّع زَميلًا لبنانيًّا له قال المُرْسَل: «أنا ذاهِب إلى القرية الفُلانيَّة لتَنْظيم كنيسة وتأسيس مَدْرستَيْن. فقال زميله، أنْت مُرْسَل لتَنْظيم كنيسة، فمَا لَكَ والمَدْرسة؟ فأجابه: لَنْ تحيا الكنيسة من دون مدرسة. ثمَّ تابَع زميله يسأله: ولكن لماذا مَدْرسَتان؟ فأجابه المُرْسَل، لأنَّه حَتْمًا عندما يَسْمَع إخواننا المسيحيُّون الآخَرون في القرية أنَّني أسَّسْت مدرسة، سَيُسْرعون إلى تأسيس أخْرى في القرية ذاتها، ليُحافظوا على أولادهم مِن «الهَرْطقة البروتستانتيَّة»، كما يعتقدون. وهكذا أكون قَدْ أسَّسْت مدرسة وتَسَبَّبت بتأسِيس أخْرى… وزيادَة الخَيْر خَيْر».
كانت المدرسة آنذاك عبارَة عَن غُرْفَة واحدة، أو بعض الغُرَف القليلة، إذْ كان المُرسَل أو الواعِظ هو نَفْسه المُعلِّم. وقد قارَب عدد المدارس في مَرْحلةٍ ما المِئة مَدرسة. إلَّا أنَّها تَجمَّعت في مرحلة لاحِقَة في مدارس كبيرة. واسْتفاد لبنان تَرْبويًّا بازْدياد عدد المَدارس والجامعات على أرْضه، نتيجةً لذلك التَّنافُس التَّربوي بَيْن الإرساليَّات المسيحيَّة التي وَفَدَت إلى لبنان، لا سيَّما الإرساليَّة اليَسوعيَّة التي نَشأت نتيجة الإصْلاح الكاثوليكيّ المُقابِل لعَهْد الإصلاح الإنجيليّ في القرن السَّادس عشر، والإرساليَّات الإنْجيليَّة. فاليَسوعيُّون جاؤوا إلى لبنان عام 1640م، لكن عَمَلهم توقَّف عام 1773م، أمَّا الفرنسيُّون مِنْهم فقد عادوا إلى لبنان عام 1831م. ولَمْ يَقْتَصِر التَّنافُس التَّربوي على المدارس فقط، بَلْ على الجامعات أيضًا. نرى مِثالًا على ذلك في تاريخ تأسيس الجامعة الأميركيَّة في بيروت، والجامعة اليسوعيَّة. فعندما أسَّس المرسَلون الإنجيليُّون «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»، والتي كانت تُعْرَف آنذاك «بالكليَّة الإنْجيليَّة السُّوريَّة» عام 1866م، أسَّس المُرسَلون اليَسوعيُّون الجامعة اليسوعيَّة عام 1875م. ومِن اللَّافِت للنَّظَر أنَّ المرسَلون في لبنان أسَّسوا أربع جامعات مِن أصْل حوالي إحْدى عَشر جامعة مُعْتَرَف بها خارج لبنان، هي: الجامعة الأميركيَّة في بيروت؛ الجامعة اللُّبنانيَّة الأميركيَّة؛ جامعة هايكازيان؛ وجامعة الشَّرق الأوسط.
أسَّس الإنْجيليُّون عام 1835م أوّل مدرسة تَحْمِل طابِع المدرسة، حَيْث يحصل التَّعليم داخل جُدران الفصل، لتعليم الفتيات في كُلّ مناطِق نفوذ السُّلطة العثمانيَّة آنذاك، اسمها «المدرسة الأميركيَّة للبنات» التي كانت في ساحة «رياض الصُّلْح»، ثمَّ نُقِلَت عام 1974م إلى منطقة «الرَّابية»، وأخَذَت اسم «مدرسة بيروت الإنْجيليَّة للبنات والبنين». ثمّ توالى بِناء المَدراس الإنجيليَّة، فتأسَّست مدرسة الفنون الإنْجيليّة في صَيْدا عام 1862م، والمَدْرسة الإنجيليَّة في طرابلس عام 1873م، وغيرهما كثير مِن المدارس. والآن يوجَد في لبنان أكثر مِن ثلاثين مدرسة إنْجيليَّة (بعضها يَتْبَع كنائس إنْجيليَّة، وبَعْضها الآخَر يَتْبَع أفْرادًا إنْجيليِّين). وبدخول المدارس والجامعات الإنجيليَّة إلى لبنان والشَّرق الأوسَط، دَخَلت اللُّغة الإنْكليزيَّة وانْتَشَرت في مناطق عديدة.
هذا ما كان في لبنان، أمَّا بالنِّسبة لأثر الإصلاح الإنجيليّ في تأسيس المدارس والجامعات في مصر وسوريا وفلسطين والأردن. فقد وفدت الإرساليَّة الإنجيليَّة الأميركيَّة المشيخيَّة إلى مصر في خمسينات القرن التَّاسع عشر. وفي العام 1854م. تأسَّست أوَّل كنيسة إنجيليَّة في مصر. وفي العام 1855م. تأسَّست أوَّل مدرسة للبنين في القاهرة. وفي العام 1865م. تأسَّست أوَّل مدرسة لتعليم البنات في الصَّعيد في أسيوط. وكما في لبنان كانت استراتيجيَّة الإرساليَّة المشيخيَّة في مصر تأسيس مدرسة إلى جانب الكنيسة. وهكذا انتشرت المدارس الإنجيليَّة في كافَّة أنحاء مصر. وبحسب محاضر جلسات السّنودس الإنجيليّ المشيخيّ في مصر، عام 1904، كان عدد المدارس الإنجيليَّة 135 مدرسة للبنين؛ 32 مدرسة للبنات. وقد ارتفع العدد في السَّنة نفسها إلى 139 مدرسة للبنين؛ 65 مدرسة للبنات. لكن في العام 1951 انخفض عدد المدارس الإنجيليَّة كثيرًا بسبب قرار الحكومة المصريَّة بمجانيّة التَّعليم. أمَّا بالنِّسبة لتأسيس الجامعة الأميركيَّة في القاهرة، فقد ارتبط تأسيسها باسم القس الدكتور تشارلز واطسون، الذي ولد في القاهرة عام 1873م. حيث رأى أن دعوته للخدمة، لا تنحصر فقط في كونه مُرسَلًا، بل فكَّر في تطوير التَّعليم في مصر من خلال إنشاء جامعة. قال واطسون: «إني أشعر بالدَّعوة للقيام بعمل مهمّ للعالم الإسلامي». وحيث اعتقد أنَّ الازدهار الذي حقَّقته أميركا، يجب أن يُستثمر في خدمة العالم من خلال التَّربية والتَّعليم، قال: «هذه المصادر الفخمة يجب أن تُستثمر بحكمة في خطَّة الله لخدمة العالم، لا أن تُبدَّد وتُصرف بحماقة». وهكذا أسَّس الدكتور واطسون في العام 1920م. ما سُمِّي آنذاك «مدرسة لينكولن للدِّراسات الشَّرقيَّة»، لتكون في بداية الأمر مدرسة ثانويَّة وجامعة للذُّكور. واستلم الدّكتور واطسون رئاسة الجامعة حتَّى العام 1945 م.
أمَّا بالنِّسبة لسوريا وفلسطين، فقد عملت الإرساليَّتان: الأميركيَّة؛ والإنكليزيَّة البريطانيَّة السُّوريَّة، والإرسالية التي خدمت بين القاطنين الأرمن في تأسيس المدارس الإنجيليَّة. تأسَّست الثَّانويَّة الإنجيليَّة في حمص-سوريا من قبل الإرساليَّة الأميركيَّة عام 1855 م. كما أسَّست الإرساليَّة الأميركيَّة في تركيا عام 1876 م. ما سمِّي «معهد تركيا المركزي»، وبسبب الأحداث في تركيا بعد إنهيار الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، نُقِل حرم المدرسة إلى مدينة حلب-سوريا، حيث تأسَّس معهد حلب العلميّ عام 1924م.
وفدت أيضًا الإرساليَّات الإنجيليَّة الألمانيَّة اللُّوثريَّة إلى فلسطين، ولعبت دورًا بارزًا في تأسيس بعض المدارس والحضانات. منها: مدرسة طاليثا قومي الإنجيليَّة اللُّوثريَّة في بيت جالا التي أسَّستها الإرساليَّة اللُّوثريَّة عام 1851م. فكانت أوَّل مدرسة تعلِّم البنات في البلاد. وفي العام 1861م. أسَّست الإرساليَّة مدرسة دار الكلمة في بيت لحم. وفي العام 1901م، تأسَّست المدرسة الإنجيليَّة في بيت ساحور. والمدرسة الأخيرة التي أسَّستها الكنيسة اللُّوثريَّة، كانت مدرسة الرّجاء في رام الله عام 1970م.
أمَّا الإرساليَّة الأسقفيَّة (الأنجليكانيَّة) المسيحيَّة فقد أسَّست في الأردن وفلسطين مجموعة كبيرة من المدارس المتنوِّعة والرَّوضات. في العام 1881م. أسَّست الإرساليَّة مدارس في الحصن والسلط. وعام 1898م. في القدس. وعام 1926 في عمان. أذكر بعض أسماء هذه المدارس: المدرسة الأهليَّة للبنات، تأسَّست عام 1926م. مدرسة المطران في عمان تأسَّست عام 1936. مدرسة المخلص في الزَّرقا تأسَّست عام 1955م، وغيرها.
اقْتَنَع المُرسَلون الإنْجيليّون اللَّاحِقون مع بداية القرن العشرين، أنَّ الكتاب المقدَّس لا يُخاطِب فقط الجانِب الرُّوحيّ في الإنسان، لكنَّه يُخاطِب كُلّ الإنسان المَخْلوق على صورة الله، يخاطِب شَخْصيَّته ليصْقلها، ويَجعله إنسانًا قادرًا على اتِّخاذ القرارات المُناسِبة. يُخاطِب فِكْره ليُنَمِّيه ويَكْشِف له مواهِبه وإمكاناته الكامِنَة فيه. يُخاطِب إرادته ليُدرِّبها فيَصير مَسْؤولًا عن تَصرُّفاته. ويُخاطِب مواقِفه ليَجْعلها مُنْسَجِمَة مَع قِيَم الإنجيل الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة. وهكذا يَتَحقَّق كيان الإنسان الكامِل. وقَد لَعِبَت هذه المدارس والجامعات الإنْجيليَّة دَوْرًا تربويًّا رائدًا إذْ ساهَمَت في النَّهضة الثَّقافيَّة العربيَّة في كثيرٍ من بلدان الشَّرق الأوسَط. وعُرِفَت بوطَنيَّتها ونَبْذها الطَّائفيَّة، إذْ اسْتَقْبَلَت مُنْذ تأسيسها كلّ تلميذ مَهْما كان دِينه أو عِرْقه أو لَوْنه، فعُرِفَ خرِّيجوها بأنَّهم مِن أصْحاب الفِكْر الحُرّ، والوطنيَّة المُلتَزِمَة التي عَمِلَت مِن أجْل بِناء الوَطَن الواحِد.