روحانية متعقلة
الهدى 1256 – 1259 مايو – أغسطس 2024
ليست الرُّوحانيَّة مُجرَّد العلاقة الرَّأسيَّة بين الإنسان والله، بل أيضًا العلاقة الأفقيَّة بين الإنسان والإنسان، لتحريره من فقره ومرضه وجهله. ظنَّ بعضٌ أنَّ الرُّوحانيَّة هي اللاجسديَّة واللامكانيَّة واللازمانيَّة، وهم يحلمون بحالة فاضلة مِثاليَّة خارج الجسد وخارج المكان والزمان، كما في “المدينة الفاضلة” عند أفلاطون. بينما الرّوحانيَّة طاقةُ رجاءٍ إيمانيَّة تدفَع المؤمن الرُّوحاني إلى تغيير العالم من حوله، فيغيِّر الظُّلم إلى عدالة، والعداء إلى محبَّة، والأنانيَّة إلى غيريَّة. يقول الفيلسوف فرانسيس بيكون: “الرُّوحانيَّة الحقيقيَّة هي المشاركة في النِّضال من أجل تحرير المضطَهَدين”، على اعتبار أنَّ الإنسان الرُّوحاني يستمِدُّ حياته مِن روح الله ومن المسيح، عندما يخصِّص نفسه لتحرير المقهورين من خطاياهم الشَّخصيَّة ومن خطايا مجتمعاتهم ومن خطايا البيئة التي يعيشون فيها، وبذلك فإنَّهم يشارك في تحقيق ملكوت الله على الأرض لتكون سماءً.
الرُّوحانيَّة بمعناها الدَّقيق والعميق هي سُلطان الرُّوح القدس، الذي هو روح الحقّ الذي يشهد للمسيح، ويُحرِّرنا، ويُرشدنا إلى كلِّ الحقِّ (يوحنا 14: 26؛ 15: 26)، ويقودنا لاستكمال خلاصنا وتحرُّرنا من كلِّ ما يعوق إنسانيَّتنا الحقيقيَّة، فندخل في شركة حميميَّة مع الله وأيضًا مع الآخرين، لأنَّ الطَّريق إلى الله يمرُّ حتمًا بالآخرين “اذهب أوَّلًا اصطلح مع أخيك، حينئذ تعالَ واقترب من الله”. ويقول بولس: “حيث روح الرَّبّ هناك حرِّيَّة” (2كورنثوس 3: 17)، أي أنَّ الرُّوحانيَّة هي أن تتحرَّر وتُحرِّر غيرك. هذه الحرِّيَّة لا تقتصر على التَّحرُّر من أشكال العبادة الطَّقسيَّة والمظهَريَّة، التي قاومها المسيح والرُّسل، ولا فقط التَّحرُّر مِن قوَّة إغراءات العالم، لكن محور ذلك التَّحرُّر هو الانطلاق من الذَّات والاقتراب إلى القريب والمريض والمقهور والمظلوم، وإلى البسطاء المُستَغَلَّين مِن قِبَل رجال الدِّين أو السِّياسة أو المال، وإلى المُحتقَرين بسبب جنسهم أو ديانتهم أو طائفتهم أو انتماءاتهم. تلك هي العبادة الحقيقيَّة/الرُّوحانيَّة، التي تتحرَّر وتُحرِّر.
أمَّأ الظَّنّ بأنَّ الرُّوحانيَّة ضدَّ الجسد فليس في محلِّه، لأنَّ الله لا يُعادي أجسادنا بأيِّ شكل. لذلك، يصوِّر بعضُ المؤمنين الرُّوحانيَّة تصويرًا خاطئًا، على أنَّها كلّ ما هو ضدَّ الجسد واللَّعب واللَّهو والأكل واللِّبس والضَّحك. ويرون أنَّ الإنسان الرُّوحيّ هو الذي لا يلهيه أيَّ شيء عن أنشطته الرُّوحيَّة، ولا يتجاوب مع أيَّة فائدة جسديَّة، فالرُّوحاني، في نظرهم، الذي يحصل على الفرح الحقيقيّ الرُّوحيّ، ليس بحاجة إلى أيَّة فوائد جسديَّة تُفرِّحه. تلك النَّظرة المتطرِّفة جعلَت العالَم ينظُر إلى الرُّوحانيَّة على أنَّها نوع من التَّطرُّف وتعذيب للنَّفس، يقوم به أناسٌ غرباء عن كوكبنا، وهم خارج حدود الزَّمان والمكان.
والحقيقة أنَّ تلك النَّظرة خِدعة شيطانيَّة، تُصوُّر الحياة الرُّوحيَّة بشكل كَريهٍ، خاصَّة للشَّباب المفعَم بالحيويَّة والطَّاقة الجسديَّة. وتُصوِّر الحياة المقدَّسة على أنَّها تركيز مُبالَغ فيه على كلِّ ما هو سلبيّ (لا تفعل كذا ولا تفعل كذا…)، وبالتَّالي، تترك لدينا الانطباع بأنَّ الرُّوحانيَّة ضدَّ الحريَّة واللَّذة والتَّعبير التِّلقائي. عندما نقول إنَّ هناك أمورًا غير روحيَّة لا نقصد الأمور الجسديَّة، بل كلّ ما يمكن أن يُبعدنا عن ملكوت الله لأنَّ “كلّ شيءٍ طاهرٌ للطَّاهرين..” (تيطس 1: 15). ويُحذِّر الحكيم من ذلك التَّطرُّف: “لا تكُن بارًّا كثيرًا، ولا تكُن حكيمًا بزيادة، لماذا تخرِب نفسك؟” (جامعة 7: 16).
الرُّوحانيَّة المُتعقِّلة هي الاتِّزان
“الاتِّزان” هو: الحِلْم، الحِكمة، الوقار، الرَّزانة، المَهابة، والاعتدال. وهو عكس: التَّسرُّع، الجهالة، الطَّيش، والاختلال. وتأتي الكلمة مِن “ميزان”، بمعنى التَّوافق والتَّعادل بين جانبَيْن أو أكثر. أمَّا ما نعنيه هنا بالتَّوازن فهو التَّوافق بين جوانب قد تبدو مُتعاكِسة ومُتعارِضة فيما بينها، فلا يتفوَّق جانب منها على حساب الآخر.
ويُعرِّف علماء النَّفس الشَّخصيَّة المتَّزنة بأنَّها “الحالة التي تتعادَل فيها الميول، بحيث لا يتغلَّب أحدها على الآخَر، مثل ثبات حركة راكب الدِّراجة”. وعليه، فالإنسان المتَّزن ليس هو الهادئ الصَّامت السَّلبي، أو صاحب الحلول الوسطيَّة، لكنَّه الشَّخص “المُتكامِل“. وهي الكلمة التي استخدمها بولس “ليكون إنسان الله كاملًا (مُتكاملًا/مُتوازنًا) مُتأهِّبًا لكلِّ عمل صالح” (2تيموثاوس 3: 17)، “لتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كامِلة (مُتكاملة/مُتوازنة) بلا لوم عند مجيء ربِّنا يسوع المسيح” (1تسالونيكي 5: 23). وهو ما قصده المسيح في قوله: “كونوا أنتم كاملين” (متّى 5: 48)، أي مُتكاملين مُتَّزنين مُتوازنين.
إذن، المُتَّزن هو الذي يهتمّ بتنمية كافَّة جوانب حياته الأساس على حدٍّ سواء (الرُّوحيَّة، والنَّفسيَّة، والجسديَّة). أمَّا المتطرِّف فإنَّه يهتمّ بجانب واحد منها، بينما يُهمِل الجانبَيْن الآخرَيْن، أو يهتمّ بجانبَيْن بينما يهمل الثَّالث. وأمَّا أكثرنا فيميل إلى تغليب جانبٍ على حساب الآخر، حين نسعى لنتفوَّق جسديًّا أو نفسيًّا أو روحيًّا فقط.
فالله يريدنا أن نكون شخصيَّات متَّزنة، تُوازِن بين احتياجات وتقدُّم الرُّوح والنَّفس والجسد، وما يتعلَّق بكلٍّ منها، الأمر الذي نراه بوضوح في شخصيَّة المسيح، فهو الشَّخصيَّة المتَّزنة النَّموذجيَّة الوحيدة. فيقول عنه لوقا إنَّه “كان يتقدَّم في الحكمة، والقامة، والنِّعمة، عند الله والنَّاس” (لوقا 2: 52)، أي أنَّه كان ينمو نموًّا كاملًا مُتكاملًا مُتوازنًا. فكان، من حيث إنسانيَّته، ينمو فكريًّا في الحكمة، وجسديًّا في القامَة، وروحيًّا في النِّعمة. إذن، فالرُّوحانيّ ليس صاحب العقليَّة المُتصوِّفة والنَّاسِكة والأصوليَّة، لا يتكبَّر على العالم بنشوة روحيَّة مزيَّفة، ولا يُنكره وينسحِب منه. بل يعيش في هذا العالم كنزيلٍ في فندق، وليس مالِكًا، ويمتلك الجرأة ليخرج عمَّا اعتاد عليه ويعيش الإنجيل كلَّ يوم. لم تكُن عظمة إيمان إبراهيم في أنَّه ترك عشيرته وأرضه فحسْب، بل لأنَّه لم يكُن مِن السَّهل عليه أن يقتنع أنَّ الدِّين الذي تربَّى عليه دينٌ زائف. فمِن أصعَب المُهمَّات أن تربَح إلى الإيمان الصَّحيح أولئك الذين تربَّوا على الإيمان القديم، وتُقنِعهم بالولاء والانتماء لدينٍ جديد. فما أصعَب أن تُحرِّر عبدًا يظنُّ أنَّه حُرٌّ.
في زمن الإصلاح ظهر اتِّجاهان في الكنيسة: الأوَّل يُسمَّى الإيمان الأعمى، حيث أنكروا قُدرة العقل على الوصول إلى يقينيَّة المسائل الإيمانيَّة، وبالتَّالي رفضوا كلَّ تساؤل أو تشكيك، واعتمدوا فقط على الإيمان، الذي هو بالنِّسبة لهم تصديقٌ ساذج غير يقينيّ. الاتِّجاه الثَّاني يُسمَّى الإيمان الواعي، حيث أعطَوا دورًا إيجابيًّا للعقل، وهو ما تبنَّاه المصلِحون بشكل عامّ، واستخدموا مُصطلح “تقوى” لوصف الحياة المسيحيَّة الحقيقيَّة، كبديل لمُصطلح “روحانيَّة”. وشدَّدوا على أنَّ الدِّراسة اللّاهوتيَّة فرصة جوهريَّة للتَّغلُّب على السَّذاجة الرُّوحيَّة. فلا مجال للتَّقوى الجاهِلة في مضمون الإيمان، لأنَّ التَّقوى الحقيقيَّة هي السَّعي الدَّائم لمعرفة الله. فاللاهوت والتَّقوى وجهان لعُملة واحدة. والتَّقوى الصَّحيحة هي ثمرة المعرفة الصَّحيحة لله ولنفوسنا. فالله يتعامل مع أولاده من خلال وسيلتَيْن: الرُّوح القدس من الدَّاخل، والكلمة المقدَّسة مِن الخارج. وبذلك يُنير العقل ويوجِّه القلب نحو محبَّة البرِّ وعمل الخير والصَّلاح والرَّغبة الصَّادقة لعيش الإنجيل، هذه هي الرُّوحانيَّة المتعقِّلة.
العقليَّة الأصوليَّة والعقليَّة الموضوعيَّة
العقليَّة الأصوليَّة تستمدّ تعاليمها من نصوص مقدَّسة غير قابلة للتَّساؤل أو الشَّكّ. وأصحاب تلك العقليَّة يرفضون التَّعايش مع بيئة تختلف عنهم أو معهم، لذلك، فإنَّهم إمَّا أن يسعوا لتبشير أولئك الضَّالين المختلِفين عنهم، أو تكفيرهم واتِّهامهم بالانحراف العِقدي والفساد الأخلاقي. أمَّا النّصوص المقدَّسة بالنِّسبة لهم فإنَّها تتضمَّن الحقائق كافَّة، الخالدة النَّافعة لكلّ زمان ومكان، وأنَّها تتجاوز التَّاريخ والجغرافيا والظُّروف المعاصرة لها. إنَّهم يقدِّسون الماضي ويعدّوه العصر الذَّهبي النَّموذجي الذي يمثِّل بالنِّسبة لهم المثال والملاذ، وبالتَّالي لا ينظرون للحاضر ولا المستقبل إلَّا في ضوء الماضي.
والعقليَّة الأصوليَّة تُعادي العقليَّة العلميَّة وأسلوب التَّفكير العلميّ، لأنَّها تنجذب إلى التَّفكير اللاعقلاني واللامنطقي، وتميل إلى الغيبيَّات والأعمال المعجزيَّة الخارقة. هي عقليَّة لا تقبل أن يكون للحقيقة عِدَّة أوجُه، بل وجهٌ واحد فقط مُطلَق، هو ما يمتلكه هو، لذلك يرفض غيره وينفيه ويُكفِّره. ولا يفكِّر إلَّا بشكل جدلي، مع وضِدّ، حقّ وباطل، نحن وأنتم، مؤمنون وكافرون، والرُّوح مقابل الجسد… إلخ. لا يعرف المعاني التي يمكن أن تكون في منتصف الطَّريق بين الطَّرفَين النَّقيضَين. هذه العقليَّة تتسبَّب في التَّعصُّب والتَّطرُّف وعدم قبول الآخر وإشعال الصِّراعات في كلِّ مكان. أمَّا العقل المنفَتِح الموضوعيّ فإنَّه يختلِف كثيرًا عن ذلك العقل. قبوله للرأي الآخر لا يعني أنَّه اقتنع به وتحوَّل إليه، وقبوله للمختلف عنه أو معه هو قبول على المستوى الإنساني المتَّزن الذي يمل إلى التَّعايُش. تلك هي الرُّوحانيَّة المتعقِّلة.
عبادتكم العقليَّة
“قدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة… عبادتكم العقليَّة (رومية 12: 1). العبادة الرُّوحيَّة/العقليَّة هي التي تُمارَس كلّ عناصرها بالعَقل والمشاعِر، بالرُّوح والحقّ، في الصَّلاة والتَّرنيم والتَّعليم:
في الصَّلاة
“أصلِّي بالرُّوح وأصلِّي بالذِّهْن أيضًا” (1كورنثوس 15:14). فالصَّلاة سؤال ومسؤوليَّة: سؤال الرَّب، ومسؤوليَّة التَّفكير العقلاني الذَّكي المنطقي الواثِق في محبَّته وتدبيره. هي بذلك نوعٌ مِن التَّفكير الإيجابي المسؤول، مع الله وفي مَحضره المَهيب. فيها يستخدم الرُّوح القدس الذِّهن ويوجِّه المشاعر ويحرِّك الإرادة. لقد علَّم المسيح: “لا تُكرِّروا الكلام باطلًا”، لأنَّ هذه هي العبادة الآليَّة الوثنيَّة، التي لا دخل للعقل فيها. لذلك، لَمْ يشجِّع بولس على عبادةٍ يكون فيها الذِّهن خاملًا، يسمع من دون أن يفهم، أو يتكلَّم بغير ما يفهم.
في التَّسبيح
“أرتِّل بالرُّوح وأرتِّل بالذِّهْن أيضًا” (1كورنثوس 15:14). التَّسبيح تمجيد للرَّب على جميع أعماله وصفاته، كخالِق وفادٍ ومُخَلِّص. فالحقائق الإيمانيَّة تُدرَك بالعَقل وبالرُّوح أيضًا، والتَّرنيم يجب أن يتضمَّن تعليمًا. عندما نُفكِّر فيه نمتلئ فرحًا وتسبيحًا وتمجيدًا للرَّب، في لُغة جميلة تتلاقى فيها الكلمة الغَنيَّة مع النَّغمة الشَّجيَّة، تحمل مَضمونًا إيمانيًّا إلى عقل ووجدان المُتعبِّد.
في الوعظ والتَّعليم
“لتَسْكُن فيكم كلمة المسيح بِغِنًى، وأنتُم مُعلِّمون ومُنْذِرون بعضُكُم بعضًا” (كولوسي 16:3). عندما تسكُن كلمة المسيح فينا، أيْ في أذهاننا، بغنًى ووفْرة، نسمعها بآذاننا ونفهمها بعقولنا فتؤثِّر في قلوبنا، فنتعلَّمها ونحيا بها فرحين. عندما كان تلميذا عمواس حَزانى وهُما في طريقهما بسبب ضياع الأمل والرَّجاء بموت المسيح المنتظر، ظهر لهما الرَّب في الطَّريق وأنار أذهانهما إذْ وضَّح وشَرَح لهما الكتب “فقال بعضهما لبعضٍ ألمْ يكُن قلبنا مُلتهِبًا فينا إذْ كان يكلِّمُنا في الطَّريق ويوضِّح لنا الكتب؟” (لوقا 32). عندما فهموا الكتب المقدَّسة التَهَبت قلوبهم وفاضَت مشاعِرهم الرُّوحيَّة، فتجمَّعت إرادتهم المُشَتَّتة.
هناك ارتباط قويّ إذن بين استنارة العقل بالكلمة والتهاب المشاعر القلبيَّة. هذه هي العبادة التي تغيِّر الحياة وتجدِّد الذِّهن وتُلهِب المشاعر. إنَّها تربط التَّعليم بالحياة وبالتَّرنيم وبالصَّلوات، وتربط التَّعزية بالفَهْم المُستنير لكلمة الله في مَعانيها الأصليَّة. تلك هي الرُّوحانيَّة المتعقِّلة/العقلانيَّة/العاقلة.