هل كان مارتن لوثر يخطط للانفصال عن الكنيسة؟
الهدى 1213- 1214 سبتمبر وأكتوبر 2019
سؤال طُرِحَ في زمن الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر ولا يزال يُطْرَح حتى اليوم. هل أراد مارتن لوثر عندما علّق بنوده الإصلاحية الـ 95 على باب كنيسة جامعة ويتنبرغ، أن يعلن عن تأسيس كنيسة جديدة؟ وهل أراد أن يترك كنيسة حياته التي كان فيها راهبًا ورُسِمَ فيها كاهنًا؟
ساد تقليد اجتماعي زمن الإصلاح أنه إذا ما أراد إنسان ما، أن يعرض أفكاره أو يعلّقها كما فعل لوثر، فقد كانت تُفْهَم، على أنها دعوة للحوار والمناقشة اللاهوتية. وبالتالي، أراد لوثر من السلطات الكنسية، الدخول في حوار معه حول أرائه ووجهات نظره في بعض التعاليم والممارسات التي رآها لوثر خاطئة، كيما يبدأ إصلاحًا من داخل الكنيسة الكاثوليكية.
لم يكتفِ لوثر بتعليق بنوده الإصلاحية، وإنما كتبها على رسالة وأرسلها الى رئيس أبرشيته ورئيس الأساقفة والكرسي البابوي في روما، داعيًا الجميع الى المناقشة والحوار من أجل خير الكنيسة. وبالتالي، هل من يقوم بكل هذه المحاولات كان يخطط للانفصال عن كنيسة روما وتأسيس كنيسة جديدة؟ لكن للأسف، لم يعط أية فرصة للدفاع عن أرائه وأفكاره، بل كل مواقف وجهود السلطات الكنسية وعلى جميع المستويات، انصبت على محاولات إسكاته واخضاعه، والطلب منه التراجع والخضوع للسلطة الكنسية وإحراق كتبه والتخلّي عن آرائه ورؤيته للإصلاح في الكنيسة. إنَّ ردات فعل السلطات الكنيسة آنذاك، عندما أرسل بنوده الإصلاحية، كانت:
1) إرسال رسالة الى رئيس الدير الذي عاش فيه لوثر لمدة ست سنوات، بالطلب منه إلزام لوثر: إما الخضوع والتراجع، أو الطرد من الدير. لكن رئيس الدير لم يرد أن يقوم بذلك، فاستقال من رئاسة الدير.
2) الطلب إلى لوثر الحضور إلى روما في مدة ستين يومًا للإجابة عن اتهامات الهرطقة الموجهة إليه.
3) طلب البابا من الامبراطور الروماني المقدس، شارل الخامس، استدعاء لوثر لمحاكمته في مجمع وارمس وعندما حضر لوثر الى مدينة ورمس عام 1521. طلب منه الامبراطور، بحضور الأمراء والسلطات الكنسية، حرق كتبه والتراجع عن أقواله وايقاف إصلاحه. أجاب لوثر بحضور كل السلاطين الروحية والزمنية وبجرأة بالغة، قائلًا: «إن لم أقتنع في الكتاب المقدس والعقل السليم، لماذا على أن أتراجع، فإني لن أقبل أن أتراجع. ضميري أسير لكلمة الله. هنا أقف. لن أتراجع. فليساعدني الله». وبعد هذا التصريح التاريخي، صدر القرار البابوي بإخراج لوثر خارج الكنيسة وإعلانه هرطوقيًا، وصدر القرار الامبراطوري باعتبار لوثر خارجًا عن القانون.
يعتبر المؤرخون، أن تأسيس كنيسة جديدة أو كنائس إنجيلية جديدة. تمّت بعد إخراج لوثر من الكنيسة والقانون. فكل محاولات لوثر للسعي للحوار من أجل إصلاح الكنيسة من الداخل، قد فشلت. وضع لوثر أمام خيار واحد وحيد، لا بدّ منه، فرأى نفسه مرغمًا على الشروع بتأسيس كنيسة جديدة، يحقّق فيها رؤيته للإصلاح، حتى تشبه الكنيسة الأولى كنيسة الرسل الذي يتحدث عنها كتاب أعمال الرسل، تستند إلى تعاليم الكتاب المقدس وحده، وإنما هذه الرؤية الروحية ستتحقق الآن خارج الكنيسة. يرى بعض المؤرخين أن خروج كلفن إلى خارج الكنيسة، كانت عملية مؤلمة وتدريجية، لكن السلطات الكنسية لم تكن مستعدة للإصغاء لما لديه ليقوله. ولم تظهر أي استعداد لتغيير موقفها.
قام الباحث الكاثوليكي «مكسورولي» عام 1970م، بدراسة لاهوتية لكتابات ومواقف، مصلحو الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر. فاستنتج بأنَّ الإصلاح الإنجيلي، تضمّن الكثير من العناصر الايجابية لتجديد الكنيسة. البعض منها تم تقديره وتبنيه من قبل الكنيسة الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني في القرن العشرين. إلا أن الأمر المأساوي، هو أن المصلحين لم يستطيعوا تنفيذ برنامجهم الإصلاحي في الكنيسة، بل فصلوا عن الشركة الكاملة عنها، وذلك بسبب إهمال بعض البابوات والأساقفة إطعام قطيعهم من غذاء كلمة الله. لهذا، يحلو لبعض المؤرخين الكاثوليك، أن يطلقوا على لوثر لقب المصلح الكاثوليكي.
لم يكن لوثر المصلح الوحيد الذي عملت الكنيسة على إسكاته وعدم الاصغاء لما لديه. بل مرّ على الكنيسة، لا سيما، بين القرن الثاني عشر والخامس عشر، على الأقل، أربعة مصلحين على الأقل، رفعوا مبادئ إصلاحية مشابهة لمبادئ الإصلاح الإنجيلي، وحاولوا إصلاح الكنيسة من الداخل، هم: المصلح بيتر والدس (1140-1217). المصلح جان ويكليف (1327-1384). المصلح جان هاس (1372-1415). المصلح جيرولامو سافونرولا (1452-1498). لكن لم يُصغ لهم، بل تمّ إسكاتهم.
من المفكرين واللاهوتيين الكاثوليك الذين برزوا في زمن الإصلاح، وكان معاصرًا لمارتن لوثر، المفكر الكبير ايرسموس، الذي كان راهبًا وعالمًا للكتاب المقدس. عندما ذهب ايرسموس الى أوروبا، تعرّف على العديد من العلماء وأتباع التيار الأنسنوي الذي يشدّد على البحث العلمي ودراسة اللغات القديمة والفلسفات اليونانية. وقد نهل الكثير من المعرفة والثقافة اللاهوتية والفلسفية، وطوّر نظريته حول المسيح. صار ينتقد الممارسات الخاطئة في الكنيسة، موجها انتقاده الى قادة الكنيسة الذين كانوا يتسابقون على المناصب والنفوذ والسلطة والقوة، قائلا، بموقفهم هذا، هم ينكرون المسيح. اعتقد إن قادة الكنيسة ضحّوا بواجباتهم الروحية، من أجل طمعهم وشهواتهم وهكذا أساؤوا الى المسيحية بتصرفاتهم. هاجم ايرسموس الكهنة الفاسدين، الذين جعلوا من العبادة الدينية مجرّد عادة روتينية. ومن العقائد المسيحية، عقائد معقّدة. حلم ايرسموس بعبادة بسيطة في الكنيسة. قال بأن على الأسرار الكنسية، والكتاب المقدس، أن يكونا الباب الذي يقود الى المسيح، لكن الكهنة قلّلوا من أهميتهما، بالتركيز الزائد على الطقوس. في أحد كتبه، اتهم البابا يوليوس بالفساد. قبل أن يصبح المصلح مارتن لوثر معروفًا، وعظ ايرسموس عن التعلّق الحقيقي بالمسيح، من خلال التعلّق بالكتاب المقدس. قام بترجمة العهد الجديد. وقد استند مارتن لوثر على نسخته، في ترجمة العهد الجديد من اللغة اليونانية الى لغة شعبه الألمانية. دعا العلمانيين ليقرأوا الكتاب المقدس. قال على كل مسيحي أن يدرس حياة المسيح في الأناجيل ليعرف معنى المسيحية. أُعْجِبَ مارتن لوثر بايرسموس وأفكاره الإصلاحية. وفي العام 1520م، ابتدأ الاثنان يتجادلان في موضوع وكيفية الإصلاح. قال ايرسموس للوثر: «محبّة السلام هي سمة أساسية للمسيحي». لكن لوثر أجاب: «لن تصلح الكنيسة بالسلام». وبعد الكثير من المجادلات، وجد لوثر أن ايرسموس، فضّل أن يحافظ على سلامه ومعتقداته لنفسه، بدلاً من أن يقوم بحركة تغيير إصلاحية كبيرة في الكنيسة. إن مواقف ايرسموس حول ضرورة الإصلاح والتغيير لم تتعدّى الكلمات والانتقادات، لكنّه لم يقم بأي موقف جاد للتغيير، مع أنه رغب فيه. فان من لا يريد أن يضّحي بسلامه لن يُحْدِث أي تغيير، لا في الكنيسة ولا في خارجها.
في كتابه «تاريخ الإصلاح في ألمانيا»، يذكر المؤرخ الكاثوليكي جوزف لورتز «بأنّ لوثر لا يتحمّل وحده مسؤولية تقسيم الكنيسة. بل أن الكنيسة تتحمّل جزءًا كبيرًا من هذه المسؤولية». كما أضاف: «بأن الثورة على الكنيسة لم يكن من الممكن تجنّبها أكثر من ذلك في القرن السادس عشر. فالإصلاح صار ضرورة تاريخية. والانشقاق في الكنيسة كان مخبّأ تحت الرماد. فمع أن المؤسسات كانت لا تزال قائمة، لكنّها الى حدّ بعيد، فقدت الحياة من داخلها. وبالتالي، لأن الانشقاق كان مخفيًا، فإن ضربة لوثر كان لها قوّة مدمّرة. وبحسب رأي المؤرخ، لم يكن مارتن لوثر هو سبب الإصلاح، لكنه كان الدبوس الذي فجَّر بالون الكنيسة الذي كان على وشك الانفجار.
بعد أن تألفت لجنة دراسات مشتركة من لاهوتيين كاثوليك ولوثريين عام 1965 بعد انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، فقد أعلنت عن احتفالها بمرور 450 سنة على كتابة «اعتراف إيمان أوغسبرغ» في العام 1980، وهو اعتراف الإيمان الذي كتبه اللوثريون عام 1530، ويعكس مفهوم لوثر اللاهوتي للكنيسة، ومعتقدات الكنيسة اللوثرية. ويتضمن الاعتراف: العقائد الرئيسية المشتركة بين الكنيستين، والعقائد المختلفة بينهما. وقد أعلنت اللجنة اللاهوتية المشتركة، أن «اعتراف إيمان أوغسبرغ» هو في الشكل والمضمون، يعكس الهدف من إصلاح لوثر واللوثريين، ويظهر أن نواياهم للإصلاح كانت كاثوليكية. وقد أكّدت اللجنة، أنه لم يكن في نية لوثر واللوثريين، تأسيس كنيسة جديدة، وانما الحفاظ على الكنيسة، وتجديد الإيمان المسيحي، لإعادته إلى نقاءه، لينسجم مع إيمان الكنيسة الأولى. وبالتالي، الأن يدركون الكاثوليك، أن اعتراف الإيمان هذا، هو تعبير عن الإيمان المسيحي المشترك.