حلول الروح القدس والتساؤل «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»
الهدى 1210 يونيو 2019
تحتفل الكنيسة هذا الشهر بعيد «حلول الروح القدس»، أو «العنصرة»، والذي يُصادف اليوم الخمسين بعد عيد الفصح، وقد كان اليهود يحتفلون بهذا اليوم في العهد القديم وكان يُسمى «عيد الحصاد»، أو «عيد الأسابيع»، أو «يوم الباكورة» (راجع خروج 23: 16، 34: 22، عدد 28: 26)، وكان هذا العيد رمزًا للخير والعطاء وحصاد القمح. ولكنَّ أصبح هذا الاحتفال في العهد الجديد رمزًا للخلاص من الشر والخطيّة، وحصاد النفوس البشرية التي قبلت الرّب يسوع مخلصًا شخصيًا لحياتها.
حصلت الكنيسة بحلول الروح القدس على قوّة إلهيّة علويّة تحقيقًا لوعد المسيح (يوحنا 16، أعمال 1: 8)، وأصبح في مقدورها أن تنمو وتحصد، وأصبح لديها القوّة للشهادة، والقدرة على التجديد والتغيير والحياة في محضر الله.
إنَّ الأيام التي تلت القيامة كانت محيرة ومخيفة لتلاميذ المسيح، نعم لقد رأى بعضهم المسيح المُقام، وقد ظهر لغالبيتهم في ليلة أحد القيامة، وظهر لتلميذي كانا على الطريق المؤدي إلى عِمواس، وقد ظهر لتوما وكشف له عن جروحه، وقد شاركهم الطعام بعدما اصطادوا السمك الوفير، وقبلما يفارقهم ويصعد لأبيه السماوي أمرهم ألا يغادروا أورشليم قبلما ينالوا قوة من الروح القدس، ومرت الأيام حيث كانوا يجتمعون في العليّة، للصلاة، وانتظارًا لتحقيق وعد المسيح، ربما كانوا يتساءلون ماذا يعني انتظارنا الآن، وما هذا الذي ننتظره؟ «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ. وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا» (أعمال 2: 1-4)؛ وأمام هذه المعجزة، تجمع الناس خارج البيت لمشاهدة ما يحدث، كيف لأولئك التلاميذ الذين لا يعرفون الكثير عن العالم الخارجي، كيف يتكلمون لغاتٍ متعددة، «وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هَؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟»، ولقد تحيّروا وارتابوا وتساءلوا «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»، وربما امتد هذا التساؤل إلى بعض أتباع المسيح، أولئك الذين رأوا الكثير من معجزاته، وسمعوا تعاليمه، رددوا هم أيضًا: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟».
واليوم، عندما نقرأ روايّة سفر أعمال الرسل التي تُقدم ما حدث ليلة حلول الروح القدس، ربما نجد أنفسنا نتساءل: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»؛ إنَّ أولئك الذين يجدون أنفسهم في خِضم الأزمات السياسيّة أو الاقتصاديّة، أو الذين يُعانون جراء العنف أو الإرهاب، والذين شُردوا من أوطانهم، أو الذين يعانون من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الفيضانات والتسونامي، والجفاف والزلازل، وأيضًا الذين يتعرضون للاضطهاد والترويع والقتل بسبب قناعتهم وإيمانهم، إنهم قطعًا يتساءلون: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»؛ وربما يتساءل –أيضًا- مرضى الأمراض المستعصيّة والخطيرة أو الذين يكافحون من أجل توفير الغذاء والماء النظيف والسكن والتعليم لأسرهم يسألون «ماذا يعني هذا؟» أولئك الذين يعانون من آلام الخسارة المفاجئة لأحد أفراد أسرته، أو الذين يعانون خسارة أوطانهم ويعانون اللجوء في بلدان غريبة «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟».
لكن عندما نفكر فيما عمله الروح القدس يوم الخمسين يُدهشنا أنَّه أكرمَ وأعلىَ من قيمة التنوع في شعب الله، يتجمعون معًا ولا يأتون من نفس الأمم، فمنهم آسيان، وأفارقة؛ عربٌ وأوربيون، كانوا يختلفون في الجنس، فمنهم الرجال والنساء، وقطعًا كانوا لا يتكلمون نفس اللغة، لا يتفقون على كيفية تفسير ما عاشوه أو شاهدوه، إنهم نموذج للبشرية الضائعة المُبلبلة ألسنتها، فلا يعرفون ما يتكلمون عنه، لكن في يوم الخمسين حلَّ الروح القدس وحطَّم تلك الحواجز، وأعطى للجميع أنْ يسمعوا بعضهم كل واحدٍ بلغته (أعمال 2: 6)، لقد حافظ الروح القدس على التنوع لكنه عندما حلَّ وملأ التلاميذ، صيَّرهم والحضور أكثر فهمًا واتفاقًا حول قوة الله وقدرته العظيمة وأفعاله التي حولَّتهم ليحولوا ويغيروا عالمهم.
كما أنَّ حلول الرّوح القدس يعني إعطاء الكنيسة القدرة على الاتِّصال والحوار بين النّاس في العالم، فانطلق التلاميذ مبشرين بالمسيح المقام في لغة وأسلوب فهمه العالم آنذاك، حتى قيل أنَّ فتنوا المسكونة (أعمال 17: 6)، وأن رسالة المسيح وصلت إلى بيت قيصر (فيلبي 4: 22).
ما أحوجنا اليوم للروح القدس الذي يحفظ تنوعنا واختلافنا في روح الوحدة، الذي يمنحنا القدرة على الحوار والتواصل مع مجتمعاتنا، للشركة الحقيقيّة والصلاة معًا بنفس واحدة، ما أحوجنا لملء الروح القدس.