الإصلاح رحلة الكنيسة أم محطة وصولها؟
الهدى 1236 أكتوبر 2021
بادئ ذي بدء فإن كُنَّا نحتفل بالإصلاح كحدث وُلِدَ (من الرحم) يوم 31 أكتوبر 1517م على يد مارتن لوثر، وإن كُنَّا نسميه «الإصلاح» بالألف واللام، ففي حقيقة الأمر ليس هو الإصلاح الأوحد في تاريخ البشرية، فللإصلاح في الكتاب المقدس سلسلة حلقاتها كثيرة وذهبية يشير والتر كايزر لبعضها في كتابه «دعوة للنهضة»، فما قاله يعقوب لبيته: «اعْزِلُوا الْآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأَبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ إِلَى بَيْتِ إِيلَ فَأَصْنَعَ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلَّهِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِي فِي يَوْمِ ضِيقَتِي وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبْتُ فِيهِ» (تك 45: 2- 3) كان إصلاحًا، ويعوزني الوقت لأتحدث عن إصلاحات آسا ويهوشافاط وحزقيا ويوشيا وعزرا ونحميا وكثيرين، وكذلك في العهد الجديد.
كما أن الإصلاح الذي خرج من الرحم على يد مارتن لوثر، سبقه أبطال ظِل ساهموا بتأثيرهم الفعَّال في نشأته، وخَلَفه أبطال من حافظوا عليه وعملوا على اتساع دائرته من حيث المحتوى وجغرافية تأثيره، فمن الذين سبقوا مارتن لوثر وكان لهم تأثيرهم في الملكوت، ﭼون ويكليف John Wyclif الذي دافع عن أن المسيح هو رأس الكنيسة –وليس البابا- وبيده الحل والربط، كما رفض تقديم الجزية للبابا، ورفض عقيدة الاستحالة في العشاء الرباني، وترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الإنجليزية، وبعد موته أمر البابا بإخراج جثته لحرقها! وكذلك ﭼون هس John Huss الذي انتقد البابوية وبيع صكوك الغفران، وحُكِمَ عليه بالحرق، وكذلك جيرولامو سافانارولا الإيطالي Girolamo Savonarola الذي نادى بالإصلاح الأخلاقي والسياسي وحُكِمَ عليه –مع اثنين من رفاقه- بالشنق والحرق، وكان عمر مارتن لوثر وقتها 14 عامًا، وغيرهم الكثير من الروَّاد.
كما عاصر وخلف مارتن لوثر مصلحين عملوا على اتساع دائرة الإصلاح، مثل: هالدريش زونجلي Huldrych Zwingli الذي هاجم كل ما رآه مخالفًا لتعاليم الكتاب المقدس كعبادة الصور وعقيدة الاستحالة وغيرها، وكذلك ﭼون كالڤن John Calvin الذي كتب كتاب «مبادئ الدين المسيحي»، وطوَّر النظام الإداري للكنيسة المحلية، وكذلك ﭼون نوكس John Knox الذي أسس الكنيسة المشيخية في اسكتلندا، وهكذا ألغى الإصلاح سلطة البابا، وغيره.
ما أريد أن أصل إليه ليس مجرد عرض بعض الشخصيات، وإنما لتوضيح أن «الإصلاح» سبقته بوادر ويعقبه امتداد، لذا فالإصلاح ليس مجرد حدث لكنه رحلة العمر كله، حتى إن كلمة الإصلاح reformation تعني إعادة الإطار، فالمقطع «re» يعني «إعادة»، لذا فالإصلاح مستمر دائمًا، لتقويم ما انحرف عن مساره بسبب البشر، والعودة إلى الجذور كما يسميه ﭼون كالڤن. وكما يقول د. القس صموئيل حبيب في كتابه الإنجيل والحضارة: «الحضارة هي الإنسان بكل ما فيه، ولكن الحضارة في أي مجتمع ليست مقدسة، وفي كل حضارة عناصر إيجابية وأخرى سلبية، فالحضارة قد تحرر شعبها، وقد تكون قاهرة له.» ص115.
يا ترى كيف تتحق مركزية الإصلاح داخل الكنيسة المحلية اليوم؟ وأعتذر مقدمًا للقارئ العزيز، لأنني لن أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بإجابة حصرية، بِذكر كل النقاط، ولكن أذكر بعضها، وأترك لك التفكير في نقاط جديدة لتكمل ضعفي.
أولاً: ممارسة النقد الذاتي
كما يحتاج المرء بين الحين والآخر أن ينظر في المرآة ليرى ما هو عليه وما ينبغي أن يكون عليه، وكما أن البحر –كالبحر المتوسط مثلاً- يأتي عليه وقت «النوة» فيقذف معظم ما فيه من قاذورات أُلقيت فيه، هكذا أيضًا الكنيسة، فلا تنتظر النقد من خارجها، بل تعمل على إصلاح ذاتها، إن أكبر عائق -في رأيي الشخصي- يُعيق الكنيسة عن تقدمها هو «الاستكانة»، ولا أقصد الاستكانة بمعناها الإيجابي، وإنما الاستكانة بمعنى الخمول، وأننا أفضل من غيرنا، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان! كل هذا لا يشجع –وإن بدا في ظاهره تشجيع- وإنما يُوقع على الكنيسة سُباتًا عميقًا.
ومن بين الأمور المساعدة على الاستكانة «التغني بالتاريخ دون المساهمة في صنع الحاضر»، فنحن -كشعب شرقي- نميل إلى التغني بالتاريخ، وحضارة سبعة آلاف سنة –كل هذا رائع- ولكنه غير كافٍ! لأننا لا نتطلع للمستقبل ونصبح سجناء فكر الماضي، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أننا لا نملك المداد لنَخُطْ به سطور اليوم والغد. فإذا كنا نزعم أن لدينا كل الآلات الموسيقية التي تتغنى بالتاريخ، فأين المسرح لنقف عليه؟!
النقد الذاتي بكل موضوعية دون شخصنة الأمور هام جدًا للكنيسة، يقول القس رفعت فتحي في كتيب الإصلاح الإنجيلي حتميته وتأثيره: «انتقاد المصلحين للسلطة الكنسية، وضع الأساس في أن أكبر قيادة كنسية مُعرَّضة للانتقاد، ولا يوجد من يملك العصمة من البشر… وقد قاد هذا الأمر إلى تأسيس أنظمة كنسية لاختيار الأصلح للوظيفة الكنسية، في ضوء معايير واضحة، كذلك تقييم العمل في الوظائف الكنسية بصورة علمية وموضوعية.» ص41.
ثانيًا: تحقيق التوازن المنشود
كنتُ قد كتبت في مقال سابق بعنوان «بندول الساعة» والبندول معروف عنه أنه عندما يميل أقصى اليمين، فإنه سريعًا ما يميل أقصى اليسار، والعكس، وعندما يثبت أو يتزن في الوسط بين أقصى اليمين وأقصى اليسار فإنه يكون قد توقف عن العمل، كتبت عن بعض الأمور التي ضاع محتواها نتيجة التطرف، وأذكر على سبيل المثال جزئية «كهنوت جميع المؤمنين» التي كانت نتاج الإصلاح، وتم التأكيد عليها نتيجة القهر من السلطة الكنسية وحصر كل الأمور في أيديهم آنذاك، ولكن ما يُمارس في الكنائس هذه الأيام أودى بنا إلى تطرف من نوع جديد، يمكن أن نسميه «فوضى جميع المؤمنين»! دون مراعاة النظام الكنسي، ويفعل كل شخص ما يحسن في عينيه! فالحاجة إلى التوازن.
وكذلك يتحقق عبور الكنيسة للمجتمع عندما تكون الكنيسة متوازنة، كنيسة تراثية معاصرة لتتواصل مع كل الأجيال، في خطاب حفل تخرج الدفعة 137 لكلية اللاهوت الإنجيلية بالكنيسة الإنجيلية بمصر الجديدة، 29 مايو 2008 قال القس رياض قسيس في هذا الصدد: «عندما تكون الكنيسة تراثية فقط، أي تهتم بكل ما هو قديم ولا تطور من نفسها فإنها ستكون كتحفة خزفية في أحد المتاحف، وعندما تكون الكنيسة معاصرة فقط، تلهث وراء الجديد فإنها ستكون كفرع دون جذر أو مبنى دون أساس.»، ويعوزني الوقت للحديث عن التوازن بين الليتورﭼيا والتجديد، وغيرها.
خلاصة القول في هذه الجزئية أن الكنيسة تحتاج هذه الأيام أكثر من أي وقتٍ مضى إلى تحقيق التوازن في أمور عِدة، ضاع معناها نتيجة التطرف.
ثالثًا: تجديد الفكر
لقد نصح الرسول بولس أهل رومية نصيحة غالية، يقول فيها: «وَلاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ» (رو12: 2)، والتغيير هنا هو تغيير مستمر.
ومن الملاحظ ارتفاع الأصوات التي تنادي بتجديد الخطاب الديني دون فهم، ففي حقيقة الأمر لن يتجدد «الخطاب الديني» دون تجديد «الفكر الديني»! فـ «الخطاب الديني» هو «الظاهر/ المصب»، بينما «الفكر الديني» هو «الداخل/ المنبع»، ولن يكون المصب نقيًا ما لم يكن المنبع نفسه نقيًا. وهناك حكمة تقول: «إذا أردت أن تُصلح نهرًا، فاصلح منبعه»! فلن يتم معالجة العَرض ما لم يتم معالجة المرض!!! فالدعوة الصحيحة تكون لتجديد «الفكر الديني» وليس مجرد «الخطاب الديني»!! أكرر حتى لا يُساء الفهم: أقول تجديد الفكر الديني لا أقول تجديد الدين.
أخيرًا.. فالإصلاح ليس محطة وصول، وإنما رحلة ممتدة عبر الأجيال، كما أن الإصلاح ليس حلقة واحدة، بل حلقات في سلسلة ممتدة تقود كلٌ منها إلى الأخرى، فهل تسير الكنيسة الحالية في هذه الرحلة، أَم تحتفل وتصفق فقط لمن حققوا الإصلاح في زمنهم؟!