خاطرمقالات

بعض انتظاراتنا لكنيستنا المشيخية في الخمسين سنة القادمة

الهدى 1220                                                                                                                                  أبريل 2020

مقدمة لابد منها:
في عام ١٩٧٦ أي قبل أربعة وأربعين عامًا كانت رسامة وتنصيب إستاذ اللغة الإنجليزية وشيخ الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط قسًا وراعيًا عليها، وذلك خلفًا للراعي المخضرم نصيف جندي، ولقدكان باقي صدقة منذ ظهوره الأول على الساحة الوطنية والمجتمعية والكنسية يمتلك موهبة وعظية فريدة من نوعها، إذ يمتلك ناصية اللغة العربيةويروضها للتعبير عن فكره بإسلوب بديع، له جرس موسيقي يجمع فيه بين عمق المعنى وطرافة اللفظ، هذا فضلًا عن صوته الرخيم وقدرته الواضحة على جذب المستمعين له من بداية الحديث حتى نهايته. من لحظة رسامته وتنصيبه عبر قولًا وكتابة عن تصوره لمستقبل الكنيسة المحلية في إطار رؤيته للكنيسة المشيخية العامة بمصر.
لقد رأينا إعادة نشر المقال الذي عمره- تقريبًا- نصف قرن من الزمان ونضع معه سؤالًا في ذهن القارئ – بعد إستيئذانه- وهو يتتبع أفكار القس باقي الواحدة بعد الأخرى، ليجيب في النهاية :هل تحقق ما كان في ذهن شيخنا الجليل أوحتى بعضًا منه منذ خطه بقلمه الذهبي؟!!!
لا شك أنَّ تطلعنا للمستقبل ينبغي أن تسبقه وقفة نراجع فيها الماضي، ونتأمل فيها الحاضر.
ولقد كان تاريخ كنيستنا الإنجيلية في بلادنا خلال عمرها الذي يزيد عن قرن من الزمان، تاريخًا مُشرفًا مضيئًا حقًا.
لكننا ينبغي أن ننقد نفوسنا بصراحة لا نقد الهدم واليأس، بل نقد المهندس الذي يبحث عن كل شدخ أصاب الجدار ليبقى البناء سليمًا قويًا.
ولا شك أن جيلنا يذكر الأعمال العظيمة الجبارة التي ارتبطت بتأسيس الكنيسة الإنجيلية في بلادنا، ولا يزال جيلنا يذكر الرجال الأبطال الذيم بنوا الكنائس والمدارس والمستشفيات من المرسلين ومن الوطنيين على السواء.
ومن المؤسف أننا اليوم نلقى الكنيسة العظيمة وقد أصابها شيء قليل أو أكثر من الجمود وكأنها شاخت قبل الآوان. صحيح أنها الآن تقف على قدميها في ميادين كثيرة، ولكن إحصائيات العضوية وعدد الكنائس تظهر أنها على الأقل لا تزيد بنفس معدل زيادة السكان؛ فضلًا عن أن تأثيرها لم يعد بمثل قوة السنين الماضية.
وهناك أسباب وصلت بالكنيسة إلى وضعها الحالي، ولا بد من مواجهتها خلال الخمسين سنة القادمة، بعضها خارج عن إرادتها، ويعضها هي مسؤولة عنه:

  1. أول هذه الأسباب هو الهجرة الداخلية (من القرية إلى المدينة)، مما أدى إلى ضعف ملحوظ في كنائس القرى وتقدم ظاهري في كنائس المدن. ونقول تقدم ظاهري، لأنَّ عددًا كبيرًا من الأعضاء في تيار هذه الهجرة الداخلية يضيعون بسبب عدم متابعة راعي أو كنيسة القرية لهم، وبسبب إغفال كنيسة المدينة الترحيب بهم أو تشجيعهم، ثم الهجرة الخارجية من خيرة أعضاء كنائسنا إلى دول أخرى خارج بلادنا.
  2. التيار الجارف للطوائف الأخرى، وغني عن القول إن الكنيسة الإنجيلية في بداية تاريخها في مصر قامت على أساس تقديم الإنجيل للناس وتعريفهن به، والوعظ، والخدمة الاجتماعية عن طريق المدارس والمستشفيات. وإذ بنا نرى الكنائس الأخرى في السنين الأخيرة تسلك نفس الطريق. ولذا أصبحنا وكأن لا شيء جديد نقدمه للناس، فضلًا عن أن التيار التقليدي ينتشر بسهولة الانقياد وراء رجال الدين بسبب تأثره البالغ بالتقليد والتقاليد؛ أو لرغبته في الانتماء إلى «سلطة دينية»، لها هيبتها التي تشد الأنظار إليها. كما أن كثيرين أصبحوا ينحرفون اليوم إلى تيار بعض الطوائف التي تحرص على إشباع «العاطفة» أو استغلال «السذاجة» فضلًا عن تقديم «خادم» لهم لا يكلفهم أعباء مالية كبيرة.
  3. ومن الأخطاء الواضحة في عدد كبير من كنائسنا الإنجيلية اليوم أن النظام المشيخي نفسه قد أصبح في حالات كثيرة مظهريًا أو اسميًا فقط؛ بمعنى أن الواقع هو أن الراعي قد أصبح كل شيء في الكنيسة. فمع أن نظامنا المشيخي يعتبر الشعب هو الأساس، وأن الراعي هو الشيخ المعلم الذي يرأس مجلس الكنيسة، لكنه لا يرأس الكنيسة، ومع أن دستور كنيستنا يشرح في إسهاب واجبات الشيوخ والشمامسة، إلا أننا لا ننكر أن كثيرين من القسوس اليوم أصبحوا يشعرون أن الاستغناء عن الشيوخ والشمامسة أفضل من متاعب المشاكل التي قد يسببها الشيوخ والشمامسة الذين لا يعرفون واجبهم، أو الذين يظنون أن مهمتهم هي إيجاد المشاكل في طريق الراعي، ولكنهم «استكمالًا للشكل»، يستعينون بشيوخ منتدبين من كنائس أخرى، وقد لا يجتمع مجلس الكنيسة مثلًا لمدة سنوات. يمكن أن نسأل أنفسنا بصراحة هل كنيستنا اليوم بحسب الواقع كنيسة «مشيخية» فعلًا. هل هناك جدية ودقة في انتخابات الشيوخ الصالحين والمناسبين للمشيخة؟ هل عدد الشيوخ في الكنيسة يتزايد أم يتناقص؟ وهل هم يمارسون مسؤوليتهم وخدمتهم في الواقع طبقًا لمفهوم المشيخة في الكتاب وفي دستور الكنية؟ أم أن وجودهم هو فقط على سبيل المظهر أو الحد من «سلطة» القسيس الذي قد لا يكون ديمقراطيًا؟
    ونتج عن ذلك أن الشعب اليوم في حالات كثيرة لم يعد يبالي بالكنيسة، وأصبحت علاقته بها علاقة سلبية أو هامشية، وضعف الوعي العقيدي في الأعضاء حتى الإنجيليين يتزوجون في كنائس غير إنجيلية، ويقبلون المعمودية من جديد وكأنهم غير مسيحيين وكثيرون من الإنجيليين اليوم يصلون على موتاهم أيضًا في كنائس غير إنجيلية …الخ.
  4. من الأخطاء الحالية ضعف الإحساس بانتماء الكنيسة المحلية تجاه الكنيسة العامة، وتكاد بعض كنائسنا الكبيرة اليوم تتجه نحو النظام الاستقلالي.
  5. هناك شكوى مرة من نظامنا المالي الحالي الذي أصبح بعيدًا كل البعد عن روح المشاركة والمحبة المسيحية، ومن نتائج هذا النظام أن كثرين من الخدَّام قد أصبحوا يتسابقون على الكنائس الكبيرة أو الوظائف العامة أو تغيير مسار خدمتهم والاتجاه إلى أعمال أخرى داخل نطاق المنشآت الكنسية أو خارجها، كما ضعف الاقبال على كلية اللاهوت، واحجمت العناصر عن الالتحاق بها، وربما لأن التضحية المطلوبة هي أقوى من طاقتهم أو لأنهم يظنون أنه لا مبرر لها طالما أنهم يخدمون الكنيسة خارجها في ظروف أفضل. وإني أعتقد أن نظامنا المالي الحالي إذا لم يصلح سريعًا فإن آثاره على مستقبل الكنيسة ستكون خطيرة للغاية.
  6. أرجو أن أكون مخطئًا في هذا الظن، فإني أشعر أن روح التكريس والشهادة العملية التي تميز بها الإنجيليون في سنيهم الأولى قد ضعف كثيرًا فقد كانوا ينبرون على دراسة الكتاب واليوم قد تخلفوا. كانوا أقلية خلاقة مؤثرة في المجتمع، كانت صفحاتهم مشرفة، ولقد غيرت الكنيسة الإنجيلية «سوق القرية والمدينة» في معظم الأماكن من يوم الأحد إلى أيام أخرى وسط الأسبوع احترامًا ليوم الرب، ولقد نددت الكنيسة الإنجيلية في تاريخها بالأعضاء الذين كانوا يحتفظون بعبيد وأمرتهم بتحرير العبيد، أي أن الكنيسة كان لها تأثير واحترام ملحوظ في المجتمع لا تتمتع بمثيل له الأن.
  7. في الوقت الذي تعاني فيه الكنيسة اليوم من قلة الخدَّام، نرى عددًا ليس بقليل منهم مشغولين بأمور إدارية كان يمكن أن تترك للعلمانيين من أبناء الكنيسة.
  8. من المآخذ التي تخجلنا الأن كإنجيليين أننا لسنا كنيسة شاهدة أمام غير المسيحيين.

لكن إلى جانب ذلك نرى بعض الجوانب المشرقة الموجودة اليوم والتي تستحق كل مساندة وتشجيع، منها:

  1. العمل بين الشباب في الكنائس المحلية وفي المؤتمرات في مختلف الأماكن.
  2. الخدمة الاجتماعية ممثلة فيما تقوم به الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية.
  3. انفتاح الكنيسة للهيئات الأخرى وتعاونها أو تعاملها مع الطوائف الأخرى والهيئات الداخلية والخارجية (مع أن هذا الأمر ينبغي أن تكون له تحفظات كثيرة).
  4. النشر المسيحي ممثلاً في دار الثقافة، والصحافة المسيحية كالهدى وأجنحة النسور، وهنا يجب الإشارة إلى أن ميدان الصحافة والكتاب المسيحي هو أعظم من الميادين التي ينبغي أن نهتم بها.
  5. دور المغتربين من أبناء الكنيسة في أسيوط والمنيا والإسكندرية والتي نرجو أن تعمم في بلاد أخرى.

والأن بعد أن ألقينا نظرة سريعة على ماضٍ نشكر الله عليه لما كان فيه من إشراق، ونستغفر الله عنه لما كان فيه من نقائص؛ وبعد أن ألقينا نظرة خاطفة على الحاضر الذي لسنا قانعين به أو راضين عنه، وبعد أن ذكرنا بعض الأخطاء؛ نتطلع إلى ما يمكن عمله خلال خمسين سنة قادمة إن تأنى الرب في مجيئه.
إننا نحتاج إلى استراتيجية جديدة لتلك التي كانت في رؤى المرسلين عندما جاءوا إلى بلادنا، كان الناس في البداية ينتقدونهم مثلًا لأنهم بنوا كلية أسيوط بعيدًا عن العمران؛ وإذا بالسنين تثبت أن نظرة الاستراتيجية البعيدة المدى كانت نظرة صائبة وما قد يكون اليوم خيالًا أو وهمًا سيصبح غدًا حقيقة.

بعض الآمال في الخمسين سنة القادمة:

  1. أن تعاود الكنيسة الاهتمام بالخدمات الأساسية التي أهملتها في السنين الأخيرة كالعمل في مدارس الأحد مثلًا، وأن تدقق أكثر في قبول الأعضاء حتى يكونوا دعامة سليمة في بناء الكنيسة.
  2. كان التنبير في الماضي على الوعظ، ونحن الأن ولسنين كثيرة قادمة سنعيش في عصر الدرس والحوار، وإذا استطعنا أن نحول اجتماعاتنا وعبادتنا إلى فرص دراسة ومناقشة وحوار وتخاطب فيها العقل والقلب معًا، فإننا نكون قد وفقنا حقًا، وهذا بالطبع يتطلب نضوجًا ودراسة مستمرة من جانب القادة.
  3. إنَّ أي إصلاح للكنيسة أو تنمية لها يبدأ في الواقع من معمل تفريخ القادة، وأعني كلية اللاهوت، وأرجو أن الكلية في الخمسين سنة القادمة تحقق ما جاء في كتاب دستور الكنيسة بشأنها، وهو «إعداد تعليم وتدريب من يقومون بخدم الإنجيل .. قادرين على مواجهة متطلبات الخدمة في المجتمع المعاصر .. كما تقدم دراسات للقسوس للاستزادة من البحث اللاهوتي ولمتابعة تطور الفكر والخدمة المسيحية في المجتمع، وأظن أن مثل هذه العبارة الأخيرة يسهل تحقيقها عن طريق المراسلة أو فترات خاصة للتدريب.

ولا شك أن التقدم العلمي خلال الخمسين سنة القادمة يفرض على الكنيسة إعداد قادة على مستوى رفيع، وهذا يتطلب من كلية اللاهوت شيئين:

  1. تكوين رجال الصف الثاني من الأستاذة عن طريق البعثات وتشجيع النابهين من شبابنا.
  2. أن يكون الطلبة في الكلية من الحاصلين على مؤهلات عليا.
  3. ونظرًا لأن هذا أمر يرتبط أيضًا بنواح أخرى في الكنيسة مثل النظام المالي لذلك يجب دراسته جديًا.
  4. جاء في دستور الكنيسة: «نؤمن بأن التدبير الإلهي لأجل الجنس البشري يتضمن نظامًا اجتماعيًا يتفق مع مبادئ يسوع المسيح وروحه، وأن نصرة ملكوت الله في صورته الحاضرة يراد بها ليس فقط تأسيسه في قلوب الناس أفرادًا بل أيضًا إيجاد عالم يسود فيه البر والإخاء، وأن من أهم واجبات الكنيسة أن تؤدي شهادة صريحة بأن مبادئ المحبة والعدل المسيحية يجب أن تظهر ظهورًا بارزًا في كل العلاقات شخصية كانت أو صناعية أو تجارية أو مدنية أو قومية أو دوليّة».

ومن هنا فإني أرجو لكنيستي في الخمسين سنة القادمة أن تهتم بناحيتين جوهريتين وتتوسع فيهما:

1) تدريب العلماني ليشهد للمسيح أينما وجد.

2) الخدمة الاجتماعية لإيجاد « عالم يسود فيه البر والإخاء»؛ لكن لا يعني أبدًا أن يفوتنا أن نجعل الكرازة بالمسيح تسير جنبًا إلى جنب مع الخدمة الاجتماعية.
وهناك نوع من الشهادة العملية ينتظر أن يبقى مثل خدمة المستشفى (طنطا مثلًا)، ولكن هناك نوع آخر لا ينتظر له البقاء طويلًا على الوضع الحالي (كالمدارس مثلًا)، فإن آجلًا أو عاجلًا فإن الأوضاع فيها ستتغير (في غير مصلحة الكنيسة)، ولذلك علينا أن نبحث عن بديل من الأن كبيوت المغتربين ودور الحضانة ومحو الأمية وتدريب الفتيات اللواتي لم يتعلمن على حرف مناسبة.

5. بالرغم من اعتراض السنودس الماضي على رسامة شيخات في الكنيسة فإني أتوقع خلال الخمسين سنة القادمة أن يكون في خدمة الكنيسة عددًا من القسيسات إلى جانب الشيخات.

6. يجب أن ندرس إمكانيات جديدة لتوطيد العلاقة والرغبة الجادة في الحوار مع غير المسيحيين من مواطنينا. إن اللذين يعرفون الله حقًا لا يعرفون التعصب أبدًا؛ ونحن نستطيع أن نسهم في تمهيد الطريق للأجيال القادمة لتجد أرضًا أسهل للحوار والبناء.

7. تنمية روح الوكالة المسيحية، لقد كانت الكنيسة تعتمد في وقت مضى على معونة المرسلين لها مما أنشأ في الكنيسة على مر السنين روح التواكل، ونحن نرجو أن كنيستنا في الخمسين سنة القادمة تتسع وتكبر وتنمو، ولكننا نرجو في نفس الوقت أن يدرب كل عضو ليكون وكيلًا، ولتكون وكيلًا، ولتكون الكنيسة أكثر وعيًا لمسؤولياتها وأكثر نموًا في خدمتها وأكثر إدراكًا لرسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى