الميلادقضايا وملفاتملفات دينية

التجسَّد

الهدى 1247                                                                                          يناير وفبراير 2023

التجسُّد يعني أنًّ الكلمة صار جسدًا وهي تعني أنَّ الله نفسه حاضر في العالم كما قال كارل بارت لجزء مِنْ تاريخنا وكإنسان بين الآخرين فهو إعلان الله للإنسان وإعلان مصالحة الله مع الإنسان فقد تقابل الله والإنسان معًا وأصبحا واحدًا في شخص المسيح فالخالق يماثل المخلوق ويولد مِنْ امرأة فأصبح غير المنظور منظورًا والذي لا يُدنى منه صار قريبًا ولبس جسدًاً كالبشر تمامًا وذلك مِنْ خلال الميلاد العذراوي.
التجسُّد لا يعني أنَّ الله صار إنسانًا وليس أنَّ الطبيعة اللاهوتية صارت طبيعة إنسانية أو الإلهية صارت بشرية فهذا إقلال مِنْ التجسُّد ومِنْ الله وهذا ليس حقًا. فالتجسُّد معناه الله «ظهر في الجسد»، فالطبيعة الإلهية صارت مع البشرية في شخص المسيح المتجسِّد. فالطبيعتان كاملتان متحدتان في المسيح. يمكن أنْ نشبهها كما شبهها كارل بارت احمرار الحديد المتوهج بفعل النار فهناك الحديد وأيضًا النار التي أنتجت هذا.
أزلية المسيح
يخطئ البعض حينما يظن أنَّ التجسُّد هو بداية المسيح وبداية وجوده لكن الكتاب المقدَّس يحدِّثنا عن أزلية المسيح حيث يقدِّم لنا في مواضع كثيرة أنَّ وجوده كان مرتبطًا بأزلية الله فهو ليس مخلوق «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا5: 2) ويقدِّم لنا الكتاب المقدس المسيح الذي له كل صفات الله ويتخذ ألقابًا إلهية تؤكد أزليته وأيضًا نبوات العهد القديم عنه وقول المسيح عن نفسه أنَّه كائن قبل إبراهيم وبولس يؤكد أزليته وأيضًا يقدِّمه يوحنا الرائي الألف والياء والبداية والنهاية وهو ذا أصل سماوي وفيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا. وقد اشترك المسيح في أعمال الله منذ البداية الذي اشترك في الخلق والعناية وكافة أعمال الله قديمًا وحديثًا.
الابن المتجسد
ظهر الثالوث أثناء معمودية المسيح (مر1: 9- 11) وظهر في كلام المسيح عن الروح القدس الذي سيطلب مِنْ الآب إرساله (يو14: 16- 17) وفي إرسالية المسيح للتلاميذ في (مت 28: 19).
إنَّ إطلاق كلمة الابن على المسيح الأقنوم الثاني لا يقصد به المعنى الجسدي الذي اعتاد عليه البشر في التناسل الجسدي بل يتوافق مع روحانية الله وخواصه المذكورة وهو تعبير يدل على المركز والمقام وليس التناسل أو التعاقب. فالابن واحد مع الآب والروح القدس بكل خواصه مِنْ الأزل وإلى الأبد. وكلمة ابن تُستخدَم مجازًا كلقب للدلالة على صفة الشخص وسبب تسمية الابن بهذا اللقب أنَّه هو الذي أعلن الله ويعبر عن التشابه مع الآب. في مصطلحاتنا البشرية فالابن يشبه أباه جدًا والابن هو الذي خبَّر عن الآب وأعلنه وأظهره. وأيضًا هو صورة الله غير المنظور فهو بهاء مجد الله ورسم جوهره. البهاء الذي يجعل مجد الله غير المرئي مرئيًا والرسم الذي يجعل الجوهر غير المدرك مدركًا (يو1: 18) فهو الابن وصورة الله كما أنَّه أيضًا كلمة الله لأنَّه هو الذي أعلن الله ذاته والكلمة أزلي ويعني العقل الإلهي المنفذ لمشيئة الله والمعبر عن الله ومقاصده ويعلن صاحبه وفي العهد القديم الكلمة تعبر عن قضاء أو تدبير فهو المعبِّر عن الله ذاته. وهو يختلف جدًا عن أدم لأنَّ المسيح لم يُخلَق على صورة الله كأدم أو أنه صار صورة الله لكنه هو صورة الله والذي أظهر جوهر وذات الله وهو لم يكن لاحقًا لله بل هو أزلي بأزلية الله.
وقد فهم اليهود في ذلك الوقت أنَّ ابن الله تعني الله ذاته (يو5: 17- 18) وأيضًا كانت هذه المصطلحات معروفة بهذا المعنى وقتها. وقد استخدم الكتاب كلمة الابن للإشارة إلى الشخص نفسه كما فهم اليهود وكلمة الصورة للتعبير عن أصل الشيء كما أوصى بولس بالتمسك بصورة الكلام الصحيح (2تيمو1: 13) وهناك فارق بين بنوة البشر والملائكة وبنوة الابن وهو الابن الوحيد وشخص لا نظير له. فهو الله الظاهر في الجسد وفيه حلَّ كل ملء اللاهوت جسديًا وهو بهاء مجد الله ورسم جوهره.
هل تجسد المسيح قبل الميلاد؟
تجسَّد المسيح في القرن الأول الميلادي لكن هل كان أول مرة يأخذ الله جسدًا يظهر به؟
إليك بعض الحوادث المحددة التي يظهر فيها المسيح جليًا قبل العهد الجديد مثل:
«وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً – لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ‘‘ (1كو10: 4). ولقاء يشوع مع رئيس جند الرب «وَحَدَثَ لَمَّا كَانَ يَشُوعُ عِنْدَ أَرِيحَا أَنَّهُ رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ، وَإِذَا بِرَجُلٍ وَاقِفٍ قُبَالَتَهُ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ. فَسَارَ يَشُوعُ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا؟» فَقَالَ: «كَلاَّ، بَلْ أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ. الآنَ أَتَيْتُ». فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ لَهُ: «بِمَاذَا يُكَلِّمُ سَيِّدِي عَبْدَهُ؟» فَقَالَ رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ لِيَشُوعَ: «اخْلَعْ نَعْلَكَ مِنْ رِجْلِكَ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عليهِ هُوَ مُقَدَّسٌ». فَفَعَلَ يَشُوعُ كَذَلِكَ‘‘ (يش 5: 13 – 15). وظهوره كإنسان ولكنه شبيه بابن الآلهة (سفر دانيال 25) «فَقَالَ: هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ مَحْلُولِينَ يَتَمَشُّونَ فِي وَسَطِ النَّارِ وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ وَمَنْظَرُ الرَّابِعِ شَبِيهٌ بابن الآلِهَةِ». مَنْ هو هذا الذي ظهر مع الفتية الثلاثة؟ ظهوره لحزقيال عند نهر خابور. «وَمِنْ وَسَطِهَا شِبْهُ أَرْبَعَةِ حَيَوَانَاتٍ. وَهَذَا مَنْظَرُهَا: لَهَا شِبْهُ إِنْسَانٍ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ. وَأَرْجُلُهَا أَرْجُلٌ قَائِمَةٌ، وَأَقْدَامُ أَرْجُلِهَا كَقَدَمِ رِجْلِ الْعِجْلِ، وَبَارِقَةٌ كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ الْمَصْقُولِ» (حز1: 5 -7). والبعض أعتبر أنَّ ملكي صادق هو أحد ظهورات المسيح في العهد القديم. هذا بجانب ظهورات متعددة لمجد الرب في العهد القديم فالمسيح هو النور والبهاء الذي ظهر كثيرًا في مرات متعددة ففي العليقة والمركبة وعمود النور والسحاب.
مَنْ هو ملاك الرب ومَنْ الذي كان يظهر للناس على هيئة إنسان إنه الله الذي ظهر للبشر وبذلك لأنَّ الله لم يره أحد قط فالابن هو الذي خبَّر وهو الذي ظهر في هيئة ملاك الرب وفي صورة رجل يتعامل مع كثيرين في العهد القديم فلم يصبح ربنا إنسانًا إلَّا عندما حُبل به ِمْن الروح القدس في رحم العذراء مريم. ولكن قبل هذا الوقت، كان واضحًا أنَّ ابن الله سوف يأخذ طبيعة البشر يومًا ما. والحقيقة إنَّه قد ظهر إنسان قبل تجسده بوقت طويل فالذي تعامل مع هاجر وكلم إبراهيم وتصارع مع يعقوب وسمع موسى صوته وهو الذي رآه إشعياء. إنَّ ظهور المسيح في صورة بشرية قبل تجسده ؛ كان تمهيدًا لمجيئه المنتظر بين الناس. لكن يجب أنْ نلاحظ أنَّ هناك فرقًا أنْ يظهر متجسدًا بطريقة مؤقته، وأنَّه يظهر بطريقة دائمة ففي التجسد رأينا الإخلاء.
حتمية التجسُّد
هل كان التجسُّد هامًا لهذه الدرجة؟ نعم لقد تأسس خلاصنا على حقيقة تجسُّد المسيح الذي كان بلا خطية. فعندما أخطأ الإنسان كان عليه أنْ يدفع عقوبة السقوط وهي عقوبة وجزاء معاناة النفس والجسد وهو جزاء لا يحتمله إنسان عادي. ولأنَّ الجزاء يشمل أيضًا معاناة في هذه الحياة لذا كان مِنْ الضروري أنْ يتخذ المسيح جسمًا بشريًا ليس فقط بمكوناته بل أيضًا بضعفه ومحدوديته لذا تعرَّض المسيح لمحدودية البشر في أشياء كثيرة مثل المعرفة واختبر الحاجات البشرية كالجوع والعطش والحزن والألم. ولكن في نفس الوقت كان يجب أنْ يكون بلا خطية لكي يستطيع أنْ يكفِّر عن آخرين بدفع حياته جزاء للخطايا ولم يكن إلا لوسيط بشري حقيقي اختبر كل ما أختبره البشر فيما عدا الخطية ولا يستسلم لتجربة أو يسقط فيها رغم أنَّه تجرَّب بكل ما تجرَّب به البشر ليقدر أنْ يقوم بهذا الدور وبالتالي كان يسوع الوسيط المثالي الوحيد الذي يصلح لهذا الدور. وهذا التجسُّد هو أساس عمل الفداء وشرط ضروري لإتمام وظيفته كونه فاديًا ومخلصًا. وهنا يجب أنْ نقف أمام بعض النقاط الهامة:-
١. يسوع المسيح هو الوحيد القادر على سد الفجوة التي تفصل الإنسان عن الله. لقد كانت هناك غيمة تفصلنا عن الله وهي خطايانا وفصلتنا عن الملكوت فلا الإنسان يقدر على هذا العمل لأنَّ الأبناء مثل أبيهم كما كان أدم هكذا هم. ولا يقدر ملائكة فهم أيضًا بحاجة إلى المسيح لأنهم ليسوا أكفاء لهذا الدور فليس سوى المسيح هو القادر على ذلك.
٢. يجب أنْ يكون الوسيط إلهًا حقًا وإنسانًا حقًا. لكي يجعل أولاد الإنسان أولاد الله وورثة جهنم ورثة الملكوت فقد أخذ المسيح ما لنا وأعطانا ما له فاتخذ المسيح جسدًا ولحمًا ودمًا وعظمًا مثلنا ليكون واحدًا منَّا ويتوّسط لنا ويجب أنْ ينتصر على الموت فمَنْ كان يمكنه ذلك سوى إله؟ ومَنْ له سلطان أعظم مِنْ سلطة الخطية والموت والعالم وإبليس إلا للمسيح.
٣. لا يمكن أنْ يطيع الطاعة التي ترضي الله لتحقيق المصالحة واحتمال قصاص الخطية مكان الإنسان ويقدِّم جسده ليدفع العقوبة التي كنا كبشر كلنا خطاه أنْ ندفعها.
٤. الفداء هو القصد الوحيد للتجسد إنَّ ابن الله أخذ جسدنا لكي يصير ذبيحة وكفارة ليمحو خطايانا فقد أكد المسيح أنه لهذه الساعة قد أتى. وهي ساعة تتميم عمل الخلاص أي أنَّ المسيح أفادنا كثيرًا في أمور كثيرة بتجسده ولكن يظل القصد الأساسي والوحيد هو الفداء.
التجسُّد والإخلاء
لا تعني أنَّ الله ترك لاهوته بعض الوقت ليكون إنسانًا ولا أنَّه كف أنْ يكون معادلًا لله أو تغييرا في جوهر الله ولكنها تعني تغييرًا في الهيئة الخارجية فقط. تعني أنَّه ارتضى طواعية أنْ يصبح غير معروف كإله في العالم وأخفى مجده وعظمته عن الناس فقد حمل طبيعة بشرية على الطبيعة الإلهية جعلت الإلهية غير منظورة بل مخفية تحت البشرية لكنها موجودة وبكاملها. ونلاحظ أنَّ هذا لم يمنع مَنْ يقترب منه أنْ يدركه ويعرف طبيعته اللاهوتية حتي بدون إعلان كما أعلن بطرس وآخرون أنَّ يسوع هو «المسيح إبن الله الوحيد».
إذًا فماذا يعني أنَّه لم يحسب خلسة أنْ يكون معادلًا لله في ضوء كمال الألوهية في المسيح المتجسِّد؟ لا تعني أنَّه لم يكن معادل لله، ولا أنَّه يحتاج أنْ يختلس هذا الأمر بل العكس تمامًا فهي تعني أنَّه لم يكن يحتاج أنْ ينتزع هذه المعادلة لأنَّه بالفعل هو معادلًا لله تمامًا حتى وهو قد صار في صورة إنسان فهذا الإنسان أيضًا إلهٌ كاملٌ دون أي نقص.
اتحاد الله بالإنسان في المسيح واتحادنا نحن بالله.
نحن كبشر نتحد بالله أيضًا ولكن اتحادنا به مختلف جدًا فاتحاد الطبيعتيْن تجعل المسيح ليس شخصًا مستقلًا عن الله بل هو الله نفسه وهذا لا يتوفر في اتحادنا نحن بالله. وأما في أمر طبيعة المسيح البشرية وطبيعتنا البشرية فقد حملت طبيعة المسيح البشرية كل ما لطبيعتنا الإنسانية مِنْ شكل وهيئة وخصائص ودوافع وميول وحاجات وصفات فقد كان كواحد منَّا أخذ طبيعتنا بالكامل وشابهنا في كل شيء وكان مجربًا في كل شيء مثلنا. ولكنه لم يسلك أو يتصرف أو يخطئ مثلنا وذلك لأنَّ فيه شيئًا مختلفًا عنا وليس فينا إنَّه الكلمة. فكون الله في المسيح هذا ما جعله مختلفًا في فعله وسلوكه وقداسته وترفعه عن الخطية فلو كان المسيح فقط إنسانًا فكان يمكن أنْ يخطئ ولكنه كونه الله الظاهر في الجسد فهذا الذي حفظه مِنْ الخطأ. فقد كان الله يعمل في هذا الجسد وهذا ما جعله ينتصر على الخطية ويهزمها بالكامل ويسلك بقداسة الفكر والقول والعمل لأنَّه يفعل إرادة الذي أرسله. إن طبيعته تختلف عن طبيعتنا فقد اتخذ نفس الطبيعة ولكن لأجل شيء فيه ليس فينا وهو أنَّ فيه الكلمة في جسده حلَّ الله وسكن لذا جعله بلا خطية. فقد كان الله يدير هذا الأمر داخله دون إنقاص مِنْ ناسوته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى