مقالات

رمادي في مقابلة صريحة

الهدى 1229                                                                                                      مارس 2021

مَعَ زَقزقَةِ العَصافِير، وَنَسماتٍ رقيقةٍ مَصحوبةٍ بِطَيفِ الشَّمسِ استيقظتُ بقَلبٍ فَاتِر وجَسَدٍ بَاردٍ ونَفسٍ مُتحيِّرَة. نظرتُ لِسَاعَتِي الإلكترُونيَّة فوَجَدتُها السَّابعةَ صباحًا، حاولتُ إكمالَ نومِي لَكِن دونَ جَدوَى. فقررتُ الاستيقاظَ رَغمَ حَلَاوَةِ الدِّفءِ؛ فبُرودةُ الحَيرةِ والقَلقِ في روحي أشدُّ من دفء الجسد. استَعَدتُ نَشاطِي مَعَ أوَّلِ صفعةٍ للميَاهِ البَاردَة لِوَجهِي وانسكابِهَا علَى وِجنَتيَّ ويديَّ. بِرشفَاتٍ قليلةٍ مِن كوبِ اللَّيمُون السَّاخن بَدَأتْ حنجَرَتِي في الارتياحِ والهدوءِ، لَكِن مَا يُقلقُنِي هوَ أنَّني ما زلتُ باردًا، روحِي داخلي فاتِرَة، لا أعلمُ إن كنتُ أريدُ الحديثَ مَعَهُ أَمْ لا؟ جلستُ مليًّا أتذكَّرُ أوقاتًا طيِّبَةً لِرُوحِي، عذبةً لِنَفسِي فِي لِقَائِي بالحَبيبِ. تأملتُ سَاعاتِ الدُّموعِ واللَّهَجِ والصَّلاةِ الَّتي كنتُ أقضِيهَا في حِضِنه كلحظاتٍ، قلتُ لنفسِي: ماذَا حَدَثَ لَكِ اليوم؟ عندَمَا كُنتِ تَنحنِي سُجُودًا وحُبًّا لَهُ كنتِ مُرتَفِعَةً وغَالِبَةً، واليومَ أنتِ مُنحنيَةٌ فاترةٌ فماذَا دَهَاكِ؟ هَلُمِّي استمِعِي لبعضِ التَّرنيمَاتِ والتَّسَابيحِ الحماسيَّة حتَّى تَستَعِيدي شَوقَكِ وغَيرةَ صباكِ نحوَ الإلَه. بالفِعل، بدأتُ أسمعُ مِن هَاتفِي بعضَ التَّرنيماتِ ذاتِ النَّغَمَاتِ الهادِئَة، أُخرَى ذاتِ النَّغماتِ والإيقاعِ السَّريع؛ مِنهَا تَرَانيمَ بلحنٍ يُشجيني فتَنزِل العَبَراتِ مِن عينيَّ، مِنهَا ذاتِ اللَّحنِ المُفرِّح فيُبهِج نَفسِي ويُعزِّيهَا. لكنَّها تَعودُ بِسُرعَةٍ للبُرُودةِ الحَائِرَة والغَيرةِ الفَاتِرَةِ، رابضةً فِي عَرينِهَا المَشئُومِ.
أرغمتُ نَفسي الفَاتِرَة علَى قراءةِ كَلامِ الحَيَاةِ، عِندَهَا وَقَعَتْ عينيَّ على كلماتٍ وإعلاناتٍ يقولُها قائلٌ في سِفرِ إشعيَاء. لحظتَهَا شعرتُ كأنِّي غريقٌ وهَبطَ عليَّ طوقُ نجاةٍ مِن السَّماء لينقذَنِي مِن بَحرِ الفُتور وأمواجِهِ القاتِلَة. وكانَت الكلماتُ ملخَّصَها أنَّه يوجدُ شخصٌ، مختارٌ من الله، يُبشِّرُ المَسَاكِين ويَعصِبُ المُنكَسرِين ويُحرِّرُ المُقيَّدِين، يُعطيهُم جَمالاً عِوَضًا عَن الرَّمَاد، دُهن فَرَحٍ ….. ماذا؟! يا للعجب! استوقفتني العبارة: «لأُعطيَهُم جَمالاً عِوضًا عن الرَّمادِ.»، كَيفَ لَم أنتَبِه لهَذَا الوَعدِ؟ شعرتُ أنّ نَفسِي تحاولُ الهُروبَ والتَّماديَ في القِراءةِ الاعتِيَاديَّة فجذبتُها بقوَّةٍ لَيسَتْ مِنِّي صارخًا: «توقَّفي! كيف تَعبُرينَ ينبوعَ المياهِ دونَ أن تشرَبِي وتَرتَوِي؟ كيفَ تجتازِينَ طريقَ الحياةِ وأنتِي مَيِّتَة مِن الفُتور والمَلَل؟ اخضعِي لَهُ، وارتَفِعِي، ارفَعِي لله ألمَكِ، اكشفِي انحنائكِ أمامَه فيقوِّمِك. ألَيسَ هُوَ الَّذِي يَعضُد السَّاقِطِين ويقوِّمُ المُنحَنِين؟ ألَيسَ هوَ الَّذي رأَى ودَعَا المُنحَنِيَةَ الرُّوحِ والجَسَدِ ووَضَعَ يَدَيهِ عَلَيهَا فاستَقَامَت توًّا ومَجَّدَت الله؟ أتيتُ بِنَفسِي إلَى كَلِمَتِهِ فَالتَقَانِي بِرُوحِه السَّاكِنِ فيَّ، الحزينِ بسَببِ فُتُورِي، سَائِلاً إيايَّ: أينَ أنتَ؟ قلتُ: أنَا تائهٌ. صَمَتُّ أمَامَه شاعرًا بخزيٍ وضيقٍ منِّي فأتَانِي صوتُهُ العذبُ قائلاً: قد صرتَ في عينيَّ عزيزًا، ذي كرامةٍ، محبوبًا، جميلاً. قلتُ بصوت مختنق وممتزج بدموعي: أنا قبيحٌ، ضعيفٌ، فاترٌ معكَ لأنِّي فائرٌ كالماء؛ أفرحُ بكلامِكَ لكِنِّي سَريعًا مَا أعودُ إلَي مَطَامعَ نفسِي وأهوائِها الشرِّيرَة. امتَدَّت كلماته في داخل نفسِي وانسابت كَسيولٍ جارفةٍ لكلِّ أحزاني، تحملُ ترياقِ السَّلام والشِّفاء لِرُوحِي. أخذَتْنِي هيبةُ محبَّتِهِ وسلطانُ كلمتِهِ إلى حِضنِه المُريح، بعدها اصطحبني إلى مكانٍ صخري وهو يعبرُ بي ممسكًا بيدي قال لي: «انظُر هناكَ إلى القِمَّة.» فنظرتُ وهالَني مشهدٌ رهيبٌ، إذ رأيتُ شخصًا مشوَّهًا في منظره، مخضَّب الدماء في كلِّ جسده، عاريًا، يصرخ متألمًا مِن مساميرَ تخترق يَدَيهِ وقَدَمَيهِ، يدقُّها شخصٌ مملوءٌ قساوةً، مثبتًا إيَّاه علَى صليبٍ خشبيٍّ كبيرٍ. أسرعتُ نحوَ الرَّجلِ القاسِي صارخًا في وجهِهِ: «لماذا كلُّ هذَا العذابِ؟ توقَّف!» فالتَفَتَ إليَّ القاسي حاملاً مسمارًا كبيرًا ليُكمِلَ جريمَتَهُ، تسمَّرَت قدميَّ وانعَقَد لسانِي وتوقَّف الزَّمنُ بي حينَ رأيتُ أنَّ القاسي يُشبهَننِي تمامًا، بل أكادُ أقولُ انَّه يُطابقُنِي! ياللهولُ! …. إنَّه أنا!!
عادَ بي الزَّمن سنينًا كأنَّها لحظاتٍ لأتذكَّرَ يومَ آمنتُ وقَبِلتُ أن أكونَ ابنَه. يومَ قطعتُ عهودًا أن أحيا مَعَهُ وفِيهِ ولأجلِهِ. استمعتُ إلى صَدَى تَرنِيمَاتي مَع إخوَتِي وتَعبُّدي مَعهُم، صوتِ ذاتِي وكبريائِي، غَضبِي واشتهَائِي، قَسَاوَتي وأنانيَّتي. حينَهَا وضعتُ وَجهِي بَين يديَّ، باكيًا بدمُوعِ الخَجَلِ والرَّهبَةِ، مُرتعدًا مِن ازدواجيَّةٍ أرفضُهَا رَغمَ التِصَاقِي بِهَا. صرختُ: « أنا رمادي، نَفسِي في الرَّماد تبيتُ.»، رغم أنني أحبُ اللون الرَّمادي من بين ألوان أخرى في الملبس أو الرسم أو الفن التعبيري إلَّا أنَّني للأسف أحيَا في فُتُوري بين الرَّماد. انفَتَحَت عَينُ روحِي وذِهنِي لأُدركَ. نَعَم أدركتُ أنني فاترٌ، وبِالرَّغمِ مِن ارتِعَادِي حِينَ أتذكَّر كلماتِ ربِّي أنَّه يَكرَهُ الإثمَ والاعتِكافَ، أنَّه لَا يَقبلُ العُروجَ بَينَ فِرقَتَين إلَّا أنَّ وَعَدَه لأولادِهِ – بأنَّهُ إنْ اعتَرَفنَا بخَطَايَانَا الَّتِي نَفعَلُها فَلَنَا شَفيعٌ هُو يسوعُ المسيحُ البارُّ – التَقَطَنِي مِن مَخَاوفي. علمتُ أنَّ فُتُورِي وقَسَاوَتي وإصرَاري أن أعيشَ لنَفسِي يُحزِن روحَه ويُحزِنُني، يُطفيء عَمَلَ رُوحَهُ دَاخِلِي ويُطفِئُنِي. شعرتُ بِرَجفةٍ استَشرَت في جسَدِي وارتَعدَتْ روحِي حين رأيتُ أن المتألِّمَ الصارخَ علَى الصَّليبِ هو ربِّي وخالقي الَّذي أصلبُه أنا، ماذا أفعلُ؟ وحِينِهَا التَقَت عينايَ بعينيِّ الطَّاهر، الَّتي اخترقتني بنيران حُبِّه لتُذيب ثلوج جمودي، وتوحِّد خَلجَاتِ قَلبي المُنقَسِمَة لتصيرَ لهُ وتسيرُ في طريق هَيبتِهِ الممزوجةِ بحُبِّه النَّاري. وبعد فترة لا أعرفُ مَدَاهَا – إن كانت لحظاتٍ أم دهورًا- اقتادني الحبيب إلى مراعٍ خضراء وأجلَسَني بجواره ليُطعِمَنِي وأنا مأخوذٌ بِرِقَّةِ ملامحِ وَجهِهِ و عذوبَةِ كلماتِهِ المُشبِعَة والمُروِيَة لنفسي. ابتدأ يُريني صورةً غايةً في الرَّوعةِ والجَمالِ وإذ أمعنتُ النَّظرَ فيهَا رأيتُ أنّها صورة الابن، قال لي: «أريدُك مشابهًا لابني الحبيب، اسمَح لحُبِّي أن يشكِّلَكَ واخضَع لمَشيئَتِي وافعلْهَا بفرحٍ، عِش إنسانًا كاملاً في معرفتي، ناضجًا في سيرك بطُرقي، سالكًا باتضاعٍ بحسب حقِّ بشارتي المُفرحة في ابني الحبيب.» قلتُ: «أعنِّي يا إلهي بروحك القدوس لأفكِّرَ وأعيشَ دائمًا بحَسَبِ قَولِكَ.»
أطرقتُ برأسي إلى الأرض مفكِّرًا فأسرَعَ بصوتِهِ الحَنون قائلاً: «أعرفُ قلبَك وطرقَك، البابُ ضَيقٌ لكنَّه هينٌ، خفيفٌ حِملي عليك لأنِّي مَعَكَ، وأحملُكَ بروحِي لتَحمِلَ نيري عليك وتسيرَ ورائي.». قلتُ: «العالم وُضع في الشرير وأضحَى أكثر ظلامًا وشرًّا، متَّى تأتي سريعًا لِتُنقِذَنَا؟» قال: «جعلتُك نورًا بنورِ ابنِي الحَبِيب ونورِ كَلِمَتِي إن عِشتَ لأجلِي أمينًا، روحِي السَّاكن يُعينُكَ ويُرشِدُكَ ويُقيمُكَ من تَعثُّرِكَ إن أطَعتَهُ وامتلأتَ بِهِ في طريقِ نُموِّكَ في مَعرِفَتِي. أمَّا مجيئي الأخير فهو حقٌّ مؤكَّدٌ للخلاصِ وللدينونةِ، للمُكافأةِ والعقابِ، لذا فكنيستي المُقتناة بدم ابني الحبيب تبشِّر بمَحَبَّتِي وفِدَائِي وتُعلِنُ مَلَكُوتِي فِي القُلُوبِ وتُخبرُ بِمَجِيئِي عَلَى سَحَابَةِ مَجدي لافتدائها وعٍتقٍ الخليقة من عبوديةِ فَسَادِهَا إلَى حُريَّة مَجدِ أولادِ الله.» قلتُ مُتَحَسِّرًا: «ربِّي، كثيرًا ما تُعانِي كنيسَتُكَ الحَقيقيَّة مِن حُروبٍ عنيفةٍ، أشرَسُهَا حربُ الانقسام داخلها. أنتَ ربٌّ واحدٌ، تريدُ كما قلتَ إن تَأتي بالبَعِيدِين والقَرِيبِين للمُصَالَحةِ مَعكَ ومَعَ بَعضِهِم البَعض ليَصيرُوا لكَ شعبًا واحدًا. فلماذا الانقسام؟» قال لي بصوتِهِ الحَنون لكن بنبرةٍ حاسِمَةٍ: «لَيسَ لكَ أن تَحكمَ على إخوَتِكَ بل اسعَ بمَحَبَّتي أن تُحبَّهُم، فأنا السَّائرُ بين المَنَاير، السَّاهرُ عَلَى كلمَتِي، الرَّاعي لخاصَّتي، لأعتَنيَ وأنقِّيَ وأؤدِّبَ وأحفَظَ كنيسَتِي المُطيعةَ لِي آمنةً مؤمَّنةً من الشرِّيرِ، مؤيِّدًا لها بسُلطَاني الَّذي أعطيتُهُ إيَّاها.» وَوَضَعَ يدَهُ عليَّ بِحُبٍّ أذابَ قلبِي وقالَ: «تذكَّر دائمًا أنَّ مَن يتبعُنِي ويَخدِمُنِي فهو يجمعُ معي لِمَلَكُوتِي ولا يُفرِّق، يُطيعُني ويُرشِدَ النَّاسَ لِمَعرِفَتِي وطَاعَتِي، يسيرُ عَلَى الطَّريقِ الَّذي أُعلِّمُهُ إيَّاه، يُعلِّم الآخرين ما يقوله الرُّوح في كلمتي وحقِّي. ومَن يخدِمُ مطامعَهُ أو أمُوالَه أو مَبادِئَه المُضادَّةَ لِمَشِيئَتي، يعاندُ صَوتي المُحب لِرُجوعِهِ فسَيَهلِكُ لأنَّه لَم يَعرِفنِي أو يَقبَلنِي، لَم يُؤمِن بِي. سَيُنَادِي يومًا أن أفتحَ لَهُ مع أولَئكَ القائلينَ لي: «أليسَ باسمكَ تنبَّأنا وباسمِكَ أخرَجنَا شياطينَ وباسمِكَ صنعنَا قوَّاتٍ؟!» وحينئذٍ أصرِّح أنِّي لا أعرِفَهُم. تذكَّر يا ابنِي أنَّ طريقَ مَعرِفَتِي وتَبعيَّتِي هوَ الخضوعُ لِي وطاعَتِي بكلِّ قلبِكَ، حينئذٍ تغلِبُ الشرِّيرَ ونِظَامَه وتابِعِيهِ بمحبَّتي و فِدَائي وقوَّتي وشهادَتِكَ المُحقِّقةِ والمُطيعَة لِكَلمَتِي.»
هُنا أفَقتُ مِن غَفلَتِي، انتَبَهتُ لصَوتِ هَاتفِي المَحمُول يُذكِّرُني أنَّ وقتَ النَّومِ انتَهَى وحَانَ وَقتُ الاستيقَاظِ. هَذِهِ المَرَّة قمتُ سعيدًا بقلبٍ ملتهبٍ بنارِهِ المُقدَّسَة، مشتاقًا أن أَسمعَ وأُطيعَ وأَحيَا صَوتَ الله وأُخبرَ الجميعَ كلَّ يومٍ بِهَذَا الحقِّ. هُنا رنَّ صوتُ الرُّوحِ في دَاخِلي: «استيقظ أيها النائم (الفاتر)، قمُ من الأموات فيضيء لكَ المسيح.. ويُعلَن جمالُهُ فيكَ يُومًا فيومًا.»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى