ظل البجعة
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
اخترق صمت الجدران عويل من بعيد، فقفز القسّ على الصَّخرة الصَّغيرة مَسنَد رأسه، ثمَّ حاول أن يتسلَّل خلف القضبان فلمح من بعيد اللَّون النُّحاسيّ مُندلِع في جسد امرأة تحترق صارخة بين الجموع، كما بدا من بعيد شاب من النُّبلاء يحاول الوصول إليها، ولكن هناك اثنان يرتديان ثياب فرسان البابا يحاولان ردعه.
مرَّت الدَّقائق وكأنَّها دهر على القس وعيناه مغرورقتَين من الدُّموع العاكس لهذا الحدث المروَّع.. ثمّ فجأة اندفع الباب الموصود من الخارج ودخل أحد الفرسان وبيده وعاء به طعام.
الفارس «أنصحك أيُّها القس المنشقّ بعدم الأكل، حتَّى لا يبقى جسدك الصَّغير هذا كثيرًا في قلب الأتون المُحمَّى، فعليك الدَّور، إنَّه غضب الله المعلن من السَّماء على جميع فجور النَّاس، أمام كلّ من يقف معاديًا للكنيسة والبابا».
ارتعب القسّ.. ولكنَّه لم ينطق بكلمة، هَمَّ الفارس بالخروج وما تزال رقبته تجاه القسّ الصَّامت حتَّى أصبحت عكس جسده فارتطم رأسه بالباب، فكتم الصَّرخة محاولًا البقاء على كرامته أمام القسّ إلى أن خرج. فاختلط صرير الباب الذي دفعه خلفه بصرخته بالخارج من شدَّة الألم.
مال القسّ إلى ركن الغرفة وجلس واضعًا رأسه بين حقوَيه. لاح فجر جديد فإذ بالباب الموصود يُفتح بهدوء على غير العادة ويدخل منه الفارس الشَّاب الذي كان مقيَّدا أمس أمام امرأة الأتون فوجد القسّ مُلقًى على الأرض المُشقَّقة كجسده البائس.
حاول الفارس الشَّاب أن يُجلسه برِفق «أبي.. هل أنت بخير؟»
نظر إليه القسّ وعيناه متَّسعتين!
قال الشَّاب النَّبيل في ألم وندم «أنا أعلم أنَّك تتعجَّب ممَّا أفعله معك الآن، فأنا كثيرًا ما تسبَّبت في أذيَّتك، كما أنَّني قد وشيتُ بك لاتِّباعك تلك الهرطقة، ولكنَّك أكثر شخص كانت أمِّي تثق به، كما كانت هي أكثر شخص أثق به. والآن لا يمكن أن تموت امرأة كهذه محروقة على الوتد في ضلال، نحن نعرفها سويًّا، لا يمكن لعقلها أن يخدعها هكذا، كما لا يمكن أن يخونها قلبها، التي أحبَّت به الرَّبَّ كثيرًا، ليس أمامي آخر سواك الآن قادرًا على شرح الأمر لي، لا أثق في الجميع».
أخذ القس يربت على كتف الشَّاب وقال:
«لم تكن أمُّك مُحمَّلة بكلِّ ريح تعاليم، ولكن دراستها للُّغات الأصليَّة للكتاب المقدَّس فتحت عينيها على صخرة الحقّ القويم»
«ماذا تريد أن تقول؟» هكذا سأل الشَّاب.
حاول القسّ أن يقوم ببُطئ ثمَّ توجَّه إلى النَّافذة المكسوَّة بالحديد فلمَعت الشَّمس في عينيه البنِّيَّتَين فقال:
«حدث هذا منذ عامين تقريبًا، عندما زارت أمّك ألمانيا، كان السًّكان في ذلك الوقت يهتفون باسم المدعو مارتن لوثر، وكانوا يشيرون إليه برمز البَجَعَة، فتعجبَّت والدتك من هذا الأمر وحاوَلت التَّقصِّي عن ذلك التَّشبيه الغريب، فأخبروها إنَّه قبل مئة عام كان هناك راهب من تشيكوسلوفاكيا يدُعى جون هسّ، وكان ينادي هو الآخر بكثير ممَّا ينادي به لوثر الآن، وكلمة هسّ تعني أوزَّة، فعندما عُلِّق هسّ على الوتد ليُعدَم بتهمة الهرطقة صرخ في البابا قائلًا: يمكنك أن تطهو هذه الأوزَّة، ولكن ستأتي بجعة لا تستطيع إخمادها. لذلك، عندما ظهر لوثر على السَّاحة فسَّر النَّاس وجوده على أنَّه التَّحقيق النَّبوي لجون هسّ. وظلَّت عام كامل تتأمَّل في معنى التَّضحية بالحياة في مقابل إرضاء الرَّبّ، بدلًا من المبدأ الذي كانت تعيش به من أنَّه لا أحد يأخذ من دون استحقاق، إلى أن جاء وقت التَّحوُّل».
التفَت القسّ إلى الشَّاب الذي كانت عينيه تتوسَّله بإكمال حديث فأشفق عليه وأكمل:
«في العام الماضي كنَّا سويًّا أنا وأمّك في روما عندما خصَّصت زيارتها للأماكن المقدسة لكي يستفيد بها والدَيها، وبينما كانت تتسلَّق الدَّرَج المقدَّس الذي مشى عليه ربّنا وهو ذاهبًا إلى الجلجثة على ركبتيها، تسمَّرت فجأة في المنتصف ثمَّ نزلت وسألتني: تُرى هل ما نفعله صحيحًا؟»
تنهَّد الشَّاب ثمَّ اتَّجه إلى الحائط قائلًا في صوت خافت:
«لقد عاشَت ما آمَنت به»
لاحَقه القس «بل بالأحرى ماتت من أجل ما آمنت به، لقد كانت أمّك ظلًّا لتلك البجعة».
«يا له من عمل جليٍّ» هكذا قال الشَّاب.
لاحقه القسّ «لا يوجد عمل، إنَّها النِّعمة فقط».
رنَّت الكلمة في أذنيّ الشَّاب فالتفت للقسّ:
«كيف هذا؟ رغم إيماني بأمِّي، ولكن لا يمكن أن يكون هناك نعمة مقبولة بلا عمل يكمِّلها».
التفت له القسّ «إذا كانت النِّعمة تُكمَّل إذا فهي ناقصة، وإن كانت كاملة فهي لا تحتاج إلى شيء يُكمِّلها».
ولماذا لا يمكن أن تُكمَّل؟» هكذا سأل الشَّاب.
أجابه القسَّ «عندها سيكون عمل المسيح غير كافٍ».
قفز الشَّاب بالرَّد «نحن لا نقول إنَّ الأعمال تُخلِّص».
قال القسّ «بالفعل أنت لا تقول هذا، أنت تؤمن أنَّ الإيمان شرط أساسي ولكنَّه غير كافٍ»
صمَت الشَّاب وظلَّ يتحرَّك في الغرفة هنا وهنا ثمَّ سأل:
«قُل لي، كيف تُفسِّر قول الرَّسول يعقوب إنَّ الإيمان بدون أعمال ميِّت»؟
ابتسم القس ثمَّ قال:
«وكيف تفسِّر قول الرَّسول بولس إنَّنا بالنِّعمة مخلَّصون، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد»؟
تلعثم الشَّاب ثمَّ حاول الإجابة «حسنًا.. إذًا هناك إيمان وأعمال».
أجاب القسّ «نعم هناك إيمان وأعمال، ولكن الفكرة في مكانة كلٍّ منهما».
«ماذا تقصد؟» هكذا سأل الشَّاب
أجاب القس «أتعرف أنَّ الرَّسولين استخدما الكلمة ذاتها. الرَّسول بولس والرَّسول يعقوب استخدما الكلمة نفسها «تبرير» في اليونانيَّة (ديكياسوني)».
امتعض الشَّاب ثمَّ قال «لقد ازداد الأمر تعقيدًا»
لاحقه القسّ «كما أنَّهما استخدما المثال نفسه أيضًا (أبينا إبراهيم)»
حنق الشَّاب «كفاك ألغازًا، ما هو الحلّ»
أشفق القسّ عليه ثمَّ تحرَّك تجاهه «مربط الفرس في حلِّ اللُّغز يكمن في الموقف الذي اختاره كلٌّ من الرَّسولَين لأبينا إبراهيم، فالرَّسول بولس تحدَّث عن إبراهيم في (سفر تكوين الإصحاح الخامس عشر، عند دعوة الرَّبّ لإبراهيم، فمن دون عمل أيّ شيء يقول الكتاب إن إيمان إبراهيم حُسِب له برًّا. أمَّا الرَّسول يعقوب فقد تحدَّث عن امتحان ذلك الإيمان في السِّفر نفسه الإصحاح 22 عندما طُلِب منه بالبرهان على ذلك الإيمان بتقديم ابنه اسحق».
ربت القسّ على كتفيّ الشَّاب الذي بدا مصدومًا ثمَّ أردف: «هناك أعمال، ولكنَّها ليست الأساس كالإيمان، إنَّها نتيجة حتميَّة للإيمان».
دفع الشَّاب الكلمات من فهمه «حسنًا دعني أؤمن، وسأعيش حياتي كهؤلاء الصَّعاليك النُّبلاء في روما بين الخمر والجنس، ثمَّ أذهب إلى السَّماء على حساب الإيمان فقط».
احتدَّ صوت القسّ قائلًا «لقد سئمتُ من تلك الحجَّة الرَّخيصة، كلّ مرَّة أصرخ بما صرخ به لوثر: نحن نؤمن بالإيمان وحده، ولكن ليس بالإيمان الذي يبقى وحده. يصرِّح الرَّسول بولس في رسالة رومية الإصحاح الخامس بمفهوم التَّبرير، وعندما تقلب الصَّفحة تجده يصرخ بالتَّقديس، الأمر وكأنَّه عندما أصبح الله أباك، أنَّك تأتي بأبيك في ميدان عام وتصفعه على وجهه، سيكون الأمر مؤلمًا جدًّا لك، قبل التَّبرير بالإيمان لم تكن تتوجَّع بإهانتك أبيك، بل الأكثر لم يكن هو أباك من الأصل، كفا بتلك الحجَّة الرَّكيكة».
اندفع الباب الحديدي من الخارج فإذا بالفارس ذو الرَّأس المتورِّمة يقتحم الحديث قابضًا على عنق القسّ وصرخ في وجهه غاضبًا: «لماذا تصرخ هكذا أيُّها الهَرِم؟ أتريد أن تذهب سريعًا إلى قبورك التي تعيش فيها؟ أو بالأحرى ستموت بها قريبًا».
دفع الشَّاب النَّبيل ذو الرَّأس المتورِّمة إلى الخلف مُنقذا القسّ من يده
ثمَّ صرخ في وجهه «اترُكه، اترُكه».
حنق ذو الرَّأس المتورِّمة ثمَّ قال غاضبًا «لماذا تدافع عنه هكذا يا سيِّدي النَّبيل؟»
دفعه الشَّاب النَّبيل إلى داخل الغرفة ثمَّ أخذ القسّ خارجًا وأغلق الباب حابسًا ذلك الفارس في الدَّاخل. وركض هو والقسّ إلى الخارج.
القس: «إلى أين نذهب؟»
«ما هو رأيك؟» هكذا سأل الشَّاب وهو يركض
أجاب القسّ «يبدو أنَّه ليس مكان للتَّنزُّه»
وعندما وصَلا عند الباب الخارجي للسِّجن، امتطى النَّبيل فرسه كما ركب القسّ فرس الفارس المحبوس في الدَّاخل. قال له النَّبيل «لو كنت تركتك حتَّى صباح اليوم التَّالي لكانت نهايتك، اذهب أنت وسأعطِّل أنا هؤلاء الفرسان». تقدَّم القسّ عن الفارس ذاهبًا إلى مكانه المفضَّل، فإذ بالفارس يتبعه. وصل الفارس منطقة القبور ثم نزل عن حصانه وأخذ يركض باحثا عن القسّ. نظر من بعيد فإذ ببجعة تأكل بجانب القس الذي وقف في ثبات على حجر عالٍ بين الصُّلبان المرتفعة وكأنَّها راية وإعلان لمن تحتها، هؤلاء المتلفحُّون بالتُّراب ومكسوُّون برخام أبيض لامع يحمل في داخله عظامهم المائتة.
صرخ القس «توبوا أيُّها الأموات»
نظر الفارس من حوله لهذا المنظر الغريب فلم يجد سوى قبور صامتة تعلوها صلبان حجريَّة، والبجعة تأكل بجانب القسّ واعظ الأموات فقاطع نظراته صراخات القس «اقتربوا إلى ملكوت الله، فهو ينتظركم».
بدأ القس يصرخ أكثر في الخلاء حتَّى ضاقت نفس الشَّاب فتحرَّك ثمَّ أخذ بيد القس. تجاهله القس ثمَّ أخذ يتحرَّك بين القبور مناديًا مَن بداخله «هيَّا فلتأتوا إلى المسيح».
حاول الشَّاب إيقافه فإذ بالقس يدفع يده مستمرًّا في عمله بحماسة، فصرخ الشَّاب في وجهه
«كفا يا أبانا، إنَّهم أموات، غير قادرين على الرَّدِّ عليك»
توقَّف القس فساد صمت تامّ في الفراغ، ثمَّ التفَّ القس فجأة إلى الشَّاب النَّبيل مبتسمًا ثمَّ قال
«تلك هي حالتنا يا ولدي، نحن لسنا في حالة خطيرة والله يعدّ لنا الدَّواء من الخطية، نحن أموات، غير قادرين على إحياء أنفسنا، كتلك العظام النَّجسة المدفونة أسفلنا، نزداد في قاع موتنا متلفِّحين بتراب قبورنا، نحتاج إلى من يُخرج تلك العظام ويكسوها لحمًا ثمَّ يعطها قُبلة الحياة لكي تحيا».
وقعت الكلمات على أذنيِّ الشَّاب كالصَّاعقة، فإذ بالقس يأخذه من يده ويجلسون على أحد القبور، ثمَّ قال:
«إن تلك الصُّلبان حَمِلت في يوم من الأيَّام أحياء، ولكنَّها الآن محمولة من الأموات، فكما كانت شاهدة للأحياء، هكذا هي الآن شاهدة على الأموات».
سأل الشَّاب متلعثمًا «ماذا تقصد من هذا؟ وماذا تفعل تلك البجعة هنا؟»
ردَّ القس: «اتركها فهي أليفتي، أقصد حديثنا اليوم قبل أن نأتي إلى هنا، إنَّ أعمالنا التي تزعم أنَّها مكمِّلة للنِّعمة تجعل لنا إرادة حيَّة قادرة على اختيار الله».
قال الشَّاب وهو ما يزال متلعثمًا «ولكنَّني أعتقد أنَّني ما زلت قادرًا على اختيار الله»
لاحَقه القس «إنَّ ما تقوله ينفي حقَّ الله في الاختيار»
تسمَّر الشَّاب في مكانه ثمَّ قال:
«حقّ الله في الاختيار؟! يبدو أنَّك تقصد اختياري لله».
لا، أنا أعي ما أقول، لقد اختار الله المخلَّصين في مشورته الأزليَّة»
لاحَقه الشَّاب «نعم بناء على علمه السَّابق»
لاحَقه القس «يبدو أنَّ الموضوع يتخطَّى حاجز العِلم، فالمقصود بعِلم الله ليس فقط ما سيجري من أحداث، ولكن العلم بالأشخاص أنفسهم أيضًا، فالمعرفة تعني المحبَّة والعلاقة معهم، تذكَّر كلمات الرَّبّ: اذهبوا عنِّي يا فاعليّ الإثم فأنا لم أعرفكم قط».
سأل الشَّاب «ماذا تقصد؟»
أجاب القس: «إذا كان اختيار الله بعلمه السَّابق فهذا يعني أمرين: أوَّلًا أنَّ الله هو مفعول به وليس بفاعل. ثانيًا: الله هنا يُخمِّن وليس متيَّقِن بما سيحدث»
تعجَّب الشَّاب قائلًا «إنَّ هذا يلغي حرِّيَّة إرادتي»
نظَرَت إليه البجعة ثمَّ قفز القسّ بالسُّؤال «لماذا تعطي لنفسك حقّ اختياره ولا تعطيه حقّ اختيارك؟»
أجاب الشَّاب بأريحيَّة «لأنَّني سأعاقَب إن لم أختَره، أمَّا هو فمَن سيعاقبه إن لم يختَرني؟»
قال القسّ محدِّقا في عينيه «لاحظ أنَّك تختاره وأنت فاسِد، أمَّا هو فهو القدوس».
قال الشَّاب «ماذا تقصد؟»
سأله القسّ «قل لي: أين وُلِد قايين؟ خارج الجنَّة أم داخلها؟»
أجاب النَّبيل «بالطَّبع خارِجها»
أكمل القس «ونحن بالطَّبع مثل قايين وُلِدنا خارج الجنَّة، إذًا جميعنا وارثين عقوبة الموت، كان آدم هو النَّائب عنَّا في موتنا، نحن كنَّا في آدم عندما سقط».
«مهلًا هل هذا يعني أنَّني غير قادر على لوم آدم في سقوطه؟!» هكذا سأل الشَّاب
صفَّق القسّ بحماسة ومعه البجعة بجناحيها ثمَّ قال: «يا له من استنتاج مذهل، إذًا نحن مائتون وعميانًا وعبيدًا، هل تقدر أن تقول لي ما الشَّيء المشترك بين هؤلاء الثَّلاثة؟»
فكَّر الشَّاب في نفسه زافرًا أنفاسه ببُطء ولكنَّه حاول البقاء على نفسه أمام الرَّجل الوقور في انتظار إجابته. ضغط القس عليه بالكلمات
«الثَّلاثة لا يستطيعون تغيير حالتهم، فالعبد يحتاج لمُحرِّر، والأعمى يحتاج لخالِق، والمائت يحتاج لمُحيي، كان آدم مُمثِّل الجنس البشري كاملًا، لذلك نحن مولودين بالخطيَّة ووارثين العقوبة، فلا توجد أعمال قادرة على مرِّ العصور أن تجعل من الإنسان مرضيًّا أمام الله، وبالتَّالي أنت غير قادر على اختيار الله»
انتفض الشَّاب صارخًا في وجهه «لا تقول لي أنَّني غير قادر على الاختيار، إرادتي حرَّة بالفعل»
حاوَلَت البجعة أن تنقُره بأنفها الحادّ فإذ بالقس يهدِّئها ثمَّ قال بحزم «هل تعتقد أنَّ إرادتك قادرة على الاختيار تلقائيًّا من دون أيِّ ميلٍ مُسبق لها؟»
لاحَقه الشَّاب الغاضب «بالطَّبع»
لاحَقه القسّ «هذا منافيًا للأخلاق والعقل وأيضًا الوحي»
حنق الشَّاب ثمَّ قال «حسنًا ما هو دليلك؟»
قام القس عن القبر ثمَّ تحرَّك في خطوات قليلة ثمَّ التفَّ له
«المشكلة الأخلاقيَّة أنَّ اختياراتك من دون أسباب، أو من دون معنًى تجعل مَن يختار ليس لديه أيَّة أخلاق بالمرَّة، وكأنَّك تقول لي إنَّ الطَّبيب سيغرز سكينه الحادّ في لحم المريض من دون أيِّ سبب، لا يمكن لأيِّ شخص قبول هذا الفعل المؤلم من دون سبب أخلاقي له وهو العلاج، هكذا يختار الله بإذنه بحدوث كثير من الأحداث، حتى ولو بدت وكأنَّها شرٌّ بالنِّسبة لنا، ولكن بدافع مقدَّس، لقدا اختار إخوة يوسف نفس ما اختاره الله ليوسف، ولكن دافعهم كان فاسدًا، وهكذا في الصَّليب، اختار الله ما اختاره اليهود والرُّومان والخائن حتَّى الشَّيطان، ولكن بدافع مقدَّس فلا بدَّ أن يكون لقراراتك ميول أو دوافع مسبقة».
حدَّق الشَّاب في وجهه في انتظار استكمال حديثه المؤلم
ابتسم القس ثمَّ أكمل «أمَّا عن المشكلة المنطقيَّة فهي أكثر شيء جذَّاب»
«وما هو؟» هكذا سأل الشَّاب بحنق
تحرَّك القسّ باتِّجاهه ثمَّ قال «إذْ لم يكُن لديك ميل مسبق، إذن فإرادتك محايدة، فهي لا تميل إلى الخير أو الشَّرّ، فلا فرق فيما تفعله بين الذِّهاب إلى الفُسحة أو الذِّهاب إلى الحرب، وكأنَّك ساحِر تريد أن تُخرج أرنبًا من قبَّعة، ولكن من دون أرنب، ومن دون قبَّعة، بل أيضًا من دون ساحِر. تريد النَّتيجة من دون السَّبب، عندها ستصبح قراراتك المصيريَّة كقرار الاختيار بين اللَّحم والجُبن»
تحرَّك الشَّاب تجاه القبر متألِّما فإذا بالقس يسأله:
«لا أعتقد أنَّ الكتاب المقدَّس يجدنا في حالة محايدة، بل الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، كلُّنا لا نريد أن نختار الله»
ربت القس على كتف الشَّاب الحائر
«كلُّنا لدينا ذلك الميل المُسبق، ذلك الميل فاسد يختار دائمًا ما لا يريده الله»
استدار الشَّاب محاولًا الهروب من سجن كلمات القس فهبَّت عاصفة ترابيَّة فانزلقت قدميّ القس فإذ برأسه ترتطم بحافَّة القبر فتورَّمت، فظلَّلَت البجعة القسّ بجناحيها فركض الشَّاب وسط العاصفة ثمَّ أخذه محاولًا الوصول به إلى كوخ القسّ المصنوع من الخوص فقال القسّ مُتنهِّدا:
«يبدو أنَّ ميلك بمساعدتي غلب ميلك بالذَّهاب، فدفع إرادتك لاتِّخاذ القرار بالعودة إليَّ مرَّة أخرى لإنقاذي، يبدو أنَّ هناك ظِلٌّ آخر للبجعة على وشك السُّقوط في شباك النِّعمة»
ابتسم الشَّاب ثمَّ سأله «إذا أين عدل الله فيما تقوله؟»
ابتسم القسّ وقال وهو ما يزال يمسح عينيه من الأتربة
«قُل لي: هل تضمن إذا ترك الله البشر يختارونه أن هناك من سيختاره بالفعل؟»
«ماذا تقصد؟» هكذا سأل الشَّاب الذي عادت إليه الحيرة
أجاب القس «هل تتَّفق معي أنَّ الله إذا ترك الأمر للبشر أنَّه من المحتمل ألَّا يختاره أيّ شخص على الإطلاق»
فكَّر الشَّاب لبرهة ثمَّ أجاب «نعم والعكس أيضًا يمكن أن يختاره كلّ البشر»
لاحَقه القس «بالضَّبط، كم في المئة تظنّ أنَّ هناك احتمال لكلا الاحتمالَين»
لاحَقه الشَّاب «خمسين بالمئة لكلِّ احتماليَّة»
ابتسم القس قائلًا «حسنًا، أيُّهما فِعل رحمة أكثر: أن يترك الله الأمر للإنسان وبالتَّالي يخاطر بعدم اختيار أحدٍ له على الإطلاق؟ أم يتدخَّل هو ليحيي إرادة مجموعة من البشر ليختاروه لأنَّهم مدانون تحت العقوبة؟!»
شعر الشَّاب بربكة متنفِّسا الصَّعداء فإذْ بالقس يُكمِل عليه
«الظُّلم عندما نكون جميعًا جيِّدين ويختار الله واحد ويترك الآخر، أو عندما يكون شخص جيِّد وشخص سيء ويختار السَّيء، ولكن عندما نكون جميعنا فاسدين ويطبَّق فينا حكم العدل، إذًا عندما يُرحم أحدنا فهذا لا يعني أنَّ الذي لم يُرحم ظُلِم، لأنَّ الرَّحمة في تعريفها هي شيء غير إجباري، ولكن العدل إجباري، بالطَّبع لا توجد مساواة، ولكن حاشا أن يكون هناك ظُلمًا».
بادر الشَّاب بمحاولته الأخيرة: «إذا كان الأمر هكذا، والله هو الذي يختارنا، إذا لماذا نكرز؟»
لم يكن الشَّاب متوقِّعا سرعة الرَّدّ ولكن القس لاحَقه «لأربعة أسباب»
«وما هم؟» هكذا سأل الشَّاب
ردَّ القس بهدوئه «أوَّلًا: لستُ أعرف من هم المختارون. ثانيًا: كما حدَّد الله المختارين حدَّد أيضًا وسيلة اختيارهم وهي الكرازة. ثالثًا: لا يوجد معنى أصيل في الحياة أعيش من أجله أكثر أهمِّيَّة من الاندماج في مشروع الله لإحدى وسائل امتداد ملكوته وهي الكرازة. ورابعًا: أنَّ يسوع نفسه مَن أمر بذلك. إنَّ النِّعمة وحدها ليست إعاقة للإنجيل، بل على العكس فهي توقد بداخلي شُعلة الكرازة بالخبر السَّار».
اقتحم جلستهم الفارس ذو الرَّأس المتورِّمة فإذْ وهو يشهر سيفه أمام رقبتهما
«أهلًا بكما من جديد، الآن أنا أضمن الأرض والسَّماء، الأولى بالقبض على نبيل خائن كأمِّه، يا له من تعزيز عند سيدنا البابا، والثَّانية لأنَّني أرضيتُ الرَّبَّ في السَّماء. يبدو أنَّ السَّماء أتَت بحقِّي من رأسك المتورِّمة أيُّها القسّ».
وقف القسّ والنَّبيل فإذ بالبجعة تنقر قبضة الفارس فسقط السَّيف من يده، فلمح القس سَهما آخر مُصوَّب تجاه النَّافذة كاد يخترق ظهر الفارس، فإذ بالقس يدفعه بعيدًا فتلقَّى القسّ السَّهم الذي غرز في كتِفه. سقط القس بين ذراعيّ النَّبيل. أمَّا الفارس فقد اتَّسعت عيناه وبدأت تمتلئ بالدُّموع بسبب هذا القسّ الذي فداه. فسأله النَّبيل
ماذا حدث؟»
«يا لهؤلاء الأوغاد الذين يريدون قتلي ليربحوا المكافأة عند البابا»
ثمَّ نظر للقس وعيناه الدَّاميتَين «ولكن كيف فعلتَ هذا أيُّها القسّ من أجلي؟ فأنا لا أستحقّ منك هكذا»
أجاب القسّ «إنَّها النِّعمة يا بنيّ»
رفع النَّبيل القس ثمَّ قال «علينا أن نهرب الآن لننقذ القس، ساعدنا أيُّها الفارس، نحتاج أن أحدهم يلهيهم»
طارت البجعة للخارج محاولة إلهاء الفرسان. بالكاد التقط الفارس أنفاسه ثمَّ قال
«تعاليا معي، أنا أعرف الطَّريق، فمنذ الآن طريقكما هو طريقي»
«يبدو أنَّ هناك ثمرًا كثيرًا لظِلّ البجعة» هكذا قال القسّ المحمول مبتسمًا والبجعة تتبعهم بظلِّ جناحيها.