الاتساق مع الذات
الهدى 1234 أغسطس 2021
«الاتساق» في أبسط معانيه هو «التناسق»، «التناغم». فاللوحة غير المتناسقة الألوان هي لوحة فوضوية، لا تنجذب لها العيون، والموسيقى غير المتناغمة هي موسيقى نشاذ، لا تطرب الآذان، وفي العلوم الصورية (كالمنطق والرياضيات) يكون مقياس عدم التناقض هو مقياس الصواب والخطأ، أما في العلوم الطبيعية (كالفيزياء والكيمياء) يكون المقياس بتطابق النتائج مع الواقع.
الأهم من هذا كله: هل يتحقق «الاتساق» في عالم الإنسان؟ وعندما أقول عالم الإنسان، أقصد الأفراد (كشخصيات حقيقية)، والمؤسسات (كشخصيات اعتبارية تتكون من الشخصيات الحقيقية)، لقد صُنِّفَتْ مصر في وقت من الأوقات ضمن الدول الأكثر تدينًا على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت الأكثر في استخدام المواقع الإباحية، والتحرش، وزيادة معدل الجريمة! هذه صورة صارخة لعدم الاتساق، وعند الحديث عن الاتساق وجب الإشارة إلى شقين أساسيين، هما:
أولاً: الاتساق الفكري
قد تتطور قناعات الشخص عبر الوقت، فإذا تناول أحدهم فكرة في كتاب ما، كتبه في مرحلة عمرية مبكرة من حياته، ثم كتب كتابًا آخرًا في مرحلة لاحقة بعد عدة سنوات، قد تجد تعارضًا في بعض الأفكار، أزعم أن هذا أمر وارد جدًا، ولا اعتبره عدم اتساق، وإنما تطور فكري، ولكن ما أعنيه أن يقبل الشخص عقيدة ما، وفي ذات الوقت يرفض عقيدة أخرى، في حين أن العقيدتين إما يجتمعان معًا أو يرتفعان معًا، فقبول الواحدة يُحتِّم بالضرورة قبول الأخرى، ما أقصده هناك فارق بين «التطوير»، «عدم الاتساق»، كالفارق بين أن ينظر المرء إلى صورته في ألبوم صور، فيجد اختلافًا في الشكل بين ما كان عليه، وما أصبح عليه الآن، ومن ينظر إلى صورته في المرآة ويجد أيضًا اختلافًا في الشكل بين الأصل والصورة! ففي الحالة الأولى «تطور»، وفي الحالة الثانية «عدم اتساق».
ومن الصور الفاضحة التي تكشفها وسائل التواصل الاجتماعي، ميول الناس إلى ترديد الأقوال المأثورة التي ننقلها عن السلف، دون تأمل أو تفكير، بوصفها أقوالاً مقدسة لا تقبل الجدل، كقبول بعض الأقوال مهما كانت تافهة وضحلة، وعمل إعجابات وتعليقات… إلخ، طالما صدرت من شخص مرموق، وعدم قبولها -بل ونقدها نقدًا لاذعًا- طالما صدرت من شخص مساوٍ! وهذا ما يسميه فرنسيس بيكون «وهم المسرح» كأحد عوائق التفكير الموضوعي، فالتبعية العمياء لأقوال المشاهير والقادة تظهر بوضوح على موقع التواصل الاجتماعي Facebook، فعندما يتفوَّه أحد المشاهير بعبارة -مهما كانت بساطتها- تكون الغالبية ذيولاً/ أذيالاً لها، وعندما ينطق أحد المهمشين بِحِكَمٍ -مهما كانت قوتها- تكون الأغلبية أقدامًا لتدوسها! وفي حقيقة الأمر -ومع الأسف الشديد- عندما تكون صغيرًا، فعليك أن تدقق فيما تقوله، لأن العيون تتصيد لك الأخطاء، بل وتخترعها، بينما عندما تصير كبيرًا (من حيث الشهرة والمكانة) فقل ما شئت، سيصفق لك الجميع، وإن لم تصدق هذا!
صورة أخرى .. تجد أحدهم يرفض لونًا معينًا من الترانيم، كالترانيم الشعبية الحديثة، وفي ذات الوقت ينشر على حسابه الشخصي على فيسبوك ترنيمة من نفس هذا اللون الذي يرفضه! أو يرفض لون معين من الترانيم، لكنه يعود فيمدح ترنيمة معينة من نفس اللون، لمجرد أن مرنم معين -لمع نجمه- رنم تلك الترنيمة!
ثانيًا: الاتساق السلوكي
السلوك يبدأ من حيث وصل الفكر، وللتوضيح دون الدخول في تفسير الآيتين، جاء في سفر إشعياء «ذو الرأي الممكن تحفظه سالمًا سالمًا لأنه عليك متوكل» (إشعياء 26: 3)، بينما يقول الرسول يعقوب: «رجلٌ ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يعقوب 1: 8)، فالاتساق الفكري أو عدمه يقود بالضرورة إلى الاتساق السلوكي أو عدمه، ففي الآيتين السابقتين، التعبيران: «ذو الرأي الممكن» (اتساق فكري)، «رجلٌ ذو رأيين» (عدم اتساق فكري)، يختصا بالجانب الفكري، بينما التعبيران: «سالمًا» (اتساق سلوكي)، «متقلقل في كل طرقه» (عدم اتساق سلوكي)، يختصا بالجانب السلوكي، فالأقوال والأفعال في الأصل فكرة.
ويندرج تحت عدم الاتساق السلوكي الأقوال والأفعال، والتناقض بينهما، أو حتى التناقض بين أقوال وأقوال، أو التناقض بين أفعال وأفعال، فيمارس الواحد سلوكًا معينًا مع شخص، بينما يكون له تصرف آخر، إذا صدر نفس السلوك من شخص آخر! لذا ينطبق عليهم قول الحكيم: «مبرئ المذنب، ومذنب البريء كلاهما مكرهة الرب» (أمثال 17: 15)، «معيار فمعيار، مكيال فمكيال، كلاهما مكرهة عند الرب» (أمثال 20: 10)، وغيرها. وهذه كلها صور من عدم الاتساق السلوكي مع الأشخاص، أما عن التناقض بين الأقوال والأفعال، لقد قالوا لبطرس: «لغتك تُظهرك» (متى 26: 73)، وإني أقول: «بل أفعالك تُظهرك أكثر وضوحًا!».
ملاحظات ختامية
1. إن محاولة تحقيق الاتساق في المؤسسة (كشخصية اعتبارية)، لن يتحقق أبدًا ما لم يتحقق الاتساق مع الذات لدى الأفراد في هذه المؤسسة (كشخصيات حقيقية)، وأي محاولات من مثل هذا القبيل هي كمن يصارع الهواء، أو يحرث في الماء! لقد فقدت بعض المؤسسات تأثيرها في المجتمع، بل وفي الدائرة الأصغر من المجتمع، لوجود فجوة كبيرة بين الواقع والمأمول، بين لوائح المؤسسة وما يحدث من استغلال مواقع للمنتمين للمؤسسة، لذا ساد فساد، وانتشر في كل الأركان، يتغنون بالديمقراطية، وهم لا يعرفون إليها سبيلاً، يتحدثون عن النزاهة، وهم يرجحون أهل الثقة عن أهل الخبرة، ويلمعون من تسترح إليهم قلوبهم، وليس من تقتنع بهم عقولهم، فيدوسون كالخنازير الموهوبين وأصحاب الكفاءات.
2. الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح الفكر قبل السلوك، وكما تقول حكمة قديمة: «إذا أردت أن تصلح نهرًا، فاصلح منبعه!»، فالفكر يقود إلى السلوك.
3. علينا أن نفحص قناعتنا من وقتٍ لآخر، لنتخلص من كل ما هو رث، ونثبت فيما هو أصيل.
4. الدعوة هي أن يبدأ كل واحد بنفسه، أزعم أن عدم الاتساق مع الذات موجود في جميعنا، وإنما بنسب متفاوتة، فليبدأ كل منَّا بنفسه، سُئلت الأم تريز ذات مرة في حديث صحفي: «هناك بعض الأمور التي تحتاجها الكنيسة العامة لكي تنمو وتنهض، في رأيك الشخصي.. ما أهم الأمور التي تحتاج إلى تغيير؟»، وكان جوابها غير متوقع، فقالت: «أنا من يحتاج إلى التغيير!».