مقالات

الالتزام في حياة المعمدان

الهدى 1229                                                                                                      مارس 2021

واحدة من القيم الهامة الغائبة عن مجتمعنا والتي عادت أزمة كورونا لتذكرنا بها، قيمة الالتزام. هذه القيمة، وبالرغم من أهميتها في شتى جوانب الحياة، إلا أنها باتت كلمة ثقيلة على المسامع، لأنها قيمة مكلفة. وهي أيضا رغم كثرة الحديث عنها إلا اننا مازلنا نعاني من غيابها. فكثيرون يعانون بسبب عدم التزامهم، أو بسبب عدم التزام الآخرين. فما فعلته أزمة كورونا أنها جعلت من الالتزام اجباريًا، فلم يعد هناك للبعض رفاهية الاختيار.
يأتي فعل» التزم» في المعجم بمعنى:» اعتنق، أوجب الشئ على نفسه، اتبعه وأدامه واستمر فيه». الالتزام هو واجب ثابت يستلزم من الشخص القيام به والمواظبة عليه دون تركه أو التخلف عن أدائه مهما كانت المعطلات أو الإغراءات.
عندما نتأمل في شخصية يوحنا المعمدان بشكل عام، نرى أنه كان نموذجًا رائعًا للالتزام، وهذا يظهر في عدة جوانب من حياته:
أولاً التزام التلمذة أمام الدعوة:
جاءت دعوة الرب ليوحنا ليكون نذيرًا له وقتما كان في بطن أمه (لوقا 1: 13- 17) ونجد يوحنا طوال حياته مكرسًا لهذه الدعوة. لقد تعددت ظروف خدمته، لكنه لم يحد عن دعوته ورسالته يومًا واحدًا. كان يوحنا يدرك هويته جيدًا وتلميذا مخلصًا لدعوته، يعلم من هو ولمن هو، فكانت رسالته التي كرس نفسه لاجلها طيلة حياته:
«توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات. أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن احمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار.» (مرقس 2: 4-8).
لقد توافرت في المعمدان كل صفات التلميذ النجيب المؤمن برسالته والمخلص لها طوال حياته، من مواظبة وحسم وتضحية بكل شئ لتحقيقها.
كانت حياة يوحنا رحلة نمو مستمرة، فلم يكتف بأي نجاح روحي قد حققه. رغم النجاح والشعبية، إلا أنه ظل تلميذًا للدعوة الإلهية، يعظ عنها ويتعلم منها على الدوام. فيقول البشير لوقا عنه:» أما الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح، وكان في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل.» (لوقا 1: 80)
لم يكن يوحنا فقط واعظًا بليغًا مؤثرًا، لكنه قبل كل شئ، كان تلميذًا متضعًا ينمو باستمرار ومن هنا استمدت خدمته تأثيرها ونجاحها. ليتنا ندرك أن دعوة الرب لنا، قبل أن تكون دعوة للخدمة هي أولا دعوة لحياة التلمذة، قبل أن تكون دعوة للحديث عنه، هي أولاً دعوة للحديث معه، فهو دعانا لنكون تلاميذ أولًا قبل أن نكون معلمين!
ثانيًا التزام التطبيق أمام التعليم:
يصف لنا البشير مرقص حياة يوحنا بهذه الكلمات: «وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جرادًا وعسلًا بريًا» (مرقس 1: 6)، هكذا كانت حياته! يكتب البشير لوقا جزء من تعليم يوحنا، ويقول» وسأله الجموع: «فماذا نفعل؟» فأجاب:
«من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا» (لوقا 1: 10-11)، هكذا كانت تعاليمه! كان يوحنا هو الوحيد القادر أن يقول هذه التعاليم بهذا السلطان.
فلا مجال للسؤال إذًا عن السبب، أو عن سبب التفاف جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم من حوله، أو عن خوف الملك هيردوس -رغم قوته- من يوحنا حتى بعد موته، أو عن كيفية امتلاكه للجراءة التي بها وقف أمام أكبر وأشهر طائفتين يهوديّتين: الفرّيسيين والصّدوقيّين، موبّخًا إياهم على ريائهم وأنانيّتهم وسلوكهم الملتوي بأعنف ما يكون التوبيخ.
الإجابة ببساطة: أن يوحنا كان يعيش ما يقول، لذا كانت خدمته مؤثرة مثمرة رغم كل التحديات التي واجهها. الالتزام بتنفيذ ما نقول، والسلوك بما ندعي، التزام وما أصعب وما أحوجنا إليه إن أردنا أن تكون لحياتنا معنى ولخدمتنا تأثير. وهو التزام نجح فيه المعمدان بتفوق.
ثالثًا التزام الاتضاع أمام الشعبية:
ظهر يوحنا المعمدان في ميدان الخدمة كنبي بعد أربعمائة عام من غياب الانبياء، وهو من أسرة كهنوتية معروفه، بالإضافة لطريقة ولادته المعجزية. كل هذه الأسباب زادت من شعبية المعمدان والتفاف الجمهور من حوله. وهو ما عبر عنه البشير مرقص:
«وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم.» (مرقس 1: 5)
لكن الرائع والملفت للنظر، أن نفس البشير مرقص يقول بعدها مباشرة:
كان يكرز قائلًا: «يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست أهلًا أن انحني وأحل سيور حذائه أنا عمدتكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس» (مرقس 1: 7-8).
لقد كانت أمام يوحنا فرصة ذهبية للنجومية، فالكل متفق عليه وملتف من حوله، يذهبون ورائه، ينتظرون بشغف كلماته، ورغم ذلك التزم باتضاعه أمام اغراء شعبيته الجارفة، فلم تأخذه نشوة النجاح في الخدمة بعيدًا عن دعوته.
لم ينخدع يوحنا أو يتباهى بكثرة السائلين والسامعين، طرح ذاته جانبًا، تمم خدمته باتضاع، أدرك جيدًا أن الرسالة نفسها أهم بكثير من شعبيته!
كم من القادة يكافحون لكي لا ينساهم أحد، بينما ينسى الآخرون أنفسهم فيظلوا خالدين في ذاكرة الجميع! ومن هنا كان وصف المسيح له بأنه أعظم المولوين من النساء، وهو ما عبّر عنه أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم، بهذه الكلمات:
«اليد التي أكدت أنها لا تستحق أن تمس حذاء المسيح، جعلها المسيح على رأسه»
رابعًا التزام الخضوع أمام الذاتية:
في نهر الأردن لوحة فنية رائعة عن الخضوع وتقديم الآخر. يسوع يطلب من يوحنا أن يعتمد منه، بينما يوحنا يقول له «أنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إليّ!» (متى 3: 14)
يوحنا « الخادم النجم» يرفض الرضوخ لهذا الإغراء الرهيب «النجومية» مستغلًا فرصة معمودية المسيح لاثبات واظهار «نجوميته» في الخدمة أمام الجميع.
لقد أدرك يوحنا أن «النجم» في الخدمة، ليس الذي يسطع بعيدًا لكنه من يمتلك القدرة أولا على الخضوع للآخرين.
لقد تعلم يوحنا، ويعلّمنا نحن اليوم أيضًا، أن القدرة على الخضوع أهم بكثير من القدرة على القيادة!
في الوقت الذي يتنافس فيه الكثيرون على القيادة والزعامة، يتنافس يسوع ويوحنا على الخضوع!
نتنافس نحن على المكانة الأولى، بينما يتنافس يسوع والمعمدان على المكانة الثانية!
هؤلاء هم حقًا الخدام المُعافون نفسيًا، من يؤمنون أنهم لا يستمدون هويتهم من مواقع خدمتهم، ولا حتى من حجمها أو حتى من مواقف الآخرين منها. لذا نراهم لا يخافون على مواقعهم، ولا ينزعجون من ظهور قادة جدد، بل هم من يسلطون الاضواء على غيرهم مقدمين الآخرين عنهم باستمرار.
هل لنا أن نتعلم جميعًا من هذا المشهد أن الذات هي المعطل الأول والأكبر للخدمة، وأن الخضوع هو المفتاح الأول والأكبر لنجاح الخدمة.
هل لنا أن نتعلم أيضًا أن «النجومية» الحقيقية ليست الانفرادية، لكنها الخضوع، هي ليست الاستقلال عن الجماعة لكنها الالتزام بالأدوار واحترام النظام والترتيب قبل أي شئ!
خامسًا التزام الأمانة أمام الضغوط:
يبقى يوحنا أحد أبرز شهداء السلطة والجبروت على مر التاريخ، لكنه يبقى أيضًا أبرز الأمناء لرسالتهم حتى النهاية. المشهد الأخير من حياة يوحنا، رغم قساوته وجرمه، إلا أنه يوضح لنا كيف كان هذا الخادم أمينًا للرسالة الالهية رغم طغيان الضغوط. كما فشلت اغراءت الشعبية والنجومية إبعاد المعمدان عن دعوته، فشلت تهديات هيرودس أيضًا في ذلك، فدفع حياته ثمنًا لاتمام دعوته. فكان كما قال أحدهم عنه:
«لقد اختار المعمدان أن يكون بلا رأس عن أن يكون بلا ضمير!»
لقد كان يوحنا نموذجًا لمن يبدأون حسنًا مع الله وينهون حسنًا أيضًا. الموهوبون في الخدمة، دون دعوة الهية، قد يبدأون حسنًا لكنهم قد يفشلون في الاستمرار، إنما المدعوون فقط من الله، الملتزمين بدعوتهم، هم من ينهون حسنًا! لقد أدرك المعمدان الدرس الذي بسببه ظل أمينًا للنهاية:
فقد يموت الجندي لكن يبقى العلم، قد يموت القاضي لكن تبقى العدالة، قد يموت الإنسان لكن تبقى الرسالة التي عاش لأجلها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى