فنون

الاختيارات التي تصنعك (مسلسل الاختيار)

الهدى 1221                                                                                                                                       مايو 2020

«تستطيع أن تختار ما تريد، لكنك لا تستطيع إختيار نتائج هذه الإختيارات، كل إختيار نعمله في الحياة يؤثر فينا، وفي شخصياتنا، ويحدد من نكون أمام إلهنا.. إن إختياراتنا إما أن تصنعنا، أو تكسرنا؛ إن شخصيتك هي محصلة الإختيارات والقرارات التي تأخذها في حياتك.. فشخصيتك تكون عندما لا يكون أحد ينظرك»
مسلسل الاختيار عمل فني عُرض خلال شهر رمضان ٢٠٢٠، وبسببه انهالت التعليقات كالسيل، سواء في الميديا الرسمية، أو السوشيال ميديا.
تدور أحداث المسلسل حول تقديم لحياة البطل قائد الكتيبة ١٠٣ صاعقة في الجيش المصري، عقيد أركان حرب أحمد صابر منسي الذي استشهد في كمين مربع البرث بمدينة رفح شمال سيناء، أثناء محاولته للتصدي لهجوم مسلح في سيناء. المسلسل تأليف باهر دويدار، وإخراج بيتر ميمي، البطولة لأمير كرارة: (أحمد منسي)، وأحمد العوضي: (هشام عشماوي).
عنوان المسلسل في رأيي يمثل ما يُطلق عليه «السردية»، mega narrative، «الاختيار» كذلك هو الموضوع المتكرر motif وهذا يقودنا بدوره الي سردية المسلسل.
السردية هي القصة الكُبرى التي تمثل نظرة المجتمع للحياة، وهي تقدم إجابات عن أسئلة أساسية للمجتمع مثل: ماذا حدث، ولماذا، وكيف حدث؟
أي سردية نجد فيها خير وشر. وكل منهما له بطل.
السؤال الكبير دائمًا في أي سردية هو: مَن هو البطل الحقيقي؟
أي من سينتصر لمبادئ الخير، أو من سينتصر لمبادئ الشر؟
هذه الأسئلة تقدم إجابات في أي فصل من فصول الحياة، سواء للفرد أو للجماعة.
في هذا المسلسل نجد أن السردية تقدم لنا ما أسماه المسلسل (الاختيار).

وقد قدم المسلسل السردية في صورة دينية، وفي المقابل قدم النقاد ما كان يجب أن تكون عليه السردية كالآتي:

١- السرد الديني: وهو سردية المسلسل، في مقابل سرد ديني مُضاد، وهذا يفسر زيادة جرعة الوعظ، والوعظ المُضاد. أي الوعظ من جهة الجيش الذي يمثل الوطن من ناحية، والوعظ المضاد من جهة الإرهابيين من ناحية أخرى.
يقدم المسلسل المنسي على أنّه صاحب عقيدة دينية؟ ولا يكتفي انه بطل وطني؟ لأن البطولة الوطنية وحدها غير كافية لمواجهة السردية المضادة التي تستلزم ان يكون البطل وطني، ومتدين أيضاً؟!
ذلك لأن السردية المضادة مبنية بالكامل على العقيدة الدينية في تأسيسها وقوامها واستمراريتها، فلا بد من تقديم تفسير ديني آخر.
المسلسل يعرض الأحداث في إطار شخصيتين حقيقيتين، وبعض الأحداث الحقيقية، مثل محاولة قتل وزير الداخلية، واغتيال النائب العام، والهجوم الذي استهدف بعض الأقباط خلال توجههم للصلاة بإحدى الأديرة بصحراء محافظة المنيا، كذلك القبض علي هشام عشماوي، وكثير من الأحداث التي حدثت في سيناء، مثل بعض الفيديوهات والصور الحقيقية. يحتوي المسلسل على عدد لا بأس به من الأحداث الحقيقية، لكن هذه الأحداث وُضعت في اطار سردي بما يسمح بها طبيعة العمل الفني تحقيقاً للهدف منها.

إن المسلسل لا يعرض التاريخ وحسب، بل يعرض وجهة نظر في إطار اسطوري، ليقدم سردية تحكي للشعب ولكل فرد مصري رواية تمثل وجهة نظر worldview. ألا وهي ان الشعب اختار ألا يحكمه المتطرفون، وهذا الاختيار هو والاختيار الصحيح.

٢- سردية الخطأ التفسيري: في اعتقادي أن هذه السردية قد وضعها الأزهر في الحلقتين (١٩، ٢٠) وكان في احداها على لسان الشيخ رمضان عبد المعز. حيث يقول التفسير الأزهري إن ابن تيمية قد ظلم من قبل المتطرفين، لأن كلامه له قرينة زمانية ومكانية ابان حرب التتار، أي أن المتطرفين قد نزعوا بعض من أقوال ابن تيمية من سياقها الزماني والمكاني.
لقد احتار البعض فيما تم تناوله المسلسل في حلقتين متتاليتين عن ابن تيمية. ونحن لن نخوض في الجدل الدائر الآن حول ابن تيمية وفتاويه وما كان يقصد بها.

هذه السردية تنبه إلى أن تناول المسلسل ابن تيمية وفتاويه يعد تشويشا على جوهر الاختيار الحقيقي الذي حمل المسلسل اسمه.. فإن أحمد منسي اختار الوطن، وهشام عشماوي اختار خيانة هذا الوطن..
الأول استشهد لأنه كان يدافع عن أرض وطنه.. والثاني أعدم لأنه خان وطنه وارتمى في أحضان أعداء وطنه؛ فهذا هو الاختيار الحقيقي، ولم يكن أبدا اختيارا بين فهمين لابن تيمية وفتاويه.
عندما اختار ضابط الصاعقة أحمد منسي طريق الدفاع عن سيناء لم يفعل ذلك لأنه فهم المعنى الحقيقي لفتاوى ابن تيمية، وإنما فعل ذلك لأنه اقتنع أن سيناء أرض الفيروز هي قطعة عزيزة من أرض الوطن لا يمكن السماح لمجموعة القتلة والإرهابيين التكفيريين أن يسيطروا عليها ليقيموا عليها دولتهم، مثلما لا يمكن السماح لمحتل أن يغتصبها.
ولقد شاهد الكاتب الحلقة ١١ وما يلي هو ما قاله مَنسِي لجنوده بدون حذف او اضافة، في اعتقادي ان هذا الخطاب هو قمة المسلسل، ويعرض السردية الثانية بمنتهى القوة.

الحلقة ١١ من مسلسل الاختيار، دقيقة ٢٤: ٤٥ – ٢٦ :٢١، يخاطب منسي جنوده: «مين فيكم سأل نفسه السؤال ده، يا ترى الناس اللي بنحاربهم ممكن يكونوا على حق، واحنا على باطل
ممكن يكونوا هما اللي ينفذوا كلام ربنا والمفروض نمشي وراهم مش نحاربهم، حد سأل نفسه، على فكرة اللي ما بيسألش ده مش طبيعي، لأني سالت نفسي نفس الاسئلة بالضبط

على فكرة السؤال مش جريمة، الهروب منه هو اللي جريمة، جريمة ممكن توديك في ستين داهية بدون ما تحس.
انا بقي اقولكم على الإجابة اللي وصلتلها: الناس دي ماكنتش قاعدة في مكانها واحنا اللي جينا حاربناهم واذيناهم، الناس دي اللي حاربت أهلك، وحاربت أخواتك، واعتدت على ارضك واحنا هنا جينا علشان نجيب حقهم. على فكرة مش عيب ان انت تسأل، لكن لازم تحط جواك ان انت علي حق، وانت هنا علشان خاطر اهلك وعلشان خاطر بلدك وبس، ومش علشان حاجة تانية، لكن الناس التانية هنا علشان يرضوا اسيادهم وبس، لا يهمهم دين ربنا ولا يهمهم ربنا،»
{رجالة؟ رجالة يا فندم، وحوش؟ وحوش يا فندم}
هذه الخطاب في رأيي، واحد من أفضل خطابات المسلسل، إن لم يكن أفضلها وأقواها.

٣- سردية مدنية الاختيار: «الاختيار» أي استعراض مسارين متناقضين، الأول اختاره البطل الأسطورة الشهيد أحمد المنسي، والثاني اختاره الإرهابي المجرم هشام عشماوي. أحمد المنسي اختار الدفاع عن سيناء لأنه اختار الدفاع عن الوطن، بعد أن أحب هذا الوطن وأهله، ولذلك قدَّم حياته فداء له.. هذا هو جوهر الاختيار الحقيقي في قصة بطلنا الشهيد أحمد منسي.
وهذا السرد يؤكد أن هذا المسلسل هو باكورة أعمال تساعد على تطهير الأفكار وتعقيم الفيروسات «الثقافية» الآخذة في تلطيخ العقل المصري منذ أواخر السبعينيات. فلا يجب أن يكون المسلسل فرصة ترجيح لكفة مدرسة دينية على حساب أخرى. لماذا؟ لأن هذا يعنى أن المجال سيظل مفتوحاً لمدرسة دينية ثالثة تنتصر على كليهما بحجة دينية أشد وبراهين شرعية أقوى.

هذه السردية ليست دعوة لمحاربة الدين وكراهية المتدينين، لكنها دعوة لإعمال العقل وترجيح كفة الدولة المدنية. هذا العمل الدرامي يمكن أن يعيد الاعتبار لقيم الوطنية، واعمال العقل والقدرة على التفكير النقدي. واستخدام المنطق لتعيد لنا ثقافتنا وهويتنا، والتزام كل فرد بالقواعد السلوكية والقوانين المدنية.

الدفاع عن الوطن لا يجب أن يكون مجالاً للتراشق بآيات قرآنية وحسب، فما هو مصير المسيحي الذي لم يحسم أمره من مسألة الوطنية فيجدها جدالاً وحرباً بين تفسيرين مختلفين للقرآن.

تحياتي للمؤلف، وفريق العمل، وأخص بالذكر المخرج بيتر ميمي، وقد يكون اسمه الأصلي (بطرس محمود)؛ مقصودة، فنحن كُلنا مِصريون.

للدراسة الشخصية عن اختيارات الحياة:
* إختيار إبراهيم وإختيار لوط: (تكوين ١٣: ٧- ١٣)، النتائج (٢ بطرس ٢: ٦-٨).
* إختيار سليمان الحكيم وابنه رحبعام: (١مل: ٣: ٥- ١٤؛ ١٢: ٤- ١٦).
* يشوع يختار الرب إلهاً له وترك الشعب حرية إختيار من يعبدون: (يشوع ٢٤: ١٤، ١٥).
* إختيار بطرس ويهوذا: (لو ٢٢: ٥٤- ٦٢، يو ٢١: ١٥-١٩)، (متى ٢٧: ٣-٥).
* يوسف يختار أن يغفر: (تكوين ٣٩: ١- ٤).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى