صلب المسيح
الهدى 1248 مارس وأبريل 2023
الكاتب القس باسم عدلي
يبدو أنَّ البرابرة هم الذين اخترعوا عقوبة الإعدام عن طريق الصلب. وهي طريقة وحشية لأنها تحمل المحكوم عليه ليس فقط عقوبة الموت بل أيضًا العذاب الشديد الذي يمتد لوقت طويل قد يمتد لأيام وكأنها عقوبتان في عقوبة واحدة التعذيب والموت بأبشع صور المهانة. وقد أخذه عنهم اليونانيون والرومان وكانوا يستخدمون هذه العقوبة لأشد المجرمين جرمًا. وكان الروماني مستثنى مِنْ هذه العقوبة إلَّا في حالة الخيانة العظمى. لذلك كانت عقوبة ممقوته مِنْ الرومان وأيضًا مِنْ اليهود الذين أقرنوها بلعنة الناموس للمعلق «وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلاَ تُنَجِّسْ أَرْضَكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا» (تث٢١: ٢٢-٢٣).
ولكن المسيح بعد صلبه قلب الأوضاع فأصبح الصليب رمز المجد والانتصار والفخر والمحبة «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ» (١كو١: ١٨) وصار الصليب رمزًا للمسيحية.
تهمة المسيح
ما هي التهمة التي بسببها صُلب المسيح؟ لقد دخل الطرفان الديني والسياسي في اتفاق غير مقدَّس وتحالف شرير للتخلص مِنْ المسيح وكان توزيع الأدوار كالتالي:- التهمة الأولى: مِنْ المحكمة اليهودية وهي جريمة ضد الله باعتبار المسيح خطرًا على الناموس وكانت تهمة لاهوتية وهي التجديف فقد كان المسيح بالنسبة لهم خطرًا شديدًا عليهم ويقوِّض سلطاتهم وصلاحياتهم التي اغتصبوها بدون وجه حق وبما يتعارض مع الناموس والشريعة التي أضافوا عليها الكثير الذي يخدم فقط مصالحهم الضيقة. التهمة الثانية: مِنْ المحكمة الرومانية وهي جريمة ضد قيصر باعتباره خطرًا على النظام. وكانت تهمة سياسية وهي التحريض ضد قيصر وعدم الطاعة وبقوله إنَّه ملك فقد سمع الرومان أنَّ يسوع يعلن أنَّه ملك اليهود وهذا يتحدى سلطة قيصر بشكل مباشر ويسبب اضطرابًا كثيرًا في المملكة لذلك قرروا التخلص منه مدعين أنَّهم يدافعون عن الله وناموسه وهم بالأحرى يدافعون عن أنفسهم لأنَّ هذا المعلم كشف زيفهم وتعدياتهم وأطماعهم.
هؤلاء سلموه ليُصلب
اشترك ثلاثة فئات في تسليم يسوع وهم يهوذا وبيلاطس وقيافا وكانت لكل واحد فيهم دوافع مختلفة ربما لم يصرِّح بها ولكنها كانت واضحة جلية لا تخطئها عين.
١. يهوذا: أسلمه أولًا إلى الكهنة بدافع الطمع. إنه عمل مهم حاولوا إيجاد تفسير له فإنَّه في كل الأحوال ينظر إليه كعمل مِنْ أعمال الخيانة وأحد تجليات الطمع وهذا ما يصر عليه البشير يوحنا «قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ» (يو١٢: ٦) وسيظل أسمه مقترنًا بأنَّه التلميذ الذي صار مُسلِّمًا للسيد. ولقد أعطى الشيطان فرصة للنفاذ إلى قلبه وعقله ليفعل به ما يشاء. “فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ … فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ» (يو١٣: ٢، ٢٧).
٢.الكهنة: أسلموه إلى بيلاطس بدافع الحسد ذلك وهذا ما أستطاع بيلاطس بسهولة أنْ يلاحظه «لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا» (مر١٥: ١٠) وكان مجلس السنهدريم بكل أعضائه متورطين في هذه الفعلة الآثمة. وقد كان هذا الحسد لأجل أنهم رأوا فيه خطرًا عليهم وليس على الناموس أو الهيكل أو الله نفسه كما ادعوا. والحسد هو الوجه الآخر للغرور والتكبر والتعالي وقد كان هذا الغرور يتعرَّض لخطر فقدان السلطة التي يتمتعون بها باسم الدين والله وكان المسيح مهددًا وكاشفًا لهم إذ أنه كان يتمتع بسلطان ليس لهم وقد كانت حياته وتعاليمه ومعجزاته تؤيد ذلك فيما أفتقروا هم لما يؤيد سلطانهم. وقد وبخهم المسيح قائلًا “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ» (مت٢٣: ٢٧) بل وقد كشفهم وكشف مكرهم في (مت٢٣: ١-٣٦) بأصعب العبارات ولكن كلها كانت وصفًا دقيقًا وصحيحًا لما هم عليه.
٣. بيلاطس: أسلمه إلى العسكر بدافع الجبن فصلبوه. ستظل عبارة صُلب في عهد بيلاطس البنطي صارخة في التاريخ وليس فقط قانون الإيمان. وكانت له أخطاء كثيرة لأنه كان متحمسًا وشرهًا للسلطة طوال الوقت وقد ذبح جليليين (لو١٣: ١) وهذا يدل على قسوته وعدم تورعه. ورغم أنَّه كان مقتنعًا ببراءة يسوع. «وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإنسان كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإنسان عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عليهِ» (لو٢٣: ١٤). إلَّا أنَّه سلمه ليُصلب. لقد جَبُنَ أمام أصواتهم التي قويت. وحكم أنْ تكون لهم طلبتهم وأسلم يسوع لمشيئتهم (لو٢٣: ٢٣-٢٥). لقد استسلم القاضي لصوت الجماهير ولم يحكم بالقانون بل بأهواء الجماهير التي يعرف أنها مُغرضة لكنه أراد أنْ يرضيهم. (مر١٥: ١٥).
لماذا الصليب؟ ألم يكن بإمكانه أنْ يغفر كما يطالبنا بالغفران لبعضنا البعض دون كل هذا العذاب؟
الأمر ليس بهذه السهولة والبساطة فمعرفتنا لطبيعة الله نعرف جيدًا أنَّه لم ولن يتخلَ عن أمر أساسيات في طبيعته مثل (القداسة – العدل – الأمانة – المحبة) ولو حدث ذلك لما كان الله وليس الأمر أنْ نختار بعض مِنْ طبائعه كما نرغب وننحي جانبًا باقي الطبائع لكن الله متكامل في طبائعه وغير متناقض. ففي الصليب أظهروا هذه الصفات بشكل متناسق جدًا وبدون التخلي عن واحدة منهم فظهرت قداسته بأنه يكره الخطية جدًا ويصب جامات غضبه عليها وقد صبَّ هذا الغضب على يسوع في الصليب. وظهر أيضًا عدله في عقاب الخطية وهو الموت. وظهرت أمانته في ألَّا يخادع ولا يكون إلَّا أمينًا حتى فيما يكلف الكثير وهذا الأمر مهم جدًا فهو كما لا ينقض وعوده كذلك لا يلغي وصاياه. فهو مستقيم في كل أقواله وأفعاله وقد أعلن منذ البدء تداعيات الخطية وجرمها وعقابها ولو غيَّر كلمته لما كان جديرًا بالثقة. وهذا ما يجعلنا نطمئن جدًا ونثق فيه وفي وعوده. وكذلك المحبة فالصليب كما أظهر قداسته وأمانته وعدله أظهر وبجلاء شديد محبته «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ إبنهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). لو كان الله سلك بطريق آخر تجاه الخطية لما وثقنا أنه سيفي بوعوده لنا التي تمتلئ بها كلمته.
إنْ شئت فلتعبر عني هذه الكأس
صلّى المسيح أكثر مِنْ مرة لأجل أنْ يعبر عنه الآب هذه الكأس قبل الصليب كيف يطلب هذه الطلبة؟ ألم يأتِ لذلك؟ وما هذه الكأس؟ فالمسيح لم يكن خائفًا مِنْ الآلام ولم يكن خائفًا مِنْ الموت ولا مِنْ عار الصليب لكن المسيح كان متحسبًا لغضب الله الرهيب الذي أعلن على الصليب في خلال الثلاث ساعات المظلمة والتي حجب الله وجهه عنه وكانت هذه هي الكأس التي تحملها المسيح وترك الآب له في هذا العقاب الذي فيه دفع ثمن كل خطايا كل البشرية وقد عبَّرت الظلمة التي صارت على الأرض عن هذا الواقع الرهيب الذي حدث مِنْ انفصال الآب الذي هو مصدر النور فلقد حجبت خطايانا إشراق وجه الآب على الأرض بل على الابن. ولم يكن الأمر مجرد موت جسدي بل لقد اشتركت نفسه في تحمل قصاص الخطايا. لأنَّه لو مجرد موت جسدي كان ذلك فداءً للأجساد فقط أما تحمل نفسه هذه الآلام الرهيبة فقد أعطى لنا خلاصًا كاملًا. ولم يكن الترك مجرد شعور لدى يسوع بل كان تركًا فعليًا حقيقيًا. وذلك يؤكد لنا ما قدَّمه لنا الكتاب «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (١بط٢: ٢٤). لكن هذا يوضِّح لنا بشاعة خطايانا وكيف أنها بغيضة جدًا. كما يوضِّح لنا كيف تجلَّت محبة الله العظيمة نحونا إلى حد لا نستطيع أنْ نتصوره. ولم يكن أبدًا في استطاعتنا بأي حال مِنْ الأحوال أنْ ندفع ثمن هذه الخطية إلَّا أنَّ نعمته الغنية قد وهبتها لنا مجانًا لأنْ ليس فينا أي شخص مهما عمل قادرًا أنْ يدفع ذلك الثمن الثمين.
لماذا تركتني؟
لقد صرخ المسيح على الصليب بهذه الصرخة المدوية والمحيرة فما معنى صرخة المسيح على الصليب إلهي إلهي لماذا تركتني؟ كانت نبوة في العهد القديم وتحققت في العهد الجديد ولما تحققت تحققت بشكل حقيقي فلم يكن الأمر مجرد شعور أو حتى تمثيلية قام بها الآب لكي يوضِّح له كأنَّه تركه فالله ترك المسيح فعليًا فالمسيح يؤكد هذا الترك على الصليب خلال فترة الظلمة فقد حجب الله وجهه عنه خلال الصلب أثناء النهار والآب والابن قبلوا طواعية هذا الأمر لتحقيق هدف الفداء. ولكن رجعت الأمور كما كانت بانتهاء الصلب وموت المسيح عندما استودع روحه بين يدي الله. وسيظل تفسير الذي حدث بين الله والمسيح غير واضح تمامًا إلَّا عندما نقابله ونعرف ما لم نعرفه بل وما لا تسطيع عقولنا أنْ تستوعبه في محدوديتها هنا.
إنجاز الصليب
لخص جون ستوت في كتاب الصليب انجاز الله في الصليب وقال لقد حقق الصليب ما لم يكن قادرًا أي عمل آخر أنْ يحققه فقد قدَّم الصليب:
أولًا: خلاص للخطاة. الخلاص هو الإنقاذ الذي قدَّمه لنا الله في المسيح على الصليب فقد أعطى لنا خلاصًا مقداره عظيم إذ أنقذنا مِنْ الغضب الإلهي بأنْ كفَّر المسيح عن خطايانا واسترضى الله. وأنقذنا مِنْ العبودية للخطية إذ دفع الثمن الباهظ جدًا واشترانا ليحررنا وأنقذنا مِنْ الدينونة الإلهية الرهيبة إذ أخذ مكاننا وأصبح هو المُدان الذي تحمل العقوبة وصرنا نحن أبرارًا فقد أخذ ما لنا وأعطانا ما له وصار الحكم بالتبرير رغم خطايانا وأنقذنا مِنْ العداوة التي كانت بيننا وبين الله بسبب الخطية التي صارت فاصلًا بيننا وبين الله بأنْ صالحنا مع الآب بدم صليبه. ما أعظم هذا الخلاص العظيم. «فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ؟» (عب٢: ٣).
ثانيًا: إعلان الله. فقد أعلن الله عن عدله في أنَّه عاقب الخطية ونفذ القانون الذي وضعه دون مواربة قداسته وأنَّه لا يرضى ولا يتوافق ولا يهاون الخطية لكنه يرفضها ويعلن غضبه عليها أمانته تجاه ما يقول وتجاه كلمته حتى لو كان الابن هو مَنْ يدفع الثمن وإعلان مجده أشير إلى الصليب أنها ساعة التمجيد. وعن قوته فقد كان الصليب هو قوة الله للمخلصين. وعن حكمته وأبطل حكمة الحكماء والمسيح المصلوب هو حكمة الله محبته في أنه بذل ابنه بدلًا منَّا وأعطانا فوائد ما أتمه المسيح.
ثالثًا نصرة المسيح ضد الموت فقد غلب الموت بالموت وضد إبليس الذي كان الصليب هزيمة مدوية له وضد الشر الذي أعلن أنَّ الخير أقوى مِنْ الشر وينتصر وحتمًا سينتصر مهما بدا غير ذلك.