القيامة والصعودقضايا وملفاتملفات دينية

القيامة والفرصة الثانية

الهدى 1231                                                                                                                                    مايو 2021

عندما نأتي إلى أحداث الصلب والقيامة لا يغيب عن بالنا حادثة شهيرة تمت في ذلك الوقت من أحد تلاميذ الرب آلا وهي حادثة إنكار بطرس لسيده المسيح، ورغم أنَّ بطرس سطَّر بعد ذلك تاريخًا مجيدًا في خدمه الرب إلا أنَّه مع الأسف تظل واقعه الانكار هي أهم ما يميز شخصيّة بطرس في نظرنا وسنحاول في تأملاتنا إلقاء الضوء على «شخصية بطرس» في إنكاره وبعد ذلك بما حدث من تغير في شخصيته وارساليته.
من خلال النقاط التالية:
أولًا: بطرس بين «التصريح» و «الإنكار»
ثانيًا: قرار التبعية والتكلفة (بطرس المقام)
أولًا: بطرس بين «التصريح» و «الإنكار»
بعد العشاء الاخير تحدث الرب يسوع مع تلاميذه بهذه الكلمات في (متى 26: 31-35)
حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِىَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هكَذَا قَالَ أَيْضًا جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ».
الرب وبطرس استخدما كلمه معينة «الكل- الجميع» فقال الرب: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِىَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ»؛ وصرح بطرس تصريحًا خطيرًا فقال: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا»؛ والرب ربما تساءل في نفسه: أي «جميع» أنت تفهمه يا بطرس -هل تعرف كل واحد من التلاميذ فيما يفكر .. هل تفهم حقًا الجميع؟
وليس القصد على الاطلاق من هذه الرسالة السخرية من « بطرس» أو اظهاره كالخائن لسيده. في الواقع كلنا بطرس بدرجة أو أخرى .. كم من مرة وعدنا الرب بوعد ولم نف به وكم ليله رأس سنه اتينا لنقل للرب: السنة الجديدة اوعدك يا رب اعمل واعمل…. ولم يحدث شيء مما وعدنا به، ونقرا في (1كورنثوس 10: 12) «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ.»
لا بد أن ندرك أنه ما دمنا في الجسد وعلى الرغم من تمتعنا بنعمه الله الغنية لكن هذا لا يقلل من أهميه حذرنا فلا يوجد من هو أكبر من السقوط في الخطية فإن عدو الخير مرة يحطمنا باليأس من خطايانا ومرة أخرى من خلال الاحساس بالأمان الزائف وواضح أنَّ بطرس غاب عنه أن يعرف ضربة قلبه إلا وهي الاعتداد بالذات «اَلْقَلْبُ يَعْرِفُ مَرَارَةَ نَفْسِهِ، وَبِفَرَحِهِ لاَ يُشَارِكُهُ غَرِيبٌ.» (أمثال 14: 10)، نأتي لحادثه الانكار نفسها: وسنراها من خلال تسجيل البشيرين متي و لوقا (متى 26: 69- 75 ؛ لوقا 22 : 60- 62)
نذكر هنا الأعداد المختصة بالإنكار فقط:
«فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ» (متى 26: 74).
«فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا» (لوقا 22: 61-62)
لابد أن نعلم أنَّ الرب في ذلك الوقت كابن الإنسان لم يكن في وضع هادئ أو عادي بل كان في وضع قاسي من هزء وتعييرات
-بطرس لم يعرف أو يفهم وكذلك نحن بالتبعية:
إنه كثيرًا ما لا نعرف أن الخطية قريبة جدًا منا وانه من السهل جدًا السقوط فيها
هذه بعض الشواهد لنعي كم الخطية بحق مؤلمة ومؤثرة للغاية: مزمور 119: 37؛ أمثال 7: 26 وعبرانيين 12: 1-3).
إشارة سريعة لما تحتويه هذه الشواهد
مزمور 119: 37 يجعل عيوننا تتحول عن الخطية
أمثال 7: 26 نتيجة الخطية (السقوط فيها)
عبرانيين 12 :1-3 تحذير وتحفيز (من الخطية المحيطة بسهوله وامكانيه النصرة)
«وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا»، قد لا نكون انكرناه بأقوالنا لكن انكرناه بأعمالنا «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تيطس 1: 16).
هذا الاعتداد بالذات الذي كان لدي بطرس احتاج علاجًا بالموت عن هذه الذات حتى يحمل السيد نفسه في داخله ويتسطر في أعماقه فتذوب الإرادة البشرية في إرادة المسيح الحكيمة.
ثانيًا: قرار التبعية والتكلفة (بطرس المقام):
