مقالات

أنسى وأمتد

الهدى 1246                                                                                                      أغسطس – ديسمبر 2022

اعتدنا أن نقسِّم الزَّمن إلى ثلاثة: الماضي والحاضِر والمُستقبَل. الماضي هو الذي ذهب ولم يبقَ منه إلَّا الذِّكرى، والحاضر لحظات في طريقها إلى ذلك الماضي، وأمَّا المستقبل فهو الذي ما يزال في طريقه إلى التَّحقيق سواء على المدى القريب والبعيد. ونستطيع أن نستحضِر تلك الأزمنة الثلاثة في لحظة واحدة حاضِرة، وذلك حين نستحضِر الماضي بمَلَكَة التَّذكُّر، ونستحضِر الحاضِر بمَلَكَة الانتباه، ونستحضِر المستقبَل بمَلَكَة الأمل.
هذا ما عمله يوسف بن يعقوب في لحظة تاريخيَّة حاضرة بارزة، فقد وقف بين الماضي والمستقبَل. ذلك عندما وُلِدَ له ابنان، فأطلَق على الأوَّل اسم «منسَّى»، وعلى الثَّاني اسم «أفرايم» بحسب قوله: «دعا يوسف اسم البِكر منسَّى قائلًا لأنَّ الله أنساني كلَّ تعبي وكلَّ بيت أبي. ودعا اسم الثَّاني أفرايم قائلًا لأنَّ الله جعلني مُثمرًا في أرض مذلَّتي» (تك 31: 51، 52).
وعلى المثال نفسه، نقف بين عامَيْن، ونستطيع، ونحن في هذه اللحظة الحاضرة، أن نقف وقفة يوسف، فنُطلِق على العام الذي مضي «منسَّى»، حيث يُنسِينا الله كلَّ تعبٍ، ونُطلِق على العام الجديد «أفرايم» حيث يجعلنا الله مُثمرين في أرض غُربتنا. وبينما نتابع ما حدث مع يوسف، حين ذهب إلى أبيه لكي يبارك له على هذين الحفيدين، وإذْ كانت عيناه كليلتين ولم يستطيع أن يعرف منسَّى من أفرايم، قرَّب يوسف ابنه البكر «منسَّى» إلى يمين أبيه، لينال البركة الأكبر، بينما قرَّب «أفرايم على يساره. أمَّا يعقوب فقد عَكَسَ يديه، ووضع يده اليُمنى على أفرايم، بقصدٍ تامٍّ منه، لينال البركة الأكبر والأوفر، وكأنَّى به يقول: «المستقبَل سوف يكون أفضل وأوفر»، «فقدَّم أفرايم على منسَّى» (تك 48: 1، 2، 13-20).
هذا أيضًا عين ما فعله بولس، إذْ وقف في لحظة حاضرة بين الماضي والحاضر، مُتشبِّهًا بيوسف، وقال قولته الشَّهيرة: «ولكنِّي أفعلُ شيئًا واحدًا، إذْ أنا أنسى ما هو وراء، وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام» (في 3: 14)، وكأنَّه يشير إلى منسَّى وأفرايم. فهو يريد أن ينسى الماضي بمآسيه وإخفاقاته، وأيضًا بإنجازاته وامتيازاته. فإنَّ تذكُّر مآسي الماضي يمكن أن تضُرُّ بالحاضر والمستقبل، وتقوده إلى اليأس والإحباط. كما أنَّ تذكُّر إنجازات الماضي يمكن أن تضرُّ أيضًا بالحاضر والمستقبل، حيث تقوده إلى الإحساس بالاكتفاء بما أُنجِز. لكنّه عزم أن ينسى هذا وذاك لكي ينطلِق إلى المستقبَل ويُحقِّق الغرض الذي دعاه الرَّبُّ إليه.
هذا ما يجب أن نفعله نحن أيضًا في هذه الوقفة التَّاريخيَّة الحاضرة، فننسى ذلك الماضي لكي نمتدُّ إلى هذا المستقبل، وبقدر ما ننسى سوف نمتدُّ. مُمتلئين بالرَّجاء أنَّ «أفرايم» المُستقبل سوف يكون مُباركًا ومثمرًا أكثر من «منسَّى» الماضي، فنختبر القول «أنسى ما هو وراء، وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع.
اترُكها..
اختبرنا في العام الفائت أحداثًا مؤلِمة، سواء على المُستوى الدّوليّ والمحليّ، أو على المُستوى العائليّ والشَّخصيّ. لكن، لا بُدَّ أنَّ هناك أيضًا أحداثًا مُفرِحة. هذه طبيعة الحياة، توتُّرٌ دائمٌ بين لونَيْن مُتناقِضَيْن، وحالتَيْن مُتضادتَيْن. فلنسمع قول المسيح: «اترُكها هذه السَّنة أيضًا.» (لوقا 13: 8). فرغم أنَّ قدوم عام جديد مناسَبة مُحبَّبة لنا جميعًا، وكلٌّ مِنَّا يحتفل بها بطريقته، إلَّا أنَّنا نمتلئ بالتَّفاؤل والأمل مع بداية أيِّ عامٍ جديد، أو مرحلةٍ جديدة، راجين تحقيق الأمنيات. وهكذا نُعلِّق آمالًا كبيرة على عام جديد، هكذا يبدأ كلّ عام بمثل تلك الأماني والتَّهاني. ورغم أنَّ عجلة الزَّمن تدور كعادتها، سنة تلو الأخرى، إلَّا أنَّ الأيام تبقى على حالها في دورتها، ولا يتغيَّر إلَّا الإنسان في تفكيره وأخلاقه ومشاعره. قد يتحوَّل المُحِبّ إلى مُبغِض، والصَّدِيق إلى عدوٍّ، والأمين إلى خائن، والمُتواضع إلى مُتكبِّر…. أو العكس. قد تمرُّ بنا أيام نُصادف فيها عكس ما نتمنَّى، وقد تبدو الحياة أحيانًا مُظلِمة ومُعقَّدة عندما نواجه تجارب صعبة وضيقات قاسية… في كلِّ هذا لا تدَع إخفاقاتك تُسيطر عليك، فالظُّروف القاسية مؤقَّتة ولن تدوم، ونحن نتعلَّم منها دروسًا لن نتعلَّمها في أوقات السَّعادة والنَّجاح. وفي الوقت نفسه لا تدع إنجازاتك تسيطر عليك وتُسقطك في فخِّ الاكتفاء. وعندما نودِّع ذلك العام ونستقبِل هذا العام، لنتحلَّى بما قال يوسف وبولس: ننسى لنمتدّ، ونسمع قول المسيح المُبارك «اترُكها هذه السَّنة أيضًا.»
فإنَّه بعد أنْ دعا النَّاس إلى التَّوبة والعودة إلى الله، بيَّن لهم أنَّ الله عندما يتمهَّل في إجراء دينونته العادلة على الخطاة، إنَّما ليُعطيهم فُرصة للإصلاح والتَّوبة والحياة المُثمرة. واستخدم «الشَّجرة» كوسيلة إيضاح لفِكرته، مُشيرًا إلى الأمَّة اليهوديَّة. فإنَّ ثلاث سنواتٍ وقتٌ كافٍ لشجرةِ تينٍ لتُعطي ثمرًا، وهي إشارةٌ إلى العصور الثلاثة التي مرَّت بها تلك الأمَّة: عصر القُضاة، وعصر الملوك، وعصر الكهنة. وهي أيضًا إشارة إلى عدد السِّنين التي وعظهم فيها المسيح.
أمَّا قوله «اترُكها» فلا يعنى أنَّه يريد أنْ تكون تلك الشَّجرة عقيمة وضارَّة، لأنَّه يسعى دائمًا لإصلاحها لكي تُثمِر. وذات مرَّة لعن شجرة تينٍ فيبسَت في الحال، ليس فقط لأنَّها كانت غير مُثمرة، بل لأنَّها أصبحت ضارَّة، إذْ كانت تشغل محلّ شجرة أخرى يمكن أنْ تكون أفضل منها، وتأخذ عَبثًا بعض قوَّة الأرض المُغذيَّة لأشجارٍ أخرى. هكذا كان حال الأمَّة اليهوديَّة يوم جاء المسيح، أمَّة غير مُثمرة ومُضرَّة. لقد عصَوا أوامر الله وأعثروا غيرهم، وصوت القضاء الإلهي العادل يقول: يجب أنْ تُقطَع تلك الشَّجرة. لكن الوسيط الوحيد بين الله والنَّاس تدخَّل وطلب لأجلها مُهلَة أخرى، ليسعى في إصلاحها وإثمارها لعلَّ مساعيه تنجح في سنة أخرى جديدة. وهكذا طلب من الآب لأجل تلك الشَّجرة: «اترُكها هذه السنة أيضًا، وسوف أنقُب حولها، مُستعملًا وسائط النِّعمة المُناسبة لتَغذيتها وتنشيطها.» هذا ما يعمله المسيح أيضًا في عام جديد، مع الأفراد والكنائس والجماعات، حيث يعطينا فرصًا جديدة، مُتعهِّدًا إيَّانا بنعمته، علَّنا نتجاوب معها، فنختبر ما اختبره يوسف وبولس.
وقفة بين الماضي والمستقبل
يتولَّد الحاضر مِن الماضي، والمُستقبل يتفتَّق عنهما معًا، وحياة الإنسان لا تعرف القفزات والطَّفرات إلَّا نادرًا، وما نعتقد أنَّه انقلابٌ في الأحداث أو تغييرٌ مُفاجئٌ هو في الحقيقة ثمر أحداث مُتوالية ومُكثَّفة ومُتصاعِدة من الماضي البعيد والقريب. ومَن يزرع مُبكرًا يحصد قمحًا، ومَن يزرع مُتأخِّرًا يحصد قشًّا. هناك مَن يركِّز في تفكيره على ماضيه أكثر مِن حاضره، ذلك هو المُتشائم. وهناك مَن يركِّز على حاضره أكثر من ماضيه، وذلك هو المُتفائل. وهناك مَن ينظر إلى الماضي والحاضر نظرة عاطفيَّة تتَّسِم بالحُبِّ أو الكراهية، فيحبّ بعض الأشياء ويكره بعضها الآخر. وهناك مَن ينظر إليهما نظرة عقلانيَّة تتَّسِم بمعرفة القيمة الحقيقيَّة للأشياء.
نفهم ذلك بالنَّظر إلى حالة طالبَيْن فشلا في دراستهما: الأول، ينظُر إلى ماضيه وحاضره نظرة عاطفيَّة، فيفكِّر دائمًا في الفشل الذي ألمَّ به في الماضي، وخيبة الأمل التي تنتظره في المستقبل. والثَّاني، ينظُر إليهما نظرة عقلانيَّة، فيدرس أسباب هبوط مُستواه في العام الماضي، ويُعدِّل تعديلًا جذريًّا في طريقة استذكاره لدروسه في العام الحالي. فتكون النَّتيجة أنَّ الأوَّل يستمرُّ في الفشل، بينما يحوِّل الثاني فشله إلى نقطة انطلاق نحو النَّجاح والاستمرار فيه. هذا ما يعمله رجل المحراث الذي تكلَّم عنه المسيح في (لوقا 9: 62).
رجُل المحراث
رسَم المسيح صورة رائعة عن الوقت في ملكوت الله، رجلٌ يقود مِحراثًا في حقلٍ. ولكي يسيطر على محراثه فإنَّه يستعين بخبراته ومهاراته. فهو يستخدم المحراث في عمل خطوط مستقيمة في الأرض ليزرع فيها بذوره ولتسري فيها المياه لتصِل إلى تلك البذور. هذه هي رؤية رجل المحراث دائمًا، وهو يسير بمنهج بولس، فيترك وينسى لكي يمتدّ ويصل إلى الهدف. فإذا لم تكن لدينا مِثل تلك الرُّؤية فإنَّنا نُشبه الذين يتجوَّلون في أرض مليئة بالمُستنقعات، بلا أمل ولا هدف. ماذا يفعل رجل المحراث ليعمل خطوطًا مُستقيمة في حقله؟
(1) الهدف الواضح
يثبِّت عينَيْه على نقطة مُعيَّنة في نهاية الحقل، ويتحرَّك نحوها بدقَّة بينما يقود محراثه. لا ينظر إلى أسفل، لئلَّا يغرق مثلما حدث لبطرس في الماء، ولا ينظر إلى الوراء، لئلَّا يصير عمود ملح مثلما حدث لامرأة لوط في سدوم. إنَّ تحديد وتثبيت الهدف أمام أعيُننا يجعلنا نتحرَّك في خطٍّ مُستقيم نحوه.
(2) التَّركيز عليه
يندفع نحو الهدف ولا يفكِّر في أمور أخرى تشغَله. وكلُّ عضلة في جسمه تتحرَّك استجابة لذلك الهدف، وذهنه لا يتجوَّل هنا وهناك حتى لا يتشتَّت.
(3) السَّيطرة على الظُّروف
يده ثابتة على المحراث، يحترس من ذبذبات الثِّيران التي تجُرُّ المحراث، فيُسيطر هو عليها وليس العكس. ويسيطر على مشاعر اليأس التي يمكن أنْ تعتريه أثناء سيره بالمحراث. فرُغم ضغوط الحياة العصريَّة ومآسيها، فإنَّنا نستطيع أنْ نصنع خطوطًا مُستقيمة في حقل الحياة، طالما كان الهدف واضحًا، وأعيُننا ثابتة عليه، ونُسيطر على ظروفنا ومشاعرنا. فننسى ونمتدّ مع كل لحظة حاضرة.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى