الماضي مرآتنا .. من شفرة دافنشي إلى إنجيل يهوذا قضايا وإشكاليات
الهدى 1073 يناير 2007
شهد المجتمع المصري في عام 2006م، حراكًا ثقافيًا وسياسيًا واسعًا، شمل عدة قضايا هامة، في مستويات كثيرة، كما شهد هذا العام تطاولا على الأديان. وما يهمني هو التركيز على ردود الفعل حول قضيتي رواية شفرة دافنشي وإنجيل يهوذا، اللتين ثار حولهما جدلٌ واسعٌ في العالم المسيحيّ والمجتمع المصري؛ لأن ما جاء بهما هو هدم للعقائد والأسس المسيحيَّة التي آمنت بها الكنيسة والمؤمنون عبر ما يقرب من ألفي عام.
وما أريد التعرض له هنا ليس المحتوى ولكن منهاجيَّة الردّ على مثل هذه الأشياء لأنَّها لم تكن الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة. وفي مثل هذه الأمور نجد أنَّ الحلَ في بناء عقليَّة نقديَّة، تكون قادرة على التحليل، والنقد، والاختيار لمواجهة مثل هذه الأمور المتخالفة.
ومن هنا أضع مجموعة من المبادئ العامة لتناول مثل هذه القضايا والإشكاليات.
1- البحث والإيمان
العلاقة هنا بين أمرين هامين هما قضية البحث والتنقيب والدراسة، وقضية الإيمان، ويتخيل للبعض أنَّهم من خلال بحثهم سوف يؤمنون، ولكن القضية تصبح أكثر فاعليَّة عندما يكون البحث من خلال منطلق إيماني؛ فنحن من خلال إيماننا نبحث، لا نبحث لكي نؤمن، فالحالة الإيمانيَّة هي حالة ثابتة تتعمق مع البحث والدراسة وليس العكس. فلا يؤثر على الإيمان المسيحيّ الثابت والراسخ منذ قرون طويلة شفرة دافنشي أو إنجيل يهوذا، أو غيرهما. كما أنَّ الإيمان يقود إلى فهم حقيقي لقضايا البحث، ويصبح هو ذاته – أي الإيمان – رحلة بحث.
2- المنح والمنع وفكرة الوصاية
يهوى الكثيرون، أمام الأمور المتخالفة والمدهشة، منهاجيَّة القمع، والحذف، والرقابة، والمنع، كل هذه المترادفات ترسخت في العقليَّة العربيَّة نتيجة للاتجاهات السياسية الثابتة، والتي رسخت مفهوم أنَّ الشعبَ قاصرٌ، وليس له الحرية في الاختيار، ومن الأفضل أن تختار له النخبة الحاكمة أو المثقفة، فنشأت فكرة الوصاية؛ أما الشعب فهو مغيب، حكمتنا هذه السياسة لعقود كثيرة، عشنا من خلالها بين هذين المتناقضين: المنح والمنع، تلك القضية التي تفترض أننا مجتمع قاصر، لا أمل فيه، لا يعرف أن يختار بنفسه.
والذي حدث مع شفرة دافنشي وأعمال أدبيَّة كثيرة مماثلة مُنعت في الشرق، ونُشرت في الغرب، ومُنعت في بلدٍ عربيّ، ونُشرت في بلدٍ عربيّ أخر. هو تفضيل المنع خشية على الشعب! والذي يزعجني كيف نحيا بهذه العقليَّة، ونحن في هذا العصر المتطور والمتقدم في نقل المعلومة؟
لذلك كان منع شفرة دافنشي عبر مجلس الشعب المصريّ في غير مكانه، لأن الشعب شاهد الفيلم رغم منعه (الذي هو عبارة عن مغامرة بوليسيَّة تحوي بعض الأفكار الغريبة على القارئ والمشاهد المعاصر دون تجسيد لشخصيَّة المسيح في الفيلم).
ولابد أنْ يعاد النظر في المجتمع الذي تقلقه رواية، أو تزعجه صورة، أو مشهد ما، أو تصريح، أو دراسة خرجت عن المألوف. هذا مجتمع هش في بنيته الثقافيَّة والإيمانيّة أيضًا، ولا بد أنْ يعاد بناؤه من جديد. لذلك نرى العلاج في زيادة الوعي، وتأصيل العقل النقديّ، والمناداة بحرية الضمير، وتأكيد وتشجيع القدرة على الاختيار والتمييز.
3- الإبداع والبدعة
الإبداع أمر هام ومطلب ضروي داخل كافة مؤسسات الدولة، بما فيها الكنيسة، ولا خلاف حول قضية الإبداع الذي هو ضد التقليد، والتنميط، والقولبة، الذي ابتلينا به. الإبداع كما عرفته قواميس اللغة هو إنشاء صنعة بلا احتذاء، ولا إقتداء. وجاء في لسان العرب لابن منظور أبدعت الشيء- أي- اخترعته ليس على مثال. وعندما نقول أنَّ شخصًا أبدع الشيء أي أخترعه ليس على مثال، ومعيار الإبداع هو الإتيان بالجديد المبتكر لتنمية وخير البشريَّة.
