أيوب … النبي الذي رأى الميلاد
الهدى 1217 يناير 2020
يخبرنا الكتاب المقدس، أن حدث ميلاد المسيح في العالم، لم يأت صدفة ولا فجأة، بل الله حضّر لهذا الحدث منذ القديم، من خلال الآباء والأنبياء. فهناك الكثير من المراجع الكتابية والنبؤات في كتب العهد القديم، والتي قد تصل إلى 300 مرجع، تشير إلى المسيّا المنتظر، الذي جاء إلى عالمنا في طفل بيت لحم باسم يسوع المسيح.
يقول الرسول بطرس في رسالته الأولى، «الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت، الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، اذ سبق فشهد للآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها» (1بطرس 1: 10). وبكلمة أخرى، يقول الرسول بطرس إن أنبياء قدماء كان فيهم روح المسيح، وتنبأوا عن عهد النعمة الذي تحقق في المسيح.
في حواره مع بعض اليهود، في إنجيل يوحنا الأصحاح الثامن، قال المسيح لهم، « أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح». وعندما تفاجا اليهود بقول المسيح هذا أجابوه، «ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟ حينئذ أجابهم المسيح، الحق الحق اقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنا 8: 56-57)، معلنا لهم بأنه كان موجودا، قبل أن يوجد إبراهيم الذي عاش منذ 2000 سنة، قبل مجيئه إلى الأرض. وأن إبراهيم نفسه تهلّل بأن يرى يوم المسيح، فرأى وفرح. وبالتالي، هل نستطيع أن نبني على قول المسيح هذا، بأن المسيح أيضًا كان في فكر أيوب، وأنه اختبر ومضات من ميلاده؟ يخبرنا سفر أيوب عن المصائب الكثيرة التي حلت به، اذ خسر عائلته وأملاكه وصحته، ولم يستطع أن يفهم، لماذا انهالت كل هذه المصائب عليه، مع أنه كان أمينا وصادقا ومحبا لله. لكن وسط آلامه وجلوسه في وادي ظل الموت، رأى نورا يشرق عليه، كما أشرق على «الشعب السالك في الظلمة، والجالس في أرض ظلال الموت» (إشعياء 9: 2)، مما جعل أيوب، يتمنى أن يتمكن من كتابة ونقش كلمات خالدة على الصخر، بقلم من حديد ورصاص، لتدوم وتدوم وتشهد لعظمة رؤية مميزة، «ليت كلماتي الآن تكتب. يا ليتها رسمت في سفر، ونقرت إلى الابد في الصخر، بقلم حديد وبرصاص.» (أيوب 19: 23). يظن بعض المفسرين، أن تلك الرؤية، قد تكون رؤيته ليسوع المسيا؟ هذه هي كلمات رؤياه، «أما أنا فقد علمت أن وليّي حيّ، والآخر على الأرض يقوم. وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس أخر. إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي»(أيوب 19: 26-27).
إن عبارة «أما أنا فقد علمت أن وليّي حيّ»، هي المفتاح الأساسي لفهم اختبار النبي أيوب. فكلمة «وليّ»، بالأصل العبري، وبحسب تقليد يهودي تذكره الشريعة، تعني « الشخص الأقرب في العائلة الذي يأتي، ليفدي أو يخلّص، أخيه أو قريبه من أزمة أو صعوبة وقع فيها، وليعيده إلى حالته السابقة. وقد تكون الأزمة، اما فقر أو أسر في العبودية أو غيرها. مثلًا، تقول شريعة اللاويين في الأصحاح 25:25 «إذا افتقر أخوك، فباع من ملكه، يأتي وليّه الأقرب اليه، ويفكّ مبيع أخيه». وبالتالي، فالوليّ، في المعنى الاجتماعي العبري، هو الفادي أو المخلّص، الذي يفدي ويخلص وينقذ، قريبه الأقرب اليه من محنته. الا أن لقب الوليّ، قد استخدم أيضا في الكتاب المقدس كأحد ألقاب الله، كونه فدى أو خلّص الشعب اليهودي بإخراجهم بواسطة النبي موسى من أزمتهم الاجتماعية والروحية كونهم عاشوا أربعمائة سنة في العبودية في مصر. وأيضا كون أن الله، هو وليّ أولاده المؤمنين الذي يأتي إليهم، كيما يفديهم ويخلّصهم من محنهم، التي يواجهونها في حياتهم اليومية. يقول النبي إشعياء، مستخدما لقب الولي لله، «أرحمك، قال وليّك الرب» (إشعياء 54: 8). أيضًا قال المرنم، «والله َالعلي، وليّهم» (مزمور 78: 35). «يا رب صخرتي ووليّي» (مزمور 19: 14). وللعودة إلى اختبار أيوب، يرى بعض المفسرين، أن قول أيوب، «أما أنا فقد علمت أن وليّي حيّ» (أيوب 19: 25)، له سياق أوسع وأبعد وأعمق، من السياق الاجتماعي العبري، لكلمة «ولي»، وبالتالي، فالسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه: من هو وليّ أيوب؟ هل هو شخص بشري؟ فاختبار أيوب في علاقته مع البشر، كان اختبارًا سلبيًا جدًا. فأيوب عاش وحيدًا في عزلة كاملة. لقد خسر عائلته وأملاكه، وهجره أقرباؤه. أما أصدقاؤه الذين أتوا لتعزيته، فقد فشلوا في مهمتهم وانقلبوا عليه وصاروا يعيّروه ويتهموه بارتكاب الخطايا ضد الله، لهذا قالوا انه مستحق لمصائبه. وبالتالي، فأيوب بحاجة ماسة، لمن يفديه ويخلّصه من أزمته المتعددة الأوجه، لا سيما أزمته الروحية، المتمثلة في صمت الله، أمام مواجهته لكل تلك الآلام، وشعوره بغضب الله عليه.
ولكن من هو هذا الولي الأقرب إليه، الذي سيسرع إلى نجدته ويفديه ويخلصه من آلامه ويعيده إلى حالته السابقة، وينصفه بالإعلان بأن أزمته ليست قصاص الله عليه، وإنما فقط امتحان الله لإيمانه وثباته في محبته، وسط آلامه؟ إن لم يكن وليّ أيوب شخصا بشريا، فهو طبعًا شخص سماوي. ومن خلال كلماته، نفهم أن هذا الولي، ليس بعيدًا منه ولا غريبًا عنه، لكنه وليّه الشخصي «وليّي». وأيضًا نفهم أن هذا الولي ليس شخصًا ميتًا، لكنه حي، «أما أنا فقد علمت أن وليّي حيّ». والحي هي صفة إلهية، كما يصف النبي إشعياء الله، « أما الرب الاله فحق، هو إله حي، وملك أبدي» (إشعياء 10:10). فأيوب يتوق للحصول على امتياز واختبار رؤية وليّه الله بأم عينيه. ويشدّد على هذا الرغبة بتكراره كلمة «رأيت» ثلاث مرات. «وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس اخر. إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي». انه يرغب برؤية وليّه، كيما يطلب منه الاسراع في فدائه وتخليصه من حالته المأساويه، وانصافه واعادته إلى حالته السابقة. وهنا ينقسم المفسرون، ليظن بعضهم أن أيوب يرغب في الحصول على هذا الاختبار قبل موته، بينما يظن البعض الآخر أنه يرغب بذلك بعد موته.
في سياق ايماننا المسيحي بوجود العديد من المراجع الكتابية والنبؤات في العهد القديم، التي تشير إلى المسيّا الذي جاء في شخص يسوع المسيح في العهد الجديد. يميل بعض المفسرين المسيحيين إلى الاعتقاد بأن وليّ أيوب هو، المسيا المنتظر. هذا الميل نراه في استبدال الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، كلمة «الوليّ» بكلمة «المسيا». وكذلك أيضا، تبنى المصلح الانجيلي مارتن لوثر في ترجمته لهذا النص في الكتاب المقدس، كلمة «مسيا» بدلًا من كلمة، «ولي» مما ساهم بانتشار هذا التفسير والتفكير بين بعض الانجيليين.
فولّينا يسوع المسيح، الذي هو الأقرب الينا نحن البشر. وبدافع محبته العظيمة لنا، أتى إلى عالمنا وتجسّد بيننا طفلا، وعاش معنا وشاركنا آلامنا وأفراحنا. وقد أدرك حاجتنا القصوى إلى الفداء والخلاص من محنتنا وأزمتنا الروحية التي سبّبتها الخطية التي تستبدّ فينا. لهذا «أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كانسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (فيلبي 2: 7)، كيما يفدينا ويخلّصنا من خطايانا حتى نستعيد صورة الله فينا، لأنه خلقنا على صورته ومثاله. تقول قصة الميلاد، إنه عندما ظهر ملاك الرب ليوسف، ليخبره عن حبل امرأته مريم بالروح القدس، قال له، بأن اسم الطفل سيكون يسوع «لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم» (متى 1: 21).