بين التجسد وصلب المسيح
الهدى 1244-1245 يونيو ويوليو 2022
إن المسيح المصلوب إجابة على السؤال الخطير الهام لماذا تجسد الله؟ أو هل لم يكن عند الله طريق آخر لغفران الخطايا ألا الصليب؟ ألم يكن في مقدور الله كلى القدرة والرحمة أن يغفر للإنسان خطيته دون أن يتكلف عناء التجسد والموت مصلوباً؟
إن الله الكامل حينما خلق الإنسان، خلقه على احسن صوره وافضل مثال، على صوره الله خلقه (تكوين26:1) وقصد الله أن يحيا الإنسان في علاقة دائمة معه، وقد صنع الله مع الإنسان عهداً يقوم على الطاعة من جانب الإنسان في مقابل الحياة التي يمنحها الله له، فإن أطاع الإنسان الله، عاش، وإن عصى مات، وكانت الوصية واضحة وصريحة فقد «وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين16:2-17). ومن المعروف أن آدم سقط عاصياً ربه، ناقضاً الوصية فأستحق أن ينفذ الله فيه حكم الموت، وقد كان آدم رأس الجنس البشرى وفيه سقط الجميع وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ اخطأ الجميع وأصبحوا مستحقين جميعاً الموت لأن «أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (روميه23:6).
كان يمكن لله أن يتمم جزاء عهده وعدم تغاضيه عن الآثم أو تقبله للخطية، فور ارتكابها فيوقع الموت على آدم وامرأته فيُعرف عدل الله: «مَلِكَ السَّمَاءِ الَّذِي كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ» (دانيال 4: 37) ويُعرف أنه إله بار لا يطيق الآثم، كان من حق الله أن ينفذ وعيده ويحقق عدله. لكن السؤال الذي كان سيظل بلا أجابه أين رحمه الله ومحبته؟ الله المكتوب عنه في الكتاب المقدس «كُلُّ سُبُلِ الرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ» (مزمور 10:25).
في حقيقة الأمر إن آدم لم يمت حال سقوطه، فهل عدَّل الله عن عهده؟ وهل تغاضى عن الخطية الموجهة في حقه؟ أم أنه غفر الخطية دون عقاب؟ هنا يبرز سؤال هام إن كان الله يستطيع «وبمقدوره» غفران الخطية دون عقاب فهو يكون بذلك إلهاً رحيماً محباً، لكنَّه في ذات الوقت لن يكون إلهاً عادلًا، وحاشا لله، «هُوَ الصَّخْرُ الكَامِلُ صَنِيعُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلهُ أَمَانَةٍ لا جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ» (تثنيه4:32). «الرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ الْعَدْلَ» (مزمور7:11). فكيف لله أن يكون متساهلاً مع الخطية فيغفرها دون عقاب وفى ذات الوقت يكون عادلًا؟ إذا كيف يحقق الله الرحمة والحق، العدل والمحبة؟ كيف يبرر الإنسان الذي يحبه وفى الوقت نفسه يوفى العدل الإلهي حقه؟ هل يختار الله إنساناً ويقدمه ذبيحة فداء البشرية؟ يقول الكتاب المقدس: «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ .. 23إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (روميه12:3-23). هل يختار الله ملاكاً ينوب عن الإنسانية الساقطة؟ كلا فالملائكة منهم من سقط أيضاً، وهم لا يصلحون للنيابة عن الإنسان لأن المذنب هو الإنسان وعليه وحده تحمل عقاب ذنبه وخطيته «فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟» (أيوب2:9).
كان العدل الإلهي يتطلب موت الإنسان الخاطئ، وكانت المحبة الإلهية تريد الصفح وتطلب الغفران للإنسان، وكان تجسد المسيح ابن الله الوحيد. يقول البشير يوحنا «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا14:1). تشارك المسيح مع الإنسان في اللحم والدم، اجتاز في كل ما يجتازه الإنسان، لكنَّه للخطية لم يعرف باباً، فلم يعرف أو يعمل خطيه واحدة فكان هو الوحيد الذي فيه تمت كل الصفات اللازمة للوساطة بين الله والناس، ولأنَّ المسيح هو الله الظاهر في الجسد، والإنسان الكامل الذي لم يعرف خطيه أمكنه أن يصالح الإنسان بالله ويضع يده على كليهما معلناً المصالحة التي بحث عنها الإنسان وعبر عنها أيوب قديماً «أَنَا مُسْتَذْنَبٌ فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثاً؟ .. لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أيوب29:9،32-33).
حمل المسيح خطايا الإنسان ومات موت الإنسان واحتمل دينونة الله الكاملة العادلة المستحقة على الإنسان، ووفى العدل الإلهي حقه كاملاً وأظهر محبه الله للإنسان، فبات العدل والمحبة، الحق والرحمة يطلبان معاً تبرير الإنسان المذنب الذي يؤمن بالمسيح وبكفارته. أكَّد الله محبته للإنسان الخاطئ وفى نفس الوقت حقق مطاليب العدل الإلهي حينما مات المسيح مصلوباً لأجلنا، يقول رسول المسيحية بولس» (روميه8:5)، «جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (2كورنثوس21:5).