الإبداع يختلف عن البدعة (بكسر الباء) وكما جاء أيضًا في تعريف البدعة: هي التي تخالف الأصول. وفي قاموس المحيط جاءت البدعة (بالكسر): الحدث في الدين بعد الاكتمال. وبعض القواميس وضعتها بمعنى الهرطقة. ومن خلال التعرف على أصول هذه الكلمة لغةّ واصطلاحًا تأتي على أساس الخروج عن الثوابت الإيمانية، والإجماع الدينيّ. وعند تناول شفرة دافنشي اعتبرها البعض إبداعًا، كرواية إبداعية، ربما تكون هكذا لو امتنعت عن التعرض للأسس الإيمانيَّة المسيحيَّة بالهدم والتضليل، وخلط التاريخ بالرواية، والاعتماد على مصادر رفضتها الكنيسة، ومشكوك فيها.
نحن مع الإبداع، ونعلن احتياجنا المُلِح إليه، ليصبح أسلوب تفكير ومنهاج حياة، ولكننا نقف بالمرصاد ضد البدعة.
4- الفعل ورد الفعل
لكل فعل رد فعل، ويقاس تحضر الجماعات البشرية وفق ردود أفعالها، نحن لا نقبل التعرض أو الإساءة للأديان أيًا كان نوع هذا الدين، ولكن الأمر يتطلب ضبط العواطف، وتحكيم العقل، وتفعيل الحوار، والرد على الحجة بالحجة عبر دور النشر ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.
وكان الرد على شفرة دافنشي – التي طعنت في الإيمان المسيحيّ ولا سيما في العقائد الأساسيَّة والجوهرية – ردًا حضارياً، عقلانياً، إيمانياً في تبني ثقافة اللاعنف، فسارع الكثيرون في مختلف مواقعهم بالتعرض لشفرة دافنشي وإنجيل يهوذا، بالكتابة واذكر هنا هذا الكمّ من الإنتاج الأدبيّ العربيّ المسيحيّ الذي ظهر في مصر ردًا على هذه الإدعاءات والمزاعم المغلوطة: كتاب مريم المجدلية والكأس المقدسة للقس عبد المسيح بسيط أبو الخير، نبذة من دار الكتاب المقدس بمصر حول أكاذيب شفرة دافنشي، ثم كتاب شفرة دافنشي من رواية دان براون الخيالية إلى إيمان المجدلية ترجمة الدكتور القس مكرم نجيب، وأيضًا كتاب إنجيل يهوذا للقس محسن نعيم، والكتابان صدرا عن دار الثقافة بالقاهرة، بالإضافة إلى دراسة قيمة قدمت على صفحات مجلة روزاليوسف عدد 4070 للكاتب الأب رفيق جريش تحت عنوان فك شفرة دافنشي. بجانب مقالات كثيرة في الصحافة الكنسيَّة بمختلف مذاهبها وطوائفها، والصحافة القوميَّة، والحزبيَّة، والمستقلة. بالإضافة إلى الندوات الكثيرة التي أقيمت في داخل الكنائس لمناقشة هذا الحدث.
هذا الكم من الإنتاج الأدبيّ العربيّ المسيحيّ دافع عن الأسس الإيمانيَّة دون تشنج أو عنف، وبأسلوب حضاري راقٍ.
5- استثمار الحدث
الحوادث المضادة إما أن تكون لنا أو تحسب علينا، وما حدث ضد مزاعم دان براون ومزاعم إنجيل يهوذا المزيف كان استثمارًا عظيمًا للإعلان عن موقف الكنيسة الرسمي، والإيمان المطلق بلاهوت المسيح، وفي نفس الوقت الإعلان عن الإيمان القويم والراسخ للكنيسة بكل قوة وجراءة، وفق المنابع والمصادر الروحيَّة والإيمانيَّة للكنيسة من خلال الكتاب المقدس والفكر اللاهوتيّ عبر أكثر من ألفي عام.
هذه منظومة متكاملة من خلالها نتناول مثل هذه الأحداث بالمنح وليس المنع، بالإبداع وليس البدعة، بالفعل وليس رد الفعل، بمحاولة استثمار الحدث لصالح الجماعة البشريَّة، إننا نؤمن لذلك نبحث وليس العكس، ومن خلال هذا التوجه تتحول الأزمة إلى بركة عظيمة. وهذا ما أحدثته شفرة دافنشي وإنجيل يهوذا اللذان أحدثا حراكًا ثقافيًا، وفكريًا، ولاهوتيًا داخل الكنيسة في مصر، والعالم.