وجهة نظر

حقيقة تتطلب قرارًا

الهدى 1207                                                                                                                                 مارس 2019

منذ حوالي أكثر من إثني عشر عاماً أرسل لي صديق عزيز مقالاً باللغة الإنجليزية بعنوان «When it,s time to leave» كاتبه هو القس Gordon Macdonald لما راّه فيه من فكر ومفهوم معاون ومُرشد لي كقسيس في خدمة رعوية (حينذاك) في توقيت وكيفية إتخاذ قرار بشأن خطوة من أهم خطوات حياه وخدمة كل قسيس ألا وهي خطوة ترك موقع الخدمة.
قرأت المقال باهتمام شديد ووجدت فيه فكراً عميقاً وأليات عملية ساعدتني شخصياً في إتخاذ بعض القرارات المستقبلية الخاصة بهذا الشأن وأيضاً فسَرت لي قراراتاً أخري اتخذتها قبل قراءته، فقمت بترجمته وفكرت في إرساله لمجلة الهدي بهدف النشر توسيعاً وتعميماً لفائدته.
ولأسباب خاصة وقتئذ تخليت عن هذه الفكرة، وبين الحين والأخر يعاودني الإحساس بأهمية وضرورة هذا النشر ولنفس تلك الأسباب يتكرر التراجع، إلا انه بدأت تدريجياَ تتلاشي هذه الأسباب وأصبح لدي إقتناعاً راسخاً بضرورة إتاحة هذا المقال لجميع الأحباء شركاء الخدمة من القسوس وبالأخص ممن هم في المراحل العمرية الأصغر حيث يوجد لديهم المساحة الزمنية الكافية للبدء والأستمرار في تطبيق الأستراتيجية التي يقدمها هذا المقال. ولأنه أكبر جداً من المساحة المتاحة للنشر سأقوم بعرض أفكار المقال بتصرف وأيضاً بإختصار شديد اتعشم أن لا يكون مُخلاً، والأن تعالوا معاً إلي المقال. يقول الكاتب:-
«في فبراير 1999 اتخذت قراراً بترك موقع خدمتي. أبلغت شعب الكنيسة التي أخدم بها Grace Chapel in Lexington، Massachusetts إنه خلال خمسة أشهر سأتقاعد وأطرق مجالات أخرى في الخدمة مثل المشورة، الكتابة….الخ. وشعرت أن عامي الستين هو العام المناسب لأترك الموقع طواعية لقائد أصغر عمراً. وأرى أنني في هذا العمر مازلت أمتلك روحاً مغامرة وخلاقة تمكنني من البدء في مشروعات وأفكار وإتصالات جديدة. وعندما جاء اليوم أحتفت الكنيسة بي وقدمت مشاعر وعطايا طيبة ومشجعة وبدأو رحلة البحث عن بديل مناسب ووجدوا شخصاً ممتازاً. واليوم -وبدوني- يستخدمون طاقاتهم بصورة جيدة بل في الحقيقة أفضل كثيراً من وجودي.
من المهم التفكير في الأمر بالصورة التالية:- الترك لخدمة معينة (وليس للخدمة ككل)، الترك بسعادة (راضياً عن ادائك)، الترك بكرامة (بأسلوب يكون موضع تقدير) والترك بطريقة مناسبة (لا حرق جسور).
لقد أخبرني أصدقائي في الجيش أن قرار الإنسحاب هو أكثر العمليات العسكرية خطورة
لذا يعتبر إدراك اللحظة المناسبة للترك من أكثر القرارات صعوبة في حياه القادة لأن الترك مبكراً سيشعرك أنك هارباً ومستسلماً للصعوبات لا تملك الشجاعة والإصرار على استكمال مسؤوليتك بينما على الجانب الأخر التعلق أطول من اللازم سيجعل عملك الجيد السابق يتفكك وتعايش نتائجاً عكس المأمول. وهذا ما يثير السؤال المؤلم:-
ما هو الوقت الذي ينبغي فيه علي القائد الترك؟؟
إتخذت قرار الترك خلال كل فترة خدمتي (38 عاماً) خمس مرات وكنت مدركاً دائماً إني قد أتيت لكل كنيسة بحزمة من الرؤى والأولويات كانت ملائمة لوقتها. لكن لا أستطيع الهرب من حقيقة أن هذه الحزمة لها تاريخ صلاحية لا تعود بعده مناسبة لإحتياجات شعب الكنيسة. وإن هذا هو التوقيت المناسب للترك قبل أن يطرح شخص أخر هذه الفكرة.
إذن ما هي مؤشرات أفضل توقيت لإتخاذ قرار الترك؟ سنري ستة مؤشرات لتساعدك في إتخاذ هذا القرار المهم والصعب.
1) التنافر وعدم التجانس:
كنيسة جيدة وراع جيد لكن توافق سئ، شعب الكنيسة يحتاج إلي شكل بعينه من القيادة الرعوية لا يتوفر لدي الراعي الحالي ويمكن ان يحدث العكس، جاء الراعي إلي الكنيسة برؤية وأسلوب غير مقبول من شعب الكنيسة. فعندما يستمر هذا التنافر يكون قرار الترك ضرورياً.
2)تغيير في الشكل التنظيمي:
لابد وأن تصل الهيئات السليمة إلى نقاط في نموها يصبح وجود نوع جديد من القيادة أمراً ضرورياً إلا انه ليس كل راع قادر علي التكييف مع هذا. فالراعي الذي يعمل بأفضل صورة بمفرده تتصاعد عدم فعاليته عندما تحتاج الكنيسة إلي فريق عمل للتطوير والإدارة. الراعي الحكيم والمتواضع هو من يدرك أي وقت من حياه الكنيسة هو الأنسب له.
3) الركود والجمود:
ذهن الراعي، قلبه المتعاطف، ومواهبة المتميزة هي بمثابة «مخزونه الإستراتيجي» هذا المخزون يلزم تعزيزه بإستمرار. أحياناً يسيطر علي بعض الرعاه احساس عدم القدرة علي تنمية مواهبهم وقدراتهم وضعف نموهم الشخصي بسبب الانتظارات الكثيرة لشعب الكنيسة وعدم ادراكهم لضرورة ان يوفروا للراعي الأوقات المنتظمة للتجديد والإنتعاش لإستمرار القدرة علي العطاء المنتظر، وعندما يحدث ذلك .. فقدان قدرة الراعي علي الحفاظ على نموه وفي نفس الوقت قدرته على إشباع إحتياجات الكنيسة ويصل التعب والإجهاد إلى المرحلة المزمنة، حينئذ يكون قرار الترك ضرورياً.
4) الظروف العائلية:
أحياناً يكون نجاح الراعي في خدمته في موقع ما على حساب استقراره الأسري وتضرر ومعاناة الزوجة والأبناء، عندما يستمر ويتفاقم هذا الوضع فما الذي يحققه ويجنيه الراعي إذا كان ناجحاً في الكنيسة وفاشلاً في المنزل. تُمثل هذه الحالة مؤشراً قوياً لإتخاذ قراراً بالترك.
5) النهاية والبداية الجديدة:
رغم ان هذا المؤشر يعتبر من أفضل المؤشرات إلا انه يمكن ان يكون خادعاً لذلك يحتاج ويتطلب التفكير الهادئ العميق، الصلاة والخضوع والتسليم الروحي، مشورة ناصحين موثوقاً فيهم ومؤهلين لذلك.
فقد يري الراعي ان خدمتة في كنيسة معينة قد وصلت إلي نقطة الإنتهاء وان مزيداً من العطاء لن يقود إلي مزيد من التقدم والنمو بل فقط الاستمرارية، في حين يتلقى دعوة للخدمة في كنيسة اخري يري انها تتحدي رؤيته ووزناته وتبدأ أفكار خلاقة في التدفق إلي ذهنه ويمتلئ بإحساس إحتياج الحقل الجديد لعطائه ويشتعل بشوق للبداية الجديدة وتزامن ذلك مع موافقة أهل بيته وإرتياح المشيرين الموثوق بهم فيمتلئ تدريجياً بيقين الدعوة الألهية….حينئذ لا يجب التقاعس في إتخاذ قرار الترك مع الإدراك والتوقع للمشاعر الطبيعية الناتجة من صراع مشاعر الحزن النابعة من وداع الشعب الذي أحبه مع مشاعر الحماس الناتجة من التطلع إلي البداية الجديدة.
6) عامل العمر:
يواجه الراعي المسن التجربة المزعجة برغبة التشبث بالأستمرار مده أطول مما ينبغي، المحبة التي لديه نحو الشعب والمحبة التي لديهم من نحوه تمثل اكسير الحياة بالنسبة له. لذا أمر تسليم المهمة لشخص أخر غالباً ما تكون خارج نطاق تفكيره لأن الشخص والكيان توحدا معاً بلا رغبة في التمييز بينهما (أنا الكنيسة، الكنيسة أنا)، إلا إن عدم تسليم الراعي المسن مسؤولية الخدمة لأخر يعني بالتأكيد انه مُقبل علي فترة سيئة فيها يدمر -وبدون قصد منه- المزيد من الأشياء التي كان قد سبق وفعلها.
في حين عندما نبحث في الكلمة المقدسة سنري العديد من قرارات الترك، سنري موسي، صموئيل، داود، إيليا وهم يمهدون الطريق برضا وسلاسة لمن يخلفونهم.
– الاستعداد للمرحلة الأخيرة في حياتك:
الراعي اذا كان حكيما فإنه -مثل الطيار- عليه ان يكون مدركاً لممر بديل للهبوط في حالة حدوث خطأ ما..فكلما تقدم بك السن كلما ازدادت أهمية ان تضع خطة لحياتك، اتجاهاتك، وخدمتك عندما يتنهي دورك المؤسسي التنظيمي، لا يمكن ان تتجنب الدخول إلي المرحلة الأخيرة من حياتك دون هذه الخطة. فهولاء الذين يهملون هذا الأمر ويتغافلون عنه لسبب او لأخر سينتهي بهم الأمر إلي الغضب والمرارة ومشاعر الرفض من الأخرين حتى لو لم تكن معلنة بشكل صارخ. لذا من الأفضل وجود سبيل للإستمرار في خدمة الكنيسة العامة بطرق نافعة ومفيدة ومناسبة للمرحلة العمرية.
لذلك هنا ستة أسئلة لصياغة إستراتيجية مستقبلية صحيحة:
1) هل قمت مع شريكة حياتي بتنمية أصدقاء لا يرتبطون بدوري الرعوي الرسمي؟
2) هل أخذت في الإعتبار شكل ونوع الخدمة في حياتي عندما لا تعود متطلبات الخدمة الرسمية تقودها؟ وبالأخص ما استطيع من خلالها تشجيع وتعضيد القادة الأصغر سناً؟
3) هل حددت أفكار وخبرات تعلُم طويلة المدي قادرة ان تحفظ فكري وقلبي طيعاً؟
4) هل فكرت في ما ستكون عليه أحاسيسي وإنفعالاتي في حياه لم اعد فيها في موقع المركز في الكنيسة؟
5) هل بدأت في تدريب نفسي حتي لا أنزلق إلي إتجاه التحفز والنقد ضد هؤلاء الذين أصبحوا في موقعي ويتصرفون بطريقة مختلفة عن طريقتي؟ وحتي لا أكون هذا «الرجل المسن» الذي يسعي دائماً لإلتفاف الناس حوله.
6) هل درست حياه هؤلاء الذين انتقلوا بلطف وهدوء وكرامة إلي سني عمرهم الأخيرة في ثبات وحكمة وحياه الصلاه والتشجيع؟
ولأن إختيار اللحظة الصائبة للترك ليس أمراً بسيطاً او سهلاً ربما يكون من الحكمة للراعي ان يصارع مع قرار الترك مرة كل سنة يخصص فيها أياماً قليلة للفحص الذاتي، ولسماع وجهات نظر المشيرين الموثوق بهم، وللتقييم الموضوعي النزيه الذي اساسه هو الأهداف الموضوعية المحددة سلفاً.
وإذا تم إتباع هذا النظام فإنه عندما يحين وقت الترك سيأتي في توقيت تكون فيه لديك ثقة كاملة ان الرب قد تكلم، وان عملاً صالحاً قد تم إكماله وفق مشيئة الله الصالحة وان هناك فرصاً جديدة مازلت قائمة لشكل أخر للخدمة». (أنتهي المقال)
وفي الختام الأحباء حضرات الأباء، الزملاء، الأبناء القسوس تعالوا جميعاً معاً ندخل إلي محضر الهنا في تكريس صادق وصلاه أمينة وإنتظار واثق لسماع صوت الرب ليرشدنا إلى مؤشر او أكثر يخاطب حالة كل منا لنبدأ متكلين على نعمته في إتخاذ الخطوات اللازمة الحقيقية.
أمام هذه الحقيقة (قرار الترك)… ما هو قرارك؟؟

 

القس محسن منير

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية الراعي الأسبق للكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط الأمين العام الأسبق لمجلس المؤسسات التعليمية في سنودس النيل باحث وكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى