آراء

دور الضحية ورثاء الذات

الهدى 1237                                                                                                                               نوفمبر 2021

يقتل الإنسان نفسه عندما يعيش أحد الدورين التاليين في الحياة العملية: البطولة المطلقة، دور الضحية. وأزعم أن أشدهما خطرًا هو دور الضحية، لأن المرء ربما يتخطى بعض التوقعات عندما يصدق نفسه، بينما في دور الضحية فهو دائمًا مهزوم من الأشخاص ومن الظروف، كثير الشكوى، يدور في حلقة مفرغة ضيقة جدًا، لأنها لا تتضمن إلا ذاته.
ورثاء الذات دائرة مفرغة يقتل فيها الإنسان نفسه، الرثاء في ظاهره يدعو للتعاطف، لكن في حقيقته هو قتل للنفس مع سبق الإصرار والترصد! يظن الإنسان أنه عندما يعيش دور الضحية فإنه يُلفت الأنظار إليه، ليتعاطف معه الآخرون، يروق له أن يسمع منهم «مَص الليمون»! فتلك الأصوات تُطرب أذنيه وتعزي قلبه، وتُخدِّر عقله! ولكن في الحقيقة هذا كل ما في استطاعتهم أن يقدموه، هذا إن قدموه من الأساس، فكلٌ مشغولٌ بعالمه، ولا يعيره أحدٌ أدنى اهتمام، مما يجعله يعيش أكثر فأكثر في هذا الدور. جاء في (إرميا 12: 5): «إِنْ جَرَيْتَ مَعَ الْمُشَاةِ فَأَتْعَبُوكَ فَكَيْفَ تُبَارِي الْخَيْلَ؟ وَإِنْ كُنْتَ مُنْبَطِحاً فِي أَرْضِ السَّلاَمِ فَكَيْفَ تَعْمَلُ فِي كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ؟» ما أروع وما أبلغ هذه الكلمات! فإن كان التعب هنا في مجرد «المشي» فكم وكم يكون في سباق الخيل، والانبطاح هنا في «أرض السلام» فماذا يكون المصير في أرض العَداء؟!
ورثاء الذات قد يكون على المستوى الفردي أو الجماعي، فعلى المستوى الفردي يكون حال لسان الفرد كمريض بِركِة بيت حسدا: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ» (يوحنا 5: 7)، هذا الرجل كان مغمورًا في دور الضحية، ويختلق الأعذار ليبقى على حالته في راحته الوهمية طوال هذه السنوات، كان الممكن أن يطلب من أي إنسان مساعدته فيما كان يريده! كذلك على المستوى الجماعي فيكون لسان حال الجماعة: «فَكُنَّا فِي أَعْيُنِنَا كَالجَرَادِ وَهَكَذَا كُنَّا فِي أَعْيُنِهِمْ» (عدد 13: 33)، لم تَعِشْ اليابان في دور الضحية بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أن الواقع كان مريرًا، لا بسبب الحرب فحسب، بل بسبب الزلازل والبراكين وغيرها، هذا فضلاً عن أنها مجموعة جزر! لم تنبطح لكنها صارت تحديًا للتحدي ذاته، لذا حققت نجاحًا عظيمًا على كافة المستويات.
أولاً: دور الضحية في الحياة العملية
مثل هذا الشخص يختلق الأعذار، يسخط على الواقع وإن كان حديقة وارفة الظلال ووفيرة الثمار يتوسطها شجيرة عوسج! الوقت بالنسبة له لا يسعفه حتى أن يتناول طعامه، مع أنه مرتعًا لرقاده! المعطيات بالنسبة له دائمًا ظالمة، وبالتالي فالنتيجة المرجوة مستحيلة، وهو المطلوب إثباته! ينشغل بإعطاء المبررات ليبقى في راحته الوهمية، يستعطي ويتسول مع أن لديه الكثير من المهارات والإمكانيات وهو يعلمها جيدًا، وبكل آسف فالمهنة الوحيدة التي يبتكر فيها المصريون أساليب جديدة هي.. التسول!
عكس هؤلاء هناك أناسٌ صاروا تحديًا للتحدي ذاته، فأفادوا البشرية بإنجازات وُلدت من قلب الأزمة، أذكر على سبيل المثال: توماس أديسون صاحب 1200 براءة اختراع، والذي رفضته المدرسة في بدايات حياته على أنه غبي، وحينما حُرق معمله وجاءه الخبر، قال: «لقد خلصتنا النار من أخطاء كثيرة، حسنًا فلنبدأ من جديد.»! كان من المتوقع أن يرثي توماس أديسون حاله بعد هذه الكارثة، لكن حتى رده كان شعاعًا بارقًا في ليل ظلامه دامس! كذلك برايل الكفيف الذي اخترع طريقة برايل لقراءة المكفوفين، قال هذه الكلمات: «يا رب أشكرك من أجل موهبة العمى، فساعدني حتى متى جئتَ أرد لك هذه الوزنة مع أرباحها!». وغيرهم من الشخصيات الأخرى التي تركت بصمة واضحة في تاريخ البشرية.
ثانيًا: دور الضحية في الحياة الاجتماعية
أمثال هؤلاء يلومونك إذا انحنيت تحت ثقل سلسلة جبال همك، دون أن يمدوا لك يد العون، وفي ذات الوقت ينتظرون منك أن تزيل عنهم غبار حفنة الرمال المتناثرة على ملابسهم المرصَّعة بالذهب! هاتفك (تليفونك) بالنسبة لهم مرفوع دائمًا من الخدمة، بينما هاتفهم لزامًا عليك أن يرون اسمك دائمًا على شاشته، ومهما سألت فأنت مقصِّر!! على أساس أنهم كثيرو السؤال عنك!
لزامًا عليك أن تتغطى الدهر كله بمسوحٍ مشاركًا لأحزانهم، مع أن المشاركة الحقيقية ليست في لبس المسوح، وإنما في مسح الدموع! تحاول أن تبدأ بالحديث معهم، وإن تحدثت الصخرة فَهُم يتحدثون، وفي النهاية يتهمونك بجفاف الحوار، أو يتهربون منك لأنهم لا يستطيعون التفاعل معك، ثم يلومونك بالإهمال!
أقول لهؤلاء.. انشغلوا بالعطاء لا الأخذ، لا تلوموا إلا أنانيتكم، تحرروا منها، اقتربوا خطوة حينما يقترب إليكم الآخر خطوات، لا ترجعوا للخلف ثم تَشكوا من الإهمال، فالآخر لن يفرض نفسه عليكم مهما كان موقعه، تحرروا من التفكير العتيق «أَعْطُوا تُعْطَوْا» (لوقا 6: 38)، «وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هَكَذَا» (لوقا 6: 31)، كن مبادرًا ولا تكن رد فعل.
ثالثًا: دور الضحية في الخدمة الكنسيَّة
ينظر الشخص دائمًا لنفسه على أنه بسيط القدرات والمواهب مقارنةً بالآخرين، وبالتالي يفقد الأمان الداخلي، ويشعر بالتهديد، مع أنه لكل شخص نقاط قوة ونقاط ضعف، كما أن الأمانة أهم من الكفاءة، وكم من أبطال الظل الذين كان لهم تأثيرهم في ملكوت الله، سواء في الكتاب المقدس، أو من خارج الكتاب المقدس، ففي الهامش يُكتب العنصر الأساسي، وفي وجه الصفحة يُكتب الشرح، كذلك كل من كانوا على الهامش فَهُم عناصر أساسية، وإن كانوا ينظرون للشرح! فعلى سبيل المثال: كان للفتاة المسبية الدور الأكبر في شفاء نعمان ومعرفته بالإله الحي (2ملوك 5)، لم تَعِشْ هذه الفتاة دور الضحية، بالرغم من أنها كانت بالفعل ضحية! كذلك كان برنابا الجندي المجهول الذي أخذ بيدي بولس في بداية خدمته، وصنع من مرقس الأرعن شخصًا نافعًا للخدمة.
وبكل آسف ساد الوسط الكنسي غيرة وتحزب في معظمه، كل هذا بسبب النظر إلى النفس، ومحاولة إظهار الذات، رغم أن السقف منخفضًا في عين صاحبه! مما يقود بدوره لتشويه الآخرين، وكما يقول الرسول يعقوب: «لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ» (يعقوب 3: 16).
أخيرًا.. قم ولا تنبطح، وقُل مع المرنم «لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ اللهَ لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ خَلاَصَ وَجْهِي وَإِلَهِي» (مزمور 42: 11)، اعبر للآخرين ولا تنظر، ففي عبورك إليهم عبورًا إليك!

د. القس مدحت موريس

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
نائب رئيس مجلس الإعلام والنشر في سنودس النيل الإنجيلي
رئيس لجنة الإعلام والنشر في مجمع المنيا
كاتب وله عدد من المؤلفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى