رئيس التحريركلمات وكلمات

كلمات وكلمات مايو 2020

الهدى 1221                                                                                                                                     مايو 2020

ما الذي فعلته الكورونا بنا كأفراد وعائلات وكنيسة، وأقصد بالكنيسة هنا جميع الطوائف بلا استثناء؟ سؤال من المهم جدًا أن نحاول الإجابة عليه.
قبل اجتياح الكورونا لمصرنا العزيزة كانت كنائسنا الإنجيلية تعج بالحركة الكارزماتية، وبالطبع تلك الحركة متوافقة في حركتها مع الحركة الأصولية، فالحركتان مرتبطتان برباط لا ينفصم رغم أن لاهوتهما يختلف إلى حٍد ما، وأيضًا تُعانى الكنيسة الكاثوليكية بنفس الدرجة من حركة كارزماتية مع تقليد واضح الملامح، أما الأرثوذكسية فهي تعانى من تطرف بعض الأساقفة في تمسكهم بالتقليد…الخ، وهكذا وفي وسط هذا الجو اجتاحت الكورونا كل هذه الكنائس بلا استثناء، وبالطبع سوف أركز حديثي هنا على كنيستي، فما حدث في كنيستي لم أكن أتوقعه، ما كنت أتوقعه هو امتداد وارتفاع الحركة الكارزماتية، لأنها اجتاحت بعض الكنائس ولأنها تؤمن بالتنبؤ والشفاء الإلهي والرؤى مع حماسة شديدة في العبادة على وقع موسيقى صاخبة يصحبها تصفيق ورقص… إلخ، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، لقد خفتت نغمة المعجزات، واختفى أولئك الذين يتحدثون عنها ويمارسونها، ربما لأن ملامح الكورونا واضحة، والشفاء منه لابد أن يكون واضحًا، فهو ليس مثل السرطان مثلًا أو الأمراض العصبية، فهذه الأمراض لا يتضح الشفاء منها كاملًا أو أنها تأخذ وقتًا للشفاء، أو تتدخل فيها الحالة النفسية للمريض فيشعر أنه شُفي وينتشى، وعندما تحدث النكسة، يكون الناس قد نسوا معجزة الشفاء، ولأن الكورونا لا تمزح معنا، كان من ذكاء أصحاب المعجزات أن يصمتوا وينسحبوا من المشهد لأن الكورونا عاصية على الشفاء، وشفاءها لابد أن يكون واضحًا ومحدد الملامح وملموسًا، أيضًا لاحظت أن رجال النهضات والذين لهم شعبية ضخمة، بدأت شعوب الكنائس تكتشفهم، فهناك من تبنى نظريات إثبات وجود الله من حركة الفلك لكنه فشل في الإجابة على سؤال