آلام المسيح النفسية
الهدى 1230 أبريل 2021
من منا لم يشاهد الأفلام التي جسدت شخصية الرب يسوع المسيح له كل المجد؟! بالطبع معظمنا شاهد الأفلام التي قدمت شخص المسيح، وتأثرنا جميعًا ونحن نشاهد آلام السيد المسيح الجسدية. لكن يوجد جانب غير مرئي في آلام المسيح، وهو آلامه النفسية. وهي بلا شك آلامٌ قاسية جدًا يجب أن تؤخذ في الاعتبار. لكن قبل أن نبدأ التأمل في آلام المسيح النفسية، لا بد أن ندرك لاهوتيًا حقيقة أن المسيح إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ، فكمال إنسانيته يعني أن لديه فكر وإرادة ومشاعر كباقي البشر، وكمال إلوهيته يعني أنه الله الظاهر في الجسد. ولكونه إنسانًا كاملًا فهو يتألم نفسيًا مثل أي إنسان. وإن كنا نتكلم كثيرًا عن لاهوت المسيح، فيجب علينا أيضًا أن نتكلم عن ناسوته، نتكلم عن إنسانيته. فإن الصورة الحقيقية التي خلق الله الإنسان عليها هي صورة المسيح، فالمسيح هو الصورة الوحيدة للإنسان الكامل. لكن في الصليب أُهينَت إنسانيته من كثرة الآلام النفسية والجسدية التي قاساها. ولكن تُرى ما هي طبيعة الآلام النفسية التي تحملها المسيح في الصليب؟
أولًا: الحزن والاكتئاب.
كان المسيح في أثناء صلاته في بستان جثيماني يعرف أن ساعته قد جاءت، فلما جاء إلى ضيعة جثسيماني، قال لتلاميذه:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». (مرقس 14: 33ــ 34) وهكذا شعر المسيح أن حزنه الشديد سيقتله، إذ كان يتوقع كَم من الآلامٍ سيقاسيها بعد بضع ساعات. يُقَال كثيرًا أن الاكتئاب هو المرض النفسي الأكثر انتشارًا هذه الأيام بين البشر وأشدهم. لقد كان الحزن والاكتئاب هو بداية الآلام النفسية التي اجتازها المسيح حيث حمل عنا الحزن والاكتئاب، لذا يجب علينا نحن كمؤمنين ألا نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم، لأنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. (أش 53: 4)
ثانيًا: الظلم والإذلال
إن كان هناك مظلومًا في أحد السجون وسألناه: «ما أكثر الأمور المؤلمة لك في سجنك؟» حتمًا سيقول: «طعم الظلم سيءٌ جدًا.» فالإنسان المظلوم يشعر أنه سينفجر بالصراخ من شدة الكبت والقهر. لكنَّ المسيحَ «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.». (إشعياء 53: 7) ويؤكد إنجيل مرقس على براءة المسيح من كل التهم المنسوبة إليه أثناء محاكمته أمام مجمع السنهدرين في دار قيافا رئيس الكهنة، حيث كانوا يبحثون عن تهمةٍ له يبررون بها أنه مستوجب الموت. فأقاموا عليه شهود زورٍ حتى تكون المحاكمة قانونية، لكن لم تكن شهاداتهم متفقة. (مر14: 56) وكان من الضروري أن تكون شهادة الشهود متوافقة بحسب الناموس، لكنهم لم يستطعوا فعل ذلك حتى بعد عدة محاولات. وهو ما تنبأ عنه داود النبي قائلًا: «لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ.» (مز 27: 12).
لم يستطع الكهنة إثبات أية تهمة على المسيح، مما جعل رئيس الكهنة يوجِّه سؤالًا مباشرًا للمسيح قائلًا له:«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ.» فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ. (مر 14: 61ــ 64) فأخذوا يسوع للمحاكمة المدنية أمام بيلاطس بتهمة التجديف. الجدير بالذكر أن بيلاطس لم يكن مقتنعًا نهائيًا بوجود أية علة على يسوع تستحق الموت، لكنه فعل ذلك إرضاءً لليهود، لدرجة أنه «أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً:«إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ!» (متى 27: 24) لكن رغم كل ما قاله وفعله بيلاطس، هذا لا يلغي أنه قاض ظالم وقاس، إذ حكم بقتل القدوس البار إرضاءًا للناس.
إن الشعور بالظلم هو أقسى المشاعر السلبية التي يعاني منها الإنسان، والتي قد تولد لديه الرغبة في الانتقام ممن ظلموه، كي يحقق العدالة لنفسه. خاصة لو أن العدالة لم يحققها القضاء. إلا أن المسيح لم يفعل ذلك، إذ أنه ظُلمَ ولم يفتح فاه. وعندما فتح فاه على الصليب طلب الغفران لأجل ظالميه قائلًا: «يَاأَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». (لو 23: 34) لذا نستطيع القول أن البطل في معظم الروايات يأخذ حقه من ظالميه، فالبطولة في الروايات أو في الأفلام هي بطولة الانتقام، أما بطولة المسيح فقد كانت بطولة الغفران.
ثالثًا: السخرية والاستهزاء.
لقد جرت العادة في أيامنا هذه أن يُسأل الإنسان المحكوم عليه بالإعدام عن آخر أمنية له في الحياة قبل أن يموت، وتتنوع الإجابات. لكن المسيح لم يُسأل عن هذا. لقد كان العسكر الرومان غاية في القسوة. إذ أنهم تفننوا في الاستهزاء به له كل المجد لمجرد أنه أجاب بالإيجاب عندما سأله بيلاطس قائلًا: «أَأَنْتَ مَلِكُ اليَهُودِ؟» (مت 27: 11) فاستغل عسكر الوالي هذه الكلمة ليسخروا منه «فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ:«السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ.» (مت 27: 28 ــ 30) لقد أُهينَت كرامة المسيح في الصليب من كثرة السخرية والاستهزاء به. كما أنه تحمل الكثير من الإهانات الأخرى حيث أنهم «بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَموهُ قَائِلِينَ:»تَنبَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبكَ؟» (مت 26: 67) وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ (مر 15: 24)
إنَّ أيَ إنسان يشعر أن الآخرين يهزأون به يغتاظ بشدة، وخاصةً لو كان شخصًا ذو مكانة علمية أو اجتماعية. لكن المسيح لم يكن له مجرد مكانة علمية أو اجتماعية، فهو كلي العلم والقوة والقداسة، ومع ذلك قَبِلَ كل هذه الإهانات، لأنه أتى إلى الصليب طوعًا واختيارًا. فيجب على كل مؤمن به أن يقبل الاستهزاء بروح الشكر والفرح، لأنه حُسب مؤهلًا أن يُهان من أجل اسمه. إنه جزءٌ من حمل صليب المسيح. فيا له من شرف عظيم لنا كمؤمنين أن يُسَتهزأ بنا كما حدث لسيدنا، فإننا بهذا اشتركنا في آلامه.
رابعًا: الوحدة والترك
يحتاج كل إنسانٍ وقت الألم أن يشعر بالقريبين منه، كي يخففوا الألم عنه، لأن تواجد المقربين للإنسان يُعتبر من العوامل الهامة في تحمل ذلك الإنسان الألم، لكن المسيح وقت ألمه لم يحدث معه ذلك، إذ تَرَكَهُ التَّلامِيذُ كُلُّهُمْ وهَرَبُوا (مت 26: 56) بل أنكر بطرس معرفته، ويهوذا كان مسلمه. لكن الأمر الأكثر أهمية هو أنه شعر أن الآب أيضًا قد تركه، فقد «صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ (مت 27: 46) إن الشعور بالوحدة وقت الألم هو شعورٌ مؤلمٌ جدًا. لكن إن تُرَك المؤمن وحده متألمًا، لن يتركه الرب بحسب وعده: «لا أهملك ولا أتركك.» (يش 1: 5)
خامسًا: الرفض والكراهيه
لدى كل إنسان منا احتياج نفسي أن يكون مقبولًا وسط أقاربه وفي مجتمعه، ويا حبذا إذا أحبه الأقرباء وقبلوه بلا شروط. وبالطبع كل واحدٍ منا لديه بعض المميزات وأيضًا بعض العيوب، مميزاتنا تُقرِّب الناس إلينا، لكن عيوبنا قد تجعل الآخرين ينفرون منا، ولا يريدون التعامل معنا. أما المسيح لم يكن فيه أية عيوب تجعل الناس ينبذونه، فهو القدوس البار الذي «لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.» (لو 23: 41) ومع ذلك قال عنه الرسول يوحنا: «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.» (يو1: 11) لقد أحسن الرب يسوع في كل شيء قولًا وفعلًا، ومع ذلك رفضوه وأبغضوه. لذا قال الرب يسوع هذه الكلمات عن نفسه: «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ.» (يو15: 24ــ 25)
إن الشعور بالقَبول هو من أهم الاحتياجات النفسية التي يحتاجها الإنسان مهما كان ناضجًا. لقد اجتاز المسيح ألم الشعور بالرفض والكراهية نتيجة أنه تبنى الحق، وعَمل كل ما هو حق. حتى أنهم من كثرة بغضهم له رفضوا ملكوته عليهم، إذ كانوا يصرخون قائلين: «لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إلَّا قَيْصَرَ!» (يو 19: 15) ولأن بيلاطس كان متأكدًا من أنه بريء قال لهم: «إِنِّي بَريءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ!» فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا.»» (مت 27: 24ــ 25)
سادسًا: الغدر والخيانة
إننا نتألم جميعًا من غدر من كنا نظنهم أنهم محبون، إذ أننا نتوقع الإخلاص من الأصدقاء والأحباء، فنقول مثلًا بلغتنا الشعبية البسيطة: «إن فلان هذا لا يمكن أن يخون العيش والملح.» لكن المسيح تمت خيانته بواسطة يهوذا التلميذ الذي كان يغمس يده مع المسيح في الصحفة. نعم، يهوذا الذي استأمنه الرب على صندوق العطايا، لكنه لم يكن أمينًا لا في المال ولا في علاقته بمعلمه. لقد كان يهوذا إنسانًا طماعًا محبًا للمال، حتى أنه باع المسيح بثلاثين من الفضة، وهو ثمن عبد زهيد في تلك الأيام. ويمكن القول أن حبه للمال هو السبب الرئيسي لخيانته المسيح. ولقد اتفق معهم على علامة التسليم (القبلة). يا للعجب القبلة التي من المفترض أن تكون علامة المحبة تصبح لدى يهوذا علامة الغدر والخيانة. وهذا ما قاله الرب يسوع ليهوذا عندما دنا منه ليقبله: «يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تًسَلَّمُ ابْنَ الإنْسَانِ؟» (لو 22: 48)
وأخيرًا: لقد أخذ الرب يسوع كل المشاعر السلبية السيئة، كي يُبدلها لنا بالمشاعر الإيجابية، أخذَ الحزن والاكتئاب كي يعطينا الفرح والتعزية. أخذ الظلم والذل كي يُعطينا العدل والكرامة بقوله «انصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم». أخذ السخرية والاستهزاء، كي يعطينا العزة والكرامة والمجد. تُرِكَ وحيدًا وقت ألمه، كي يعطينا المعية بقوله: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ.» كان مرفوضًا من خاصته، كي يعلمنا أن نقبل بعضنا، ونحب بعضنا بعضًا بلا شروط. وأخيرًا، غُدِرَ به من تلميذه، كي يعلمنا أن نكون مخلصين في محبتنا بعضنا نحو بعض، فنعيش في أمانٍ وسلام.