مقالات

شجاعة الحياة

الهدى 1233                                                                                                                               يوليو 2021

مزمور 23 هو شعار الإيمان والحياة في ظل الظروف الصعبة، منه نتعلَّم شجاعة الحياة. ولأن الخون من آفات الحياة، خاصة في زمن الوباء وقد دخلنا في عصر يُسَمَّى بعصر الخوف. خوف الإنسان من العدوى، وعند الإصابة بالوباء، الخوف من الموت. الخوف من كل شيء من المرض، من المخاطر، من الاحتياج، من التقلبات الفجائية في الحياة. الخوف عامل مدمر للحياة، فهو يشلَّ إرادة الإنسان. هناك شخص تعرض لمخاطر وصعوبات في الحياة لكنه رفع شعار رغم الظرووف الصعبة والقاسية «لاَ أَخَافُ»، وأنشد هذ هذه الكلمات:
«الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ.» (مزمور 23: 1-6).
وأنشد أيضًا هذه الكلمات في مزمور 27 هذه الكلمات: «َالرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ.» (مزمور 27: 1- 3).
من الملاحظ أنَّ قوة الإنسان تبدأ من الداخل، لا يخاف قلبي، فلا يُبنى السلام على الخارج مهما كان، ولكن يُبنى من الداخل حتى في أسوأ الظروف. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه: لماذا لا نخاف؟ لماذا لا يخاف قلبي؟ قدَّم المزمور خمسة أسباب أساسيّة لعدم الخوف، حين نتأمل فيهم نطمئن (الرعاية، المعية، التعزية، الخير، الرحمة)، وهي:
1- رعاية الله الصالحة.
2- معية الله الدائمة.
3- تعزية الله المستمرة.
4- خيرات الله الوفيرة.
5- رحمة الله الشاملة.
السبب الأول: رعاية الله الصالحة
علاقة الله بشعبه وأبنائه نجدها في الصورة الرائعة والمتميزة «الراعي» يقول المُختبِر: «الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ.» (مزمور 23: 1-3). وأيضًا في صورة «الأب» «فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.» (لوقا 11: 2). وكلاهما يقول إنَّ هذا الإله يمكن الاعتماد عليه والثقة فيه.
مهمة الراعي هي الاهتمام برعيته «أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ. الرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي. عَوْنِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا إِلهِي لاَ تُبْطِئْ.» (مزمور 40: 17). اهتمام الله الراعي بشعبه يتمثل في أمرين هما: الشبع المادي «فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي» (آ 2)، والشبع الروحي: . يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. (آ 3). في إنجيل يوحنا الأصحاح العاشر يقول المسيح عن نفسه: «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.» (يوحنا 10: 11).
عندما ندرك رعاية الله لنا ندرك حكمة القيادة والإرشاد وعدم التخبط أو الفوضى، فالله يقودنا، الله يحمينا، فهو الراعي الصالح. وهذه المعرفة تقودنا إلى الاستماع له والتبعية الحقيقة ورائه: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي.» (يوحنا 10: 27). وقد عرفت مريم المسيح حين دعاها باسمها، «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا مَرْيَمُ» فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي!» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ.» (يوحنا 20: 16).
السبب الثاني: معية الله الدائمة
من وادي الراحة والشبع والهداية إلى وادي ظل الموت هكذا ينتقل المختبر وهكذا ننتقل نحن، فالحياة لا تستمر في وادي الراحة ولكن يأتي وادي ظل الموت في هذا الوادي الصعب يقول: أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. (آ 4).
الراعي متواجد مع رعيته، يقودهم، يشبع احتياجاتهم الروحية والجسدية، قد تتعرض الخراف للمخاطر، وقد عاش داود هذه الخبرة: « فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «كَانَ عَبْدُكَ يَرْعَى لأَبِيهِ غَنَماً، فَجَاءَ أَسَدٌ مَعَ دُبٍّ وَأَخَذَ شَاةً مِنَ الْقَطِيعِ. فَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ وَقَتَلْتُهُ وَأَنْقَذْتُهَا مِنْ فَمِهِ. وَلَمَّا قَامَ عَلَيَّ أَمْسَكْتُهُ مِنْ ذَقْنِهِ وَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. قَتَلَ عَبْدُكَ الأَسَدَ وَالدُّبَّ جَمِيعاً. وَهَذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَنَّهُ قَدْ عَيَّرَ صُفُوفَ اللَّهِ الْحَيِّ». وَقَالَ دَاوُدُ: «الرَّبُّ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ الأَسَدِ وَمِنْ يَدِ الدُّبِّ هُوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَدِ هَذَا الْفِلِسْطِينِيِّ». فَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «اذْهَبْ وَلْيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ». (1صموئيل 17: 34-37).
الإيمان بمعيَّة الله تقود للثقة فيه والقول بكل يقين لأ أخاف شرًا لأنك أنت معي، ««هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا.» (متى 1: 23). «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.» (مت 28: 20). «فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟» (رومية 8: 31).
السبب الثالث: تعزية الله المستمرة
الله يشبع ويهدي ولكن في نفس الوقت يعزي: «عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي» (آ 4أ)، التعزية هنا في الوادي الصعب، وادي ظل الموت التعزية لم تأتِ في وقت رخاء أو هدوء أو راحة، لكن التعزية جاءت في الوقت الصعب. هذا المزمور لم يتكلم أن التعزية أتته وهو في وقت العبادة، لكن في وادي ظل الموت وهو وادي المحن والتجارب والمصائب والكوارث والظلمات التي كانت تحيط به.
التعزية تأتي من خلال فهم كلمة الله ووجود الله داخل الشخص العصا والعكاز للرد وللتوجيه لاسترداده إلى الطريق الصحيح، حيث الالتزام بالسير وراء الراعي. عندها توجهنا الكلمة فنتعزى. «هذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي.» (مزمور 119: 50).
نتعزى من خلال الكلمة ونتعزى أيضًا من خلال عمل الروح القدس، فالروح المعزي الذي يمكث معنا يدوم فينا «وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.» (يوحنا 14: 26).
إن سرت في الوادي وادي ظلال الموت
فلا أخاف أبدًا أنت معي بدوت
عكازك القوي يا رب يحميني
عصاك لي مرشدة بها تعزيني
السبب الرابع: خيرات الله الوفيرة
قال المختبر: «تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأيام» (أ 4- 5). فالخير والرحمة يتبعانني، ما أروع هذه الصورة، فالخير كل ما هو صالح، هو المخاطبة الطيب: «قُولُوا لِلصِّدِّيقِ خَيْرٌ! لأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ ثَمَرَ أَفْعَالِهِمْ.» (إشعياء 3: 10).
ومن إحسانات الله: «الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ.» (مزمور 103: 5). وقال الرسول بولس بلغة اليقين: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ.» (رومية 8: 28). «وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا،» (أفسس 3: 20).
تشبيه «كَأْسِي رَيَّا» مأخوذة من تعامل المضيف مع الضيف في المائدة، فالمضيف يقدم الطعام والماء، وعين المضيف تكون دائمًا على كوب الماء وفي حال أنَّه ينقص يقوم المضيف بملئه باستمرار، وهكذا يتعامل الله معنا فيفيض فينا بغنناه ونعمته.
السبب الخامس: رحمة الله الشاملة
تعلن كلمة الله عن وجه الله الرحيم «الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ.» (مزمور 103: 8). وبصورة اختبارية ملموسة «الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ.» (مزمور 103: 4). الله رحيم بالإنسان ويعامله بالرحمة، ورحمته واسعة شاملة. الله الرحيم الذي يرحمنا يجعلنا لا نقسوا على بعضنا البعض بل نرفض مجتمع العنف والقسوة.
في اختبار بولس يعلن أنه رُحِمْ «أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلًا مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا. وَلكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْل فِي عَدَمِ إِيمَانٍ.» (1تيموثاوس 1: 13). الله هو الذي يرد، وهو الذي يرحم. وتكون الصلاة دائمًا «اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ.» (مزمور 51: 1).
شجاعة الحياة ترفع شعارًا لا أخاف وهذا يبنى على: رعاية الله الصالحة، معية الله الدائمة، تعزية الله المستمرة، خيرات الله الوفيرة، رحمة الله الشاملة. مازالت هذه الأمور متاحة ومتوفرة وقريبة لنا ونستطيع أن نحصل عليها ونعيش بمقتضاها.
لا أخافْ لًا أخافْ
أيَّ شرٍ بوادي الظلامْ
فمعِي راعٍ أمينْ
ماسكٌ يدي اليمينْ
فيِه لِي راحةٌ وسلامْ

القس عيد صلاح

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
راعي الكنيسة الإنجيلية في عين شمس القاهرة
باحث غير متفرغ في التراث العربي المسيحي له العديد من المؤلفات والأبحاث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى