العبادة وفصل القيامة
الهدى 1244-1245 يونيو ويوليو 2022
تُقسَّم السَّنة الليتورجيَّة إلى ستَّة فصول مُتتالية، تبدأ بالأحد الذي يسبق الاحتفال بميلاد المسيح، على النَّحو التَّالي: فصل المجيء، فصل الميلاد، فصل الظُّهور، فصل الصَّوم، فصل القيامة، فصل العنصرة. أمَّا فصل القيامة فمُدَّته خمسون يومًا، سبعة آحادٍ تبدأ بأحد الاحتفال بعيد القيامة المجيد، حتَّى أحد العَنصَرة/الخمسين. يشمل ذلك الفصل تأمُّلات عن قيامة المسيح وظهوره مدَّة أربعين يومًا لتلاميذه قبل صعوده، وتهدف إلى إحياء الإيمان بأنَّ يسوع المسيح هو الربُّ لكلِّ الأزمِنة والأمكِنة.
يُقالُ إنَّك لكي تفهم نصًّا كتابيًّا على الوجه الأقرب للتَّطبيق، عليك أن تضَع له سؤالاً، بحيث يكون النَّصّ موضوع الدِّراسة هو إجابةُ ذلك السُّؤال. مَثلاً، لفهمٍ جيِّد للتَّطويبات (متَّى 5) فهو جواب للسُّؤال «أين تكمُن السَّعادة الحقيقيَّة؟». وعلى النَّسَق نفسه نقرأ أحداث القيامة بينما نضع أسئلة مثل: هل قام حقًّا؟ لماذا القيامة؟ ماذا حدث للتلاميذ عندما رأوه مُقامًا؟ وعندما نقرأ (يوحنا 20: 19-23)، ما هو السُّؤال الذي كان يفكِّر يوحنا في إجابته؟ ربَّما: «ما أوَّل ما فعل يسوع بعد قيامته؟» أو: «ماذا كان أوَّل ردّ فعل للتلاميذ عندما ظهر لهم يسوع المُقام؟». وعليه تكون إجابة السُّؤال الأول: «دخل والأبواب مُغلَّقة، وقدَّم براهين قيامته».
أمَّا إجابة السُّؤال الثاني: «ففَرح التَّلاميذ برؤية الرَّبِّ المُقام». لم يكُن ذلك الفرح مُجرَّد الاندهاش والانبهار برؤية عمل خارق، بل كان فرحًا تعبُّديًّا لذلك بالمُنتصر المُقام، الذي قال فيه المرنِّم «اعبُدوا الرَّبَّ بفرحٍ» (مزمور 100: 2). حيث تضمَّن ذلك التعبُّد تعليمًا من المسيح عن: السَّلام (ع 21 أ)، الإرساليَّة (21 ب)، مَنْح الرُّوح القدس (ع 22)، تبادُل الغفران الأخوي (ع 23).
أكبر فرحة
تُعتبر قيامة المسيح أهمّ أحداث زمن تجسُّده، ولا يوجد حدث يهمّنا إثبات صحَّته مثل هذا الحدث. والقيامة ليست مجرَّد حدثًا تاريخيًّا سجَّلته الأناجيل الأربعة، لكنَّها تعنينا نحن في كل يومٍ نحياه فيه، إلى أن نلقاه. فقيامة المسيح بالنسبة لنا فرحة وقوَّة، كما عرفها الرسل واختبروها، ثم أذاعوها وكتبوا عنها.
فرح القيامة هو أوَّل تقليد كنسي روحي تعبُّدي دخل أعماق الكنيسة. فرحةٌ تأكَّدت ببُرهان ملموس ومرئي، عبَّرت عنها الكنيسة بالاحتفال يوم الأحد من كلِّ أسبوع. فكلُّ يوم أحَد هو عيد القيامة، وكلّ أيَّام الأسبوع هي استعدادٌ لذلك العيد الأسبوعي «هذا هو اليوم الذي صنعه الرَّبّ، نبتهج ونفرح فيه» (مزمور 118: 24). لقد ملأت الفرحة قلوب التَّلاميذ حين رأوا الرَّبَّ المُقام. فرحةٌ غطَّت على أحداث أسبوع الآلام، وحوَّلت الحاضر الفاشِل إلى مُستقبل مُشرِق. فرحةٌ بالتَّكليف العظيم لجميع المُجتمعين معه آنذاك، وليس للرُّسل وحدهم: «كما أرسلني الآب أرسلكُم أنا، ونفَخَ وقال لهم اقبَلوا الروح القدس». كما نفَخَ الرَّبُّ الخالِق في التُّراب، فصار آدم نفسًا حيَّة، إنَّها نفخةُ حياةٍ جديدة.
كيف نختبر هذه الفَرحة؟
1. بالإيمان به
قال يسوع لمرثا: «أنا هو القيامة والحياة، مَن آمن بي ولو ماتَ فسيحيا، ومَن كان حيًّا وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا؟». وعند قبر لعازر قبل أن يُقيمه قال لها: «ألَم أقُل لكِ إنْ آمنتِ ترين مجد الله؟» (يوحنا 11: 26، 40). وكثيرًا ما شدَّد على الإيمان بحقيقة قيامته. فقد وبَّخ تلميذيّ عمواس على بُطئ إيمانهِما: «أيُّها الغبيَّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلَّم به موسى والأنبياء» (لوقا 24: 25). ويقول مرقس: «أخيرًا ظهر للأحد عشر وهم مُتَّكِئون، ووبَّخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنَّهم لم يصدِّقوا الذي نظروه قد قام» (مرقس 16: 14).
2. بالاشتراك معه
لا نؤمن أنَّ القيامة حدث يخُصُّ المسيح وحده، لكنَّه يخصّنا أيضًا، نحن شركاء معه في قيامته. لقد قام، وقام بِنا، وقام لأجلِنا، وأقامَنا معه، وقبرُه الفارغ هو قبرُنا أيضًا. بقيامته حوَّل الموت من عدوٍّ إلى صديق، وفتح لنا بابًا ثانيًا في القبر، فلم نعُد نخاف القبر أو الموت. لأنَّه بقيامته أماتَ الخوف، وأخافَ الموت، ونحن فيه لا نموت من الخوف، ولا نخاف من الموت. بقيامته فإنَّ الله «ولدَنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات». إذن، نحن أبناءُ القيامة، ووُلِدنا الميلاد الثاني بقوَّة قيامته. وكما أنَّ الطِّفل يولد وفيه طبيعة الوقوف والمشي، لكنَّها لا تظهَر إلاَّ عندما ينمو ويتقوَّى، كذلك أبناء القيامة، تظهر علامات اشتراكهم في قيامة المسيح في نموِّهم ونُضجِهم الرُّوحيَّيْن، في مجاليّ العبادة والخدمة.
3. بالاجتهاد فيه
لكي نكون تلاميذه بالحقيقة، يجب أن نتبعه ونحمل الصَّليب قبل أن نختبر قوَّة قيامته. ولا نحمل الصَّليب كثِقلٍ أو كعقابٍ، بل نحمله على أنَّه الطَّريق الرَّسمي للقيامة. فلا اختبار لقوَّة القيامة إلاَّ بحَمل الصَّليب. إنَّ الشَّركة في آلام المسيح هي شركة معه في ألم خدمته والشَّهادة لكلمته وشخصه. إنَّنا نتذوَّق طعم القيامة مع كلِّ ألمٍ لأجله. فآلام المسيح في طريقه إلى الجلجثة وعلى الصَّليب كانت مَقبولة ولذيذة عنده، لأنَّه كان يراها في نور قيامته أمام عينيه.
فلنَفْرَح في إيماننا واشتراكنا واجتهادنا، فإنَّ حياة القيامة هي حياة الفرح باستمرار. لقد فرح التلاميذ إذْ رأوا الرَّبَّ المُقام. هذا ما يجب أن نختبره في كلِّ احتفال بعيد القيامة، أوَّل كلِّ أسبوع، بينما نستعدّ لفرحة ذلك العيد الأسبوعي بأخلاقيَّات القيامة: بأن نُحبّ الرَّبَّ حُبًّا لا يقدِر الموت أن يفصِلنا عنه، ونُحبُّ بعضنا بعضًا حُبًّا يتجاوز الاختلافات والخلافات التي بيننا، وننظر لآلامنا ونُقيِّمها في نور أمجاد القيامة، ونسعى ونطلُب دائمًا ما هو سامٍ ومُرتفعٍ وسماويٍّ. هذه هي أخلاقيَّات القيامة.
أعظم قوَّة
يؤكِّد بولس أنَّ معرفته بالمسيح مؤسَّسة على قيامته «لأعرفه وقوَّة قيامته» (فيلبي 3: 10). قوَّةٌ اختبرها بولس شخصيًّا، تلك التي كانت في المسيح قبل صَلبه ومَوته، وهي فيه أيضًا بعد صعوده، قوَّةٌ فتَحَت الباب بَيْن العالمَيْن، الحاضِر والآخَر، قوَّةٌ مُستمرَّةٌ تستطيع أن تُقيم المؤمن نفسًا وجسدًا. فالقيامةُ قوَّةٌ وفَرْحةٌ، قوَّةٌ مُفرِحة، وفَرْحةٌ قويَّة ومُقوِيَة. إنَّها أكبر فرحة وأعظم قوَّة. وعن العلاقة بين القوَّة والفرحة قال نحميا: «اليوم إنَّما هو مُقدَّس لسيِّدنا، ولا تَحزَنوا لأنَّ فرح الرَّبِّ هو قوَّتكم» (نحميا 8: 10).
القيامة أساس العبادة
ماذا لو لم تكُن قيامته حقيقيَّة؟ ستكون مُصالحَتنا مع الله بموت المسيح غير قابلة للتَّطبيق، وتُصبح مُجرَّد رأس مال مُجمَّد لا يُمكننا أن نسحَب منه شيئًا. لكن قيامته جعلتنا نتمتَّع بفاعليَّة تلك المُصالَحة، ونتقدَّم إلى الله بفرحٍ عظيمٍ وخوفٍ مُقدَّس. لذلك يقول بولس إنَّ المسيح «أُسلِمَ مِن أجل خطايانا، وأُقيِمَ لأجل تبريرنا» (رومية 4: 25). فالعلاقة وثيقة جدًّا بين موت وقيامة المسيح، وبين خطايانا وتبريرنا وفَتْح الطَّريق أمامنا إلى الله. فقيامته فقط هي ما جعلت الغفران قابلاً للتَّطبيق. لذلك، اهتمَّ الرسل كثيرًا بإعلان وإثبات حقيقة قيامته. فهي إذن البشارة المُفرحة التي حملوها لكلِّ زمان. لم يكُن هدفهم أن يقتنع النَّاس فقط بهذه الحقيقة، بل أن يؤمنوا بها. لأنَّ الاقتناع عملٌ عقلي ببراهين مُقنِعة، أمَّا الإيمان فهو انفتاح القلب والحياة بعمل الرُّوح القدس على ذلك الحقّ. جميع المسيحيين يصدِّقون حقيقة قيامة المسيح، ومُقتنعون بها، ويُعيِّدون عيد القيامة، لكن ليس جميعهم مُقامين مع المسيح، ولم يختبروا قوَّة قيامته وفَرْحتها. لأنَّ القيامة ليست قصَّة تُروى ويُحتفل بها ليُصدِّقها الناس، لكنَّها قوَّةُ حياةٍ مُفرِحة، يستطيع الإنسان أن يختبرها، ويشهد بها.
قوَّة قيامته مُستمرَّة في المؤمنين
قام المسيح بقوَّة فائقة فريدة، وكما استطاع أن يدخل العِليَّة والأبواب مُغلَّقة، يستطيع أن يدخل فينا ويتَّحِد بنا في سِرٍّ عجيبٍ. لأنَّ القيامة قوَّة جديدة للشَّهادة والكرازة، وللتَّغلُّب على الطَّبيعة البشريَّة القديمة، والانتصار على الموت، هذه هي القيامة الأولى، قيامة النُّفوس. إنَّ القوَّة التي قام بها يسوع من الموت هي التي مازالت تعمَل فينا: «إنْ كان روحُ الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه السَّاكن فيكم» (رومية 8: 11). فقوَّة قيامته ستُحيي أجسادنا أيضًا بعد انتقالنا إليه، وهذه هي القيامة الثَّانية. إنَّ سِرَّ قيامته يؤهِّلنا للصُّعود معه والحياة معه، لأنَّه «أقامنا معه، وأجلسنا معه في السَّماويات» (أفسس 6:2).
فحالما تتَّحد النَّفس مع المسيح بالإيمان، كأنَّها اتَّصلت ببطاريَّة كهربائيَّة شاحِنة. هذا ما قصده بولس حين قال «لأعرفه وقوَّة قيامته»، فمَن يؤمن بالمسيح الرَّبّ سوف تنسكب فيه قوَّة قيامة المسيح، فيقوم من قبر الشَّهوة المسجون فيه، ويتخلَّص من عبوديَّة الفساد التي قيَّدتهُ، ويخرُج إلى حريَّة مَجد أولاد الله. وكما أنَّ الشَّخص القوي السَّليم، عندما يتعرَّض للميكروبات يُقاومها، بعكس الضَّعيف الهزيل الذي يتأثَّر بها سريعًا، كذلك المؤمن الذي يتمتَّع بقوَّة قيامة المسيح، يعظُم انتصاره في أعنَف التَّجارِب وأشدِّ المِحَن، بفضل قوَّة المَناعَة التي اختبرها في قوَّة قيامة المسيح. المسيح تألَّم ثمَّ قام، أمَّا نحن فنقوم ثمَّ نتألَّم لأجله ولأجل الآخرين، هذه هي قوَّة القيامة. التي تنصُر الحقَّ على الباطل، والحُبَّ على البُغض، والشَّجاعة على الخوف، والحياة على الموت.