المسيح والسؤال الذي حيَّر بيلاطس.
الهدى 1248 مارس وأبريل 2023
بعد أن أُلقيَّ القبض على يسوع، مساء يوم الخميس، في بُستان جثسيماني، تعرَّض لمحاكمتين، تحت جنح الظلام، أولهما دينيّة، وثانيهما مدنيّة، وقد اشتملت كل محاكمة على ثلاث جلسات، فقد عُرِضَ أولًا على حنَّان رئيس الكهنة السابق، الذي لم يسأل يسوع، سوى عَنْ تلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ (يوحنا 18: 12-14، 24)، بعدها أُخِذَ إلى قيافا رئيس الكهنة في ذلك الوقت، وقد أحاله إلى السنهدرين، ومن ثم أحالوه للقضاء المدني لاستصدار حكمًا بالموت، وهكذا بدأت المحاكمة المدنيّة ليسوع، والتي تمت في ثلاث جلسات، الأولى أمام بيلاطس الحاكم الروماني (يوحنا 18: 28-38)، والثانية أمام هيرودس (لوقا 23: 6-12)، والجلسة الثالثة والأخيرة، كانت أمام بيلاطس (يوحنا 18: 39-19: 16)، والتي وجد فيها يسوع غير مذنبٍ، لكنَّه خضوعًا لليهود وخوفًا من أن يشتكوه أمام قيصر، سلَّم لهم المسيح، ليُصلب وفقًا للقانون الروماني، وتحت مرأى ومسمع القيادات الدينيّة اليهوديّة.
ومع أنَّ البشير يوحنا لم يُركِز على المحاكمات أمام رئيس الكهنة أو مجمع السنهدرين، نراه يتحدث باستفاضة عما دار في محاكمة يسوع أمام بيلاطس، وبيلاطس في محاكمته ليسوع وجَّه إليه -بحسب البشير يوحنا- سبعة أسئلة تتعلق بهُويَّة ورسالة يسوع المسيح، وهذه الأسئلة هي:
1) «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟».
2) «أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟».
3) «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟».
4) «مَا هُوَ الْحَقُّ؟».
5) «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟».
6) «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟
7) أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟» (يوحنا 18: 34-19: 11). وفي هذا المقال نتناول:
السؤال الأول: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (يوحنا 18: 34)؛ كان هذا هو السؤال الأول الذي وجهه بيلاطس للمسيح، حيث كان يقوم بعمله الطبيعي كمحقق عن طريق توجيه التهمة إلى المتهم، باستخدام أسئلة مباشرة تمشيًا مع الإجراءات القانونيّة الرومانيَّة، لكنَّ هذا السؤال كان محوريًا في فكر بيلاطس قبل أن يبدأ محاكمة يسوع، لأنَّه إذا كان يسوع ملكًا بالمفهوم الروماني، فهذا معناه تمردًا وعصيانًا مباشرًا على بيلاطس، والامبراطورية الرومانيّة ذاتها، وإذا كان يسوع ملكًا بالمفهوم اليهودي، فالأمر لا يختص به بيلاطس، ويعود لقادة الدين اليهود، لكنَّ يسوع لم يُجب بيلاطس كما كان مُتوقعًا، بنعم أو لا، وأجابه بطريقة غير مُباشرة، إذ قال له: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟»، كانت إجابة يسوع تتعامل مع بيلاطس كإنسانٍ وليس كحاكمٍ روماني، إنَّه سؤال يختبر قلب بيلاطس، هل هو صادقٌ فعلًا في سؤاله، هل يريد معرفة الحقيقة، أم سؤاله مجرد إجراءٍ شكلي؟ لكنّ بيلاطس لم يُدرِك أنَّه أمام شخص لا يتكلَّم فقط في بعدٍ سياسي، بل يريد أن يأخذه لعمقٍ يُغير من مستقبله الروحي. لم يفهم بيلاطس ما يرمي إليه المسيح، وكانت إجابته، «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ». وبهذه العبارة فقد أثبت الذنب على الأمة اليهوديّة، خاصته، التي أحبها يسوع وخَدمها، والتي جاء إليها، لكنَّ للأسف «.. خَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا 1: 11).
الغريب أنَّ أول سؤال جاء في العهد الجديد، كان له علاقةٍ بالسؤال الأول الذي سأله بيلاطس، عن «مُلك المسيح»، وقد سأله سابقًا رجالُ مجوسُ أمميون، جاءوا من المشرق، ليسألوا: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ … وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً» (متى 2: 2، 11)؛ وقبلوه ملكًا، وسجدوا له، وقد آمن به ملكًا، بعضٌ من اليهود، الرعاة، نثنائيل، إذ قال: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا 1: 49)، وكذلك جمهور المتعبدين أثناء دخوله الانتصاري، قائلين: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا 12: 13)، وها هو رجلٌ أممي أيضًا، يسأل المسيح نفسه «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»؛ وغالبيّة من اليهود وقادتهم يهتفون: «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» (يوحنا 19: 6)، وإلى اليوم، هناك مَن عَرِفَ المسيح ملكًا وآمن به، وهناك مَن عَرِفَه، ولم يؤمن به، والسؤال الآن: إلى أي فريقٍ تنتمي؟