دموع تحجب الرؤية
الهدى 1242- 1243 أبريل ومايو 2022
لعبت المرأة دورًا بارزًا عبر التاريخ، يذكر لنا الكتاب المقدس نساء كان لهن دورٌ حربيٌ وسياسيٌ مع شعوبهن، منهن: دبورة، أستير. وأخريات كان لهن دورٌ في أسرهن، مثل: سارة، حنة. وأخريات في الخدمة، مثل: بريسكلا، فيبي، أفودية، سنتيخي. وعند قيامة المسيح كان دور مريم المجدلية أكثر لمعانًا من نجوم التلاميذ جميعًا! ولنا في هذه الشخصية وقفة تأملية:
أولاً: حيرة وبكاء
حين هرب التلاميذ الرجال وشددوا على أنفسهم غلق أبواب العلية، شقت المرأة رعب الدجى، إذ «جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً وَالظّلاَمُ بَاقٍ» (يوحنا 20: 1)، بل ظلت «وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي» (يوحنا 20: 11)، ولم تنشغل بالحراسة المشددة، في الوقت الذي فيه «مَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا» (يوحنا 20: 10)، وحقًا صدق سقراط حينما قال: «عاطفة المرأة أقوى من عقل الرجل!».
والمثير للدهشة أنها رأت مشهدًا عجيبًا، «فَنَظَرَتْ ملاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً» (يوحنا 20: 12)، لكنها لم ترض بديلاً عن سيدها، إذ قالت والدموع في عينيها: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ» (يوحنا 20: 13)، هي ليست كبطرس الذي انبهر فقط حينما ظهر موسى وإيليا على جبل التجلي! إن موقف المجدلية يُخجل الكثيرين هذه الأيام، الذين يفتعلون مشاهد غريبة لظهورات أشخاص كانوا بشرًا مثلنا، ويصدقون ما يبتدعونه، ويلتفون من حوله.
كانت مريم متحيرة باكية لأنها ظنت أن الرحلة انتهت بالصليب، لكن كانت القيامة من بعد الصليب، تحيرت كباقي التلاميذ الذين تحطمت آمالهم من بعد صلب المسيح، إذ يقول تلميذا عمواس مثلاً: «وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا 24: 21). وهذا ما يأخذنا بدوره للفكرة التالية:
ثانيًا: سؤال ومفاجأة
عندما نادى يسوع المجدلية قائلاً: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟» (يوحنا 21: 15)، وظنت مريم المجدلية -بسبب الدموع التي في عينيها- أن يسوع هو البستاني، فلم تعرفه! إذ ردت عليه قائلة: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ وَأَنَا آخُذُهُ» (يوحنا 20: 15)، لقد حجبت دموعها رؤيتها، حقًا صدق الحكيم حينما قال: «الْغَمُّ فِي قَلْبِ الرَّجُلِ (الإنسان بصورة عامة) يُحْنِيهِ» (أمثال 12: 25)، فكثيرًا ما تُعمى عيوننا عن رؤية الحلول بسبب ضغوط المشاكل، وكثيرًا ما نبحث عن أشياء هي في أيدينا بالفعل! حقًا إن آراءنا وأفكارنا تعذبنا أكثر مما يعذبنا الواقع نفسه.
وبمجرد أن ناداها يسوع باسمها: «يَا مَرْيَمُ!» (يوحنا 20: 16) الْتَفَتَتْ… وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ (يو20: 16)، لقد كانت سريعة البديهة أكثر من تلميذي عمواس اللذان لم يعرفا يسوع سريعًا، لذلك قال يسوع لهما: «أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ» (لوقا 24: 25).
ولا نستطيع أن نفوِّت قول يسوع للمجدلية: «لاَ تَلْمِسِينِي» (يوحنا 20: 17)، إذ ظن البعض أن جسد المسيح كان مختلفًا بعد القيامة! حتى إن فالنتينوس Valentinus أحد قادة الغنوسية «كان ينادي بأن المسيح لم يأخذ جسدًا بشريًا ماديًا كأجسادنا، لأن المادة خطية!» [حنا جرجس الخضري، تاريخ الفكر المسيحي، الجزء الأول (القاهرة: دار الثقافة، 1981)، 401.].
كذلك كانت جماعة الدوسيتية(Docetism) «نادت هذه البدعة بأن المسيح لم يكن بشرًا حقيقيًا ولكنه بدا كذلك، وقد جاء هذا المفهوم من التراث الفلسفي اليوناني والشرقي، الذي ينفر بشدة من فكرة أن الإله يختلط بالعالم المادي بأية كيفية!» [جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، الجزء الأول، ترجمة عزرا مرجان (القاهرة: دار الثقافة، 1982)، 102.].
وعن قول يسوع لمريم المجدلية، فـ»إن الترجمة الحرفية لعبارة «لا تلمسيني» أي: «لا تستمري في اللمس» أو «توقفي عن اللمس» أو «لا تمسكيني». كما ترد في معظم الترجمات الأخرى.» هذا «لأنه (يسوع) كان يريدها أن تذهب بسرعة لتخبر التلاميذ.» [عزت شاكر، أصعب الآيات في الكتاب المقدس (القاهرة: الكنيسة الإنجيلية بمدينة نصر، 2009)، 182.]
وتتنوع وتتعدد سبل تعامل المسيح، نراه يقول لتوما: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يوحنا 20: 27)، أيضًا نرى التباين في التعامل بين كلٍ من: إسحق، يعقوب. إذ قال الله لإسحق: «لاَ تَنْزِلْ إِلَى مِصْرَ» (تكوين 26: 2)، بينما قال ليعقوب: «لاَ تَخَفْ مِنَ النُّزُولِ إِلَى مِصْرَ» (تكوين 46: 3)!
ثالثًا: شهادة وإخبار
لقد ظهر يسوع أولاً للمجدلية التي كانت شجاعة في خروجها باكرًا، «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ» (يوحنا 20: 19)، لم تكن الأبواب مجرد «مُغْلَقَةْ»، وإنما كانت «مُغَلَّقةْ» أي: مشددة الغلق.
ظهر لها وأوصاها قائلاً: «اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ» (يوحنا 20: 17)، وكانت النتيجة «فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا» (يوحنا 20: 18)، عكس بطرس الذي عاد إلى موضعه! المرأة -في معظم مواقفها- لا تستطيع آلا تتكلم، بدليل السامرية التي «تَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟» (يوحنا 4: 28-29)، عكس نيقوديموس الذي «جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً (سرًا)» (يوحنا 3: 2)!
لقد كان الميلاد والقيامة أهم حدثين في حياة يسوع بالجسد، ومن المدهش أن أول من عرف بكل خبر للحدثين «إمرأة»! فمريم العذراء جاءها القول: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ» (لوقا 1: 30-31)، وهنا أيضًا كانت مريم المجدلية أول من عرفت بالقيامة.
لقد أراد الله أن يكسر القواعد المتخلفة في المجتمع، فقد كانت شهادة المرأة ضعيفة، ولا يؤخذ بها، لكنَّه أرادها أن تكون شاهدة، بل أول من يشهد عنه، لقد حجبت دموع المجدلية رؤيتها، لكن تلامس يسوع معها فأنار بصيرتها، وصارت أول شاهدة للقيامة!