كلمات وكلمات 1205-1206 -يناير وفبراير 2019
الهدى 1205-1206 يناير وفبراير 2019
«اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ.» يو 16 : 21
عندما نحتفل بعيد الميلاد، نحتفل بحدث وقع منذ ما يقرب من ألفى عام، وكلمة عيد تأتى من الإعادة والذكرى، فنحن نعيد الإحتفال بالميلاد كل عام، لكن الميلاد كفكر الله وفلسفته، لم يكن أبدًا حدث يقع فى إطار الزمان والمكان ثم تعاد ذكراه، فمصطلح الميلاد كما يذكره الكتاب المقدس إنما يعبر عن مفهوم إعطاء الحياة، وفى نفس الوقت يعبر عن نهاية الأزمنة أو الأيام الأخيرة، وبنظرة مدققة نرى فى الميلاد الكون كله فى حركة متكاملة لتكوينه وخروجه للوجود، وهذه الحركة دائمة ومستمرة، وهذا يعنى أن عملية الميلاد الدائمة والمتكررة للعالم تعطى مفهوما جديدًا لعملية الخلق والحياة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
ولكي ندرك هذا المفهوم عن الميلاد بوضوح علينا أن نرى هذا في ثلاث أفكار:
الفكر الأول: أن الميلاد هبة أو عطية من الله مباشرة
ويتضح هذا المعنى للميلاد من قصة سارة زوجة إبراهيم، ويتضح لنا أكثر من كلمات سارة نفسها «هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ الْوِلاَدَةِ.» تك 16 : 2 ، ومن هذا نفهم أن منح أو منع الحياة يعتمد على الله، وفى ولادة يوحنا المعمدان نجد تشابها مع ولادة إسحق الذي ولد لإبراهيم في شيخوخته، هذان الميلادان كانا لأباء وأمهات تقدمت بهم الأيام بلا ولد.
والإشارة فى كل هذا إلى الله واهب الميلاد والحياة، فعلى الرغم من أن البركة الأولى فى الخليقة لآدم وحواء هى أن الزوجين قد أخذا القدرة على إنشاء نسل، إلا أن استكمال أو مواصلة التناسل أصبح بركة روحية هى بركة إعطاء الحياة للجنس البشرى.
وكل هذا يختلف عن الميلاد العذراوي الذي فيه تجسد الله لكي يعطى حياة للعالم، فإن كانت ولادة الأم العاقر كحنة أم صموئيل أو ولادة الأمهات الطاعنات فى السن كسارة وأليصابات تعبير عن هبة الحياة المادية من الله، إلا أن الميلاد العذراوى يختلف، لأنه يتحدث عن نوعية جديدة من النسل، لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله، خليقة جديدة فى المسيح، آدم ثان، وهنا لا يعطى الله الحياة للإنسان لكنه يأتى ليصنع لنفسه نسلًا، لذلك يدعون أولاد الله.
الفكر الثاني: الميلاد إعادة للخلق سواء للأمة أو العالم أجمع
يقول إشعياء عن دينونة بابل «وَلْوِلُوا لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ قَرِيبٌ، قَادِمٌ كَخَرَابٍ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. لِذلِكَ تَرْتَخِي كُلُّ الأَيَادِي، وَيَذُوبُ كُلُّ قَلْبِ إِنْسَانٍ. فَيَرْتَاعُونَ. تَأْخُذُهُمْ أَوْجَاعٌ وَمَخَاضٌ. يَتَلَوَّوْنَ كَوَالِدَةٍ. يَبْهَتُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ لَهِيبٍ.» إش 13 : 6 – 8
فبابل التي وقفت كعدو لله سوف تخرب، وفى خرابها ستكون كإمرأة تتلوى فى ولادتها وفى الإصحاح 12 يحكي النبي الذي عاصر تحقيق الرؤيا واختبر بنفسه الآلام فيقول «لِذلِكَ امْتَلأَتْ حَقْوَايَ وَجَعًا، وَأَخَذَنِي مَخَاضٌ كَمَخَاضِ الْوَالِدَةِ. تَلَوَّيْتُ حَتَّى لاَ أَسْمَعُ. اَنْدَهَشْتُ حَتَّى لاَ أَنْظُرُ.» إش 21 : 3
وهذا الألم لم يكن نهاية بابل، فقد قاربت بابل على الموت لكنها عاشت بعد ذلك وأعيد خلقها.
وهو نفس ما حدث لأورشليم فى القرن الثامن ق. م كما يقول ميخا النبي «اَلآنَ لِمَاذَا تَصْرُخِينَ صُرَاخًا؟ أَلَيْسَ فِيكِ مَلِكٌ، أَمْ هَلَكَ مُشِيرُكِ حَتَّى أَخَذَكِ وَجَعٌ كَالْوَالِدَةِ؟ تَلَوَّيِ، ادْفَعِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ كَالْوَالِدَةِ، لأَنَّكِ الآنَ تَخْرُجِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَتَسْكُنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَتَأْتِينَ إِلَى بَابِلَ. هُنَاكَ تُنْقَذِينَ. هُنَاكَ يَفْدِيكِ الرَّبُّ مِنْ يَدِ أَعْدَائِكِ». ميخا 4 : 9، 10 وقد استخدم ميخا هذا المفهوم عن الميلاد ليعلن هزيمة إسرائيل وسبى شعبها وخلقها من جديد وفى هذا التحطيم والسبى، قاربت إسرائيل على الموت، لكنها وجدت فيه حياة جديدة.
وهنا نرى رحيل شعب إسرائيل من أورشليم المدينة المقدسة مكان الألم «الأم» وبرحيلهم يحس الشعب بمدى الخطر الذي ستتعرض له المدينة، والخطر الذي سيتعرضون هم له كطفل مولود حديثًا، ونتيجة لذلك سيظهر الله الذي سيحفظهم ويحميهم، وفى هذه الكلمات تطور مفهوم الميلاد، فلم يقف عند أوجاع الميلاد بل تعداه إلى خروج الطفل إلى العالم.
يقول إشعياء «مَنْ سَمِعَ مِثْلَ هذَا؟ مَنْ رَأَى مِثْلَ هذِهِ؟ هَلْ تَمْخَضُ بِلاَدٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ تُولَدُ أُمَّةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ فَقَدْ مَخَضَتْ صِهْيَوْنُ، بَلْ وَلَدَتْ بَنِيهَا! هَلْ أَنَا أُمْخِضُ وَلاَ أُوَلِّدُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَوْ أَنَا الْمُوَلِّدُ هَلْ أُغْلِقُ الرَّحِمَ، قَالَ إِلهُكِ؟» إش 66 : 8، 9 وهنا نرى ولادة أمة بكاملها من الألم.
وفى عصرنا الحالي، في عام 1989 كان هناك مخاض وولادة لبلدان أوروبا الشرقية، فقد تمخضت هذه البلاد كوالدة تتألم، حتى ولدت، وكان الطفل هو أيرلندا، وألمانيا الواحدة وسقوط الشيوعية فى تشيكوسلوفاكيا ورومانيا، لقد وصلت الآلام إلى حد الموت لينشق من هذا الموت عالمًا جديدًا، مولودًا جديدًا يرعاه الله، وتمخض الإتحاد السوفيتي وولدت روسيا وأوكرانيا ومناطق أخرى ونحن اليوم نعيش هذه الآلام بعد ثورة 25 يناير فى ترقب وخوف ورعب، وهذه الأيام هى أصعب الأيام، لكن عندما تأتى ساعة الولادة، سيكون المولود بين يدى الله، عندما تنبأ الرب يسوع عن خراب أورشليم قال تعبير «مبتدأ الأوجاع» وقال أيضًا «ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» والصورة هنا لامرأة تتماسك فى شدة الألم، وإذا صبرت إلى المنتهى فسوف تخلص، ونفس هذه التعبيرات توجه إلينا اليوم، فعلينا أن نتماسك والذي يصبر إلى المنتهى فسوف يخلص وعلى الكنيسة أن تقوم بدورها لولادة مصر جديدة، ديمقراطية – حرة – عادلة – قادرة على التعبير عن ذاتها، فى حالة المخاض نحتاج لكل الجهود حتى يأتى المولود كامل غير مشوه الخلقة أو العقل وفى رسالة رومية يقول بولس «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا.» رو 8 : 22، 23
وهنا نرى بولس يحتوى العالم كله فى مفهوم آلام الميلاد، فالطبيعة محاطة بالآلام بسبب الخطية، وفى هذه الأعداد يذكر بولس بأن الشيء المشترك الذي يربط العالم كله هو الأنين، وقد دعيت البشرية للحرية فى الإيمان ومجد أولاد الله، فالخليقة المادية من حيوان أو طير تشارك الإنسان نفس الآلام حتى تلد عالمًا جديدًا بلا ألم. يكون هو ملكوت الله.
والميلاد فى مفهومه إعادة الخلق، إنما هو علامة حب الله للجنس البشرى. وعبر الكتاب المقدس، نرى إتجاه العالم تاريخيًا نحو ملء «الميلاد» العظيم الذي سوف يلد ملكوت الله فولادة أوروبا الشرقية وآلام وولادة الشرق الأوسط وتتبعها وتعاصرها ولادات جماعية أخرى أو إعادة خلق من مجموعها سوف يولد العالم من جديد فى ملكوت الله، فمنذ ميلاد أول طفل فى العالم قايين «وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». إلى ولادة شعب الله، إلى ميلاد يسوع وفيه تمت الخليقة الجديدة، برؤيا عامة لمجد الله من خلال كل الخليقة، وهذه الخليقة الجديدة عمل الله وتعيش كشاهدة له في قلب الخليقة. هذا يأتى بنا الفكرة الأخيرة.
الفكر الثالث : الميلاد والكنيسة يو 16 : 16 – 24
مفهوم المرأة المتوجعة يظهر فجأة فى خطاب يسوع الوداعى للكنيسة فى يو 16، فنجده يقول لتلاميذه «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ.» يو 16 : 2 وكان تركيز التلاميذ وهمهم على كلمة «ساعة» فهذه الساعة تشبه ساعة المخاض.
وفى ع 16 يقول يسوع مفسرا كلمة ساعة «بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي» يو 16 : 16
وفى ع 17 يوضح أن التلاميذ لم يفهموا وكان تركيزهم على كلمة «قليل» فقال لهم موضحا «إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ». يو 16 : 20
المعنى هنا أنه ف الوقت الذي فيه يشتد حزنهم بسبب غياب يسوع المادى عنهم، سيكون هذا الغياب سبب فرح للعالم لماذا ؟!
يوضح يسوع قائلًا: «اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ». يو 16 : 21
فحزن وبكاء التلاميذ هو الوقت الذي تتوجع فيه المرأة عند الولادة، لحظة إنفصال الطفل عن المرأة، إختبار موت لكن تتفتح الحياة فى طفل يأتي إلى العالم فيحول الألم إلى فرح.
والسؤال هو: ما هي نتيجة آلام التلاميذ؟
فكلمة إنسان التي استخدمها يسوع «اَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ.» هي نفس الكلمة التي جاءت في تك 4 : 1 على لسان حواء عندما ولدت أول طفل فى العالم «وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً أو إنسانًا». وكلمة الشدة هى نفس الكلمة التي جاءت في «بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا» تك 3 : 16
فغياب المسيح المادى عن الكنيسة وحضوره الروحى، وآلام الكنيسة لغيابه هى آلام مخاض ولادة شعب جديد وملكوت جديد لله فألم الكنيسة يأتي في ولادة الأولاد.
وفى يو 16: 22 يقول يسوع «وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ» وهنا تحول كلام يسوع إلى سأراكم بدلًا من ستروننى، وهنا اطمأن التلاميذ إلى أن يسوع سيراهم بحبه وفرحه الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منهم، وهذا الفرح هو شكل للقدرة الجديدة على رؤية يسوع.
إمتيازات:
1 – فرح لا يستطيع أحد أن ينزعه «فَأَنْتُمْ كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ» يو 16 : 22
2 – عقول متفتحة تفهم كل شئ «وَفِي ذلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَسْأَلُونَنِي شَيْئًا.» يو 16 : 23
3 – قدرة على الدخول إلى الآب مباشرة «كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ». يو 16 : 23
والسؤال الآن هل الكنيسة في مصر تتألم لكي تلد؟ يقول الكتاب هناك آلام بلا ولادة يقول إشعياء «كَمَا أَنَّ الْحُبْلَى الَّتِي تُقَارِبُ الْوِلاَدَةَ تَتَلَوَّى وَتَصْرُخُ فِي مَخَاضِهَا، هكَذَا كُنَّا قُدَّامَكَ يَا رَبُّ. حَبِلْنَا تَلَوَّيْنَا كَأَنَّنَا وَلَدْنَا رِيحًا. لَمْ نَصْنَعْ خَلاَصًا فِي الأَرْضِ، وَلَمْ يَسْقُطْ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ.» إش 26 : 17، 18
فالآلام بدون حضور واضح لله، وبدون رسالة واضحة وهدف محدد، آلام غير مثمرة.
فمن خلال آلامنا يجب أن نكون قادرين على تبين بزوغ الحياة الجديدة، فعلامات الآلام ليست دليلًا دائما على الحياة.
وإن كنا نريد مفهومًا معاصرًا للميلاد، فليس له مفهوم أكثر من أن تتألم الكنيسة لكي تلد وتخلق إنسانية جديدة سواء في وطنها أو مواطنيها.