لابد هنا من العودة إلى علاج الرب يسوع لبطرس وكيف دعاه لتبعيته، «فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَالصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ. فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلًا عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمِ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ. فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلًا: اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ. إِذِ اعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي أَخَذُوهُ. وَكَذلِكَ أَيْضًا يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبَدِي اللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: «لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ وَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ» (لوقا 5: 2-11).
فبعد القيامة حدث أمر غريب ان بطرس يبدو انه كان في حالة ملل فرجع للصيد مرة أخرى وجذب معه 6 أخرين، لكنهم عانوا من نفس الفشل الذي حدث في لوقا 5، عند الدعوة الأولى للتبعية، والرب كرر نفس المعجزة لكن في هذه المرة ليس لمجرد التبعية بل لتشكيل جديد لبطرس، قبل أن نذكر المعجزة وتعامل الرب معه لابد لنا من وقفه مع ما يمكن أن نسميه «حاله الملل الروحي» في الواقع تبعيه الرب ليست سهله تتطلب صليبًا نحمله وتضحيات نتحملها ولم يعد الرب يسوع أبدًا قديسيه بتبعية سهلة فقد قال: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي.» (لوقا 9: 23)، ونأتي لذكر ظروف المعجزة وبعد ذلك الحوار الذي دار بين المسيح وبطرس (19-15، يوحنا 21: 2-3)، «كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئًا. فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ارْعَ خِرَافِي». قَالَ لَهُ أَيْضًا ثَانِيَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ارْعَ غَنَمِي. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ». قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُمَجِّدَ اللهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هذَا قَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي».
ومن خلال هذا الحوار مع بطرس نرى بوضوح أن الرب أعطاه الفرصة الثانية للتبعية ويحلو لي أن اسميها، «مسيحية الفرصة الثانية» فمثلما أعطت القيامة حياة أخرى لنا وامتدادًا جديدًا كذلك أظهرت كم أنَّ مسيحنا شجع بطرس على الفرصة الثانية وهي التي جعلت منه رسولًا مختلفًا لا يخاف من الصليب بل يقبله ويُصلب عليه هو شخصيًا لكنه اختار أن يصلب مقلوبًا حينئذ وليس كسيده
نعم الله لا يمل أبدًا منا حتى لو مللنا نحن من أنفسنا .. قد نخسر في جماعة المسيح اليوم لو لم نعط فرصة ثانية لأشخاص جادين في تبعيه المسيح، قد تخسر الكنيسة طاقات خلاقة أن استعجلنا في اصدار أحكام أو إدانة لهم، فاذا وجد من يستهتر بهذه التبعية فإن هذا أمر مختلف قد يحتاج لإنذار وتقويم حتى يعود إلى رشده
أخيرًا
هناك فارق ضخم بين تبعية غير مكلفة وتبعية مكلفة وإله القيامة يستطيع أن أردنا أن يمتعنا بتبعيه مكلفة لكنها هي الإثمار الحقيقي فيه ولذا على كنيسه المسيح أن تكون واعية لإعطاء فرصة أخرى لمن هو جاد في تبعيته ويعيها بحق ولإلهنا المجد على الدوام في كنيسته أمين.

القس رأفت رؤوف الجاولي

* تخرج في كليّة التجارة جامعة أسيوط 1988م،
* ثم تخرج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة 1995م،
* خدم في الكنيسة الإنجيليّة في بنها،
* سِيمَ راعيًا للكنيسة الإنجيليّة الثانيّة بالطيبة، سمالوط، المنيا عام 1997م،
* نُصِّبَ راعيًّا للكنيسة الإنجيلية في سيدي بشر قبلي-الإسكندريّة عام 2000م،
* أصبح قسًا مرسليًّا (Missionary Pastor) وسط اللاجئين العرب في لوس أنجلوس 2011،
* يخدم مع عدد من الكنائس المشيخيّة الأمريكيّة في مجال الكرازة والتدريب، له عدد من الكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى