رئيس التحريركلمات وكلمات

كلمات وكلمات مارس 2019

الهدى 1207                                                                                                                                 مارس 2019

«كنيسة بناها الجيش» تعبير حديث على حضارتنا ومفرداتنا اللغوية كمصريين ترى من أين أتت هذه العبارة؟! وكيف نحتت في لغتنا وصارت أمرًا معتادًا؟ من المعروف أن الكنائس والمساجد يبنيها أفراد أو جماعات أو هيئات رسمية أو غير رسمية (قطاع خاص) أما أن يقوم الجيش بمثل هذا العمل، فذلك لم يكن من المتوقع وليس في الحسبان مطلقا، وهل قيام الجيش ببناء كنائس أمر مقبول أم غير مقبول؟ ترى ما هي ملابساته ونتائجه؟
بدأت القصة بأطفال يعيشون في مدينة ملوي في صعيد مصر في نهاية الخمسينيات وحتى النصف الثاني من الستينيات صداقتهم بدأت وهم في الثامنة واستمروا معًا حتى السابعة عشرة تجمعوا معًا في فناء مدرستهم الإنجيلية الابتدائية التي فتحت ذراعيها لهم كنادٍ تابع للمدرسة والكنيسة فمنذ بداية الكنيسة الإنجيلية في مصر عام 1854 قدَّم مُفكروها ومؤسسوها طرحا لاهوتيا مختلفًا عن المعتاد فقد بدأوا بالمدرسة والمستشفى الصغير (مستوصف) وكنيسة صغيرة يصلى فيها الموظفون والجيران المحيطون وحرصوا أن تكون هناك بعض الألعاب التي تجذب الأطفال مثل تنس الطاولة (بينج بونج)، التنس، الشطرنج، كرة القدم.. إلخ. تأسست الكنيسة الإنجيلية في ملوي 1876 وقام البناء 1889.
كانت هذه المجموعة من الأطفال التي التحقت بالمدرسة الإنجيلية عام 1955 واحد إنجيلي وثانٍ أرثوذكسي وثالث من كنيسة الأخوة، ومعهم بعض من جيرانهم وأصدقائهم من الأطفال المسلمين، نموا معًا في النادي كما لعبوا معا وتحاوروا معًا ولم يكن الدين موضوعًا لأي حوار، لكن كانت الأخلاقيات والالتزام بالمواعيد والانضباط في المدرسة هو هم إدارة ومعلمي وموظفي المدرسة، لاحظ الأطفال أنه في نفس المبنى الذي به مدرسة وناد توجد كنيسة وأن مدير المدرسة هو راعى الكنيسة.
بعد أن أنهوا الثانوية العامة مضى كل واحد في طريقه، مع الأيام ازداد قدم الكنيسة. قرر الرئيس جمال عبدالناصر مجانية التعليم، كان في مدينة ملوى حينئذ أربع مدارس، هي المدرسة الإنجيلية التابعة للكنيسة الإنجيلية، ومدرسة الأقباط، وكانت تابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومدرسة الراهبات التابعة للكنيسة الكاثوليكية، ومدرسة خاصة صاحبتها إنجليزية تدعى مس بيرسون، بالطبع لم يطل التأميم أو المجانية مدرسة الراهبات أو مس بيرسون، فبدأت مباني المدرستين الأخريين تتقادمان، وبالطبع رفعت كل من الكنيسة الإنجيلية والأرثوذكسية أيديهما عن هذه المدارس طالما أن الحكومة تحملت مسئوليتهما، مع الوقت بدأت هذه المباني في الانهيار فأفرغتها الوزارة من التلاميذ. يتذكر كاتب هذه السطور مدينة ملوى إذ كانت تدعى مدينة الباشوات، كانت الأشجار من كل الأنواع تملأ شوارعها خاصة التمر حنة، والتي كانت تسقط أزهارها الصفراء على الأرض، شوارعها متسعة ونظيفة، كان الأطفال يلتقون في نادي الكنيسة والمدرسة ويذهبون معًا إلى نادي المدينة حيث الفرقة الموسيقية العسكرية تعزف بشكل يومي للجماهير الذين يذهبون للاسترخاء بنادي المدينة المجاني، كذلك كان في صباح السبت من كل أسبوع عرض جميل لرجال الشرطة بالموسيقى العسكرية يسير في شوارع ملوي حيث يحييهم الناس ويلقون عليهم الشكولاتة، فالعلاقة بين الأهالي والشرطة كانت متميزة بلا خوف من جانب الأهالي ولا عنف من جانب الشرطة فكلهم معروفون. كنت وجيراني من الأطفال نذهب معا للمولد النبوي حول مسجد العرفاني نسبة إلى عرفان باشا الذي قام ببنائه، ونعود متأخرين إلى بيوتنا، ففي ذلك الوقت لم يكن هناك خوف من خطف أطفال ولم يكن هناك أطفال شوارع، كان الأطفال يعودون بعد المولد إلى بيوتهم في الثانية عشرة منتصف الليل، فالدنيا أمان، وكانت الشابات يسهرن بلا خوف ولا قلق عليهن من ذويهم، كن يلبسن المينى جيب والفساتين بلا أكمام فلم يكن النقاب أو اللحية قد ظهرا بعد. في فناء النادي كانت هناك شجرتا تفاح وشجرتا مانجو ممنوع الاقتراب منهم إلا إذا سقط الثمر على الأرض، حكى لنا راعى الكنيسة أنه في عام 1948 تسلل ابن الباشا وكان صبيًا صغيرًا وتسلق شجرة التفاح وأمسك به راعى الكنيسة وهو مدير المدرسة في ذات الوقت وصفعه على وجهه. في ثاني يوم تجمع الأطفال حول الباشا وهو يسأل أين المسئول هنا؟ ظهر مدير المدرسة (راعي الكنيسة) فقال الباشا بغضب: كيف تضرب ابن الباشا؟ وكان الأطفال يتابعون الحوار بمنتهي القلق والفضول، فأجابه المدير الراعي لم أتوقع أن يكون المتسلق ابن الباشا لسببين أولا في حديقة قصركم أشجار عددها أضعاف ما عندنا، والثانية لم يخطر على بالى أن ابنا لباشا يفعل ذلك الفعل المشين؛ لأنى أعلم كيف تربيهم يا باشا، انخفض صوت الباشا قائلا أعتذر لجنابكم، قال الراعي نرحب به في أي وقت. كان لهذا الحوار أمام الأطفال وقع الصاعقة، كيف يعتذر الباشا لراعى الكنيسة مدير المدرسة؟
قامت حرب 1956 وبدأ التوتر يحدث في شوارع المدينة وأغلقت المدارس أبوابها، واصل الأولاد دراستهم حتى وصلوا إلى الثانوية العامة عام 1967 حيث وقعت الهزيمة المنكرة وسميت بالنكسة، انتهت الثانوية العامة وتفرق الأطفال كل في طريق بحسب الكلية التي قبلته، لكنهم كانوا يتقابلون في نادي الكنيسة كل صيف ويستعيدون ذكريات الطفولة، في السبعينيات ظهرت الجلابيب البيضاء في الأفق والشباب الذى أطلق لحاه وظهرت المطاوي والسكاكين وتهديد بنات ملوى اللاتي كن يلبسن الميني جيب دون اعتراض من أي شخص، أظلمت المدينة تماما ترك الباشوات قصورهم تنعى أصحابها، وتم حرق دكاكين الفيديو؛ لأنها حرام، ودكاكين البيرة؛ لأن ملوي كانت مدينة تجارية متمدينة وراقية جدًا ومعروفة بذلك في كل الصعيد، وبدأ يظهر الحجاب والنقاب والشباب الملتحي … إلخ، وبدأ التضييق على المسيحيين والكنائس. جاء الربيع العربي بما له وعليه. صار الأطفال رجالًا ومنهم من تبوأ وظائف لامعة ولها قيمة، وقام المجلس العسكري بحكم البلاد، دعيّ كاتب هذه السطور والذى كان من هؤلاء الأطفال أكثر من مرة في جلسات المجلس العسكري .. في انتخاب رئاسة الجمهورية 2012 فاز قطب الإخوان محمد مرسى بمنصب رئيس الجمهورية، ازداد الضغط على الشعب المصري وخاصة المسيحيين منهم، وجاء 30 يونيو ليصل الرئيس السيسي للحكم وكان هناك اعتصام رابعة وكان التهديد أنه لو فض الاعتصام سوف تحرقُ الكنائس وفض الاعتصام وأحرقت الكنائس، ومن ضمن الكنائس التي أُحرقت كانت الكنيسة الإنجيلية بملوي. ووعد الرئيس السيسي المنتخب أن القوات المسلحة سوف تعيد بناء هذه الكنائس .. ذهب كاتب هذه السطور ورأى التدمير الكامل للكنيسة وكل ما في محيطها، تقابل مع أصدقاء الطفولة من المسلمين جيران الكنيسة قالوا حاولنا التصدي لهم فهددونا بقتل أولادنا وإحراق بيوتنا، وبعد إعادة البناء بواسطة الجيش أقامت الكنيسة حفل افتتاحها ودعيَّ كاتب هذه السطور لإلقاء كلمة تحدثت فيها عن الطفولة والصبا والأصدقاء من مسلمين ومسيحيين، تحدثت عن حلم تحقق وحلم يجب أن يتحقق، كان الحلم الذى تحقق هو بناء الكنيسة التي تهدمت وكان الكل يأمل أن يعاد بناؤها، والحلم الذى آملت أن يتحقق هو أن تفتح الكنيسة الجديدة ذراعيها للأطفال المسلمين والطوائف المسيحية الأخرى، كما حدث معنا في طفولتنا لكى يختبروا ما اختبرناه. ذكرت أسماء أصدقاء الطفولة بعائلاتهم من المسلمين والمسيحيين، وكان البعض منهم موجودًا في الحفل. كان أحمد ومحمد وعماد وكيرلس وبهجت وناجى ينمون في جو صحي يمتلئ بالحب وقبول الآخر.
وأنا أنتهي من كتابة هذا المقال قرأت الوثيقة التي وقع عليها البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب: «باسم الأخوة التي أرهقتها سياسات التعصب والتفرقة .. باسم الحرية التي وهبها الله لكل البشر واستأمنهم عليها وميزهم بها باسم الله .. نتوجه للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلام والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك».
وأعتقد أن هذه المرة كان الكلام جادًا وحقيقيًا. وسوف تكون لنا وقفة ــ عزيزي القارئ ــ مع هذه الوثيقة.

د. القس إكرام لمعي

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
رئيس مجلس الإعلام والنشر
كاتب ومفكر وله العديد من المؤلفات والكتابات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى