آراءوجهة نظر

صراع أم انعزال أم تكامل

الهدى 1219                                                                                                                               مارس 2020

من الطبيعي والمُسَلَم به أنه في كل مرحلة زمنية من مراحل الحياة البشرية يكون هناك فجوة بين الأجيال مختلفة الأعمار والأفكار والطموحات. ولقد وُجِدَ أنَّ التعامل مع هذه الفجوات عادة يتراوح بين ثلاثة خيارات لا رابع لهم وهم الصراع، الانعزال والتهميش، التكامل والتعاون.
يجتاز مجتمعنا المصري حاليًا مرحلة انتقالية صعبة تتشكل فيها أفكار واتجاهات ورؤى الشباب للانتقال من مرحلة القيود والخضوع المُطلق إلى مرحلة المزيد من الحريات والقدرة على التعبير في ظل بعض من الانفتاح الاجتماعي والثقافي والسياسي.
بالطبع، وقبل الاستطراد في أفكار المقال، نحتاج إلى أن يكون لدينا تعريفًا واضحًا لمعنى «جيل». في الواقع يَصعُب عمليًا وجود تعريف علمي دقيق، لكن عادة يتم استخدام تعريف افتراضي وهو «ْ إنّ الجيل يشمل كل أفراد المجتمع الذين يشتركون في نفس الظروف ويعيشون نفس المشاكل ويسعون إلى تحقيق نفس الأهداف والطموحات ولا يتجاوز الفارق بين أعمارهم عشرين عامًا» وانطلاقًا من ذلك يُمثل الأعمار من ٨١ عامًا وما فوق الجيل الأول، من ٦١- ٨٠ جيل ثاني، ٤١- ٦٠ جيل ثالث، ٢١- ٤٠ جيل رابع، وأقل من عشرين عامًا جيلاً خامسًا. ويبقى الفصل الحاد بينهم ليس واقعيًا بل تقريبيًا.
ومن خلال خبرة التاريخ والواقع المعاش نلاحظ أن العلاقة بين الأجيال -وبكل أسف- يَغلب عليها الصراع أو الانعزال والتهميش وليس التكامل والتعاون. فلقد أثبتت دراسات علم إدارة الأفراد أن ٤٠٪ من المشاكل بين العاملين سببها الرئيسي هو فجوة الأجيال وأن ٩٥٪ من الشباب يعانون من مشكلات بالغة يواجهونها في محاولتهم عبور الفجوة التي تفصل بينهم وبين جيل أبائهم وكانت أبرز هذه المشاكل هي صعوبة مناقشة ما يشغلهم وما يواجهونه وما يفعلونه مع الجيل الأكبر، بالإضافة إلى الهوة الواسعة بين أفكارهم وأفكار الجيل الأكبر. وليس فقط الأفكار لكن أيضًا المفردات والمصطلحات اللغوية المستخدمة في التعبير عن الأفكار.
وحتى لا نغرق في الصورة السلبية وكأنّ الأمر مشكلة بلا حل سنجد أن نفس الدراسات قدمت أفكارًا جادة لعبور هذه الفجوة وتبدأ بإدراك أنه وإن كانت العلاقة بين الأجيال قضية معقدة وشائكة إلا أنها في نفس الوقت قضية «محايدة» بمعنى أنه يمكن توظيفها للبناء أو استغلالها للهدم وذلك حسب أسلوب التعامل معها والذي يحدده بدرجة كبيرة دوافع وقيم وأفكار الأطراف المختلفة. لذا فإن التحدي الذي يواجهنا هو كيفية توظيف هذه الفجوات الطبيعية إلى عمل إيجابي وبناء. ولقد وضعت بعض الدراسات أربعة شروط أو متطلبات أساسية لإتمام ذلك نلخصها فيما يلي:

  1. ضرورة التشبع العقلي والوجداني العميق بحقيقة أن لا بديل عن مبدأ «تداخل وتكامل الأجيال لا انعزالها وصراعها» بحيث يتحول السؤال من «من يقود من؟» إلى «من يستطيع أن يقوم بماذا؟» فوجود الكبار والصغار معًا أمر ضروري لتحقيق أي هدف فالجيل الأصغر لا يجب أن يبدأ من الصفر بل ينطلق من حيث انتهى إليه الجيل الذي سبقه، والجيل الأكبر يحتاج إلى من يكمل المسيرة بما يتناسب مع مقتضيات ولغة العصر.
  2. أيضًا التشبع العقلي والوجداني العميق بحقيقة أن التنوع ظاهرة صحية وضرورية للحياة السليمة وبالتالي فإن سبل تحقيق الأهداف والتعامل مع المشاكل والوصول إلى حلول أمر به تنوع ليس قليل يسمح بل يَلزم أن تشترك فيه الأجيال المختلفة كل حسب ما لديها من قدرات وإمكانات دون استبعاد أو تهميش لأى جيل فأغلب الأعمال تحتاج إلى خبرات الكبار وحيوية وديناميكية الشباب.
  3. ضرورة التركيز على الأهداف والمقاصد أكثر من الاستغراق في الوسائل والأساليب. فطالما نحن متفقون على أهداف محددة مشتركة لنعطي الجميع حرية الحركة في ما يستخدمه من أساليب وأدوات لتحقيق هذه الأهداف، هذا بالطبع طالما كانت الوسائل والأساليب والأدوات المستخدمة مشروعة ولا تصطدم بقيم ونظام الكيان الذي يضم تلك الأجيال المتنوعة. لأنه متى تم الاتفاق الصادق والواضح على الأهداف سنتجنب الكثير من مواطن الصراع.
  4. ضرورة أن يكون دائمًا المعيار هو «الأعمال وليس الأعمار» أي أن الفيصل نوعية العمل فالإدراك المشترك أن لكل مرحلة عمرية جمالها وأيضًا ضعفاتها وبالتالي لكل مرحلة عمرية ما يناسبها من أدوار ومسؤوليات.

عزيزي القارئ لم أجد أفضل من ما سجله الروح القدس في رسالة بولس الرسول الأولى لكنيسة كورنثوس ٣: ٥- ١٠ لأختم به.. نحتاج أن نستعيده دائمًا ليعيد إلى أذهاننا صورة المناخ الصحي للعمل الجماعي في حقول خدمة ملكوت الله.
يقول: «فَمَنْ هُوَ بُولُسُ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى لَكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ السَّاقِي بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي. وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ. فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ بِنَاءُ اللهِ. حَسَبَ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاساً وَآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ. وَلَكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ».

القس محسن منير

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية الراعي الأسبق للكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط الأمين العام الأسبق لمجلس المؤسسات التعليمية في سنودس النيل باحث وكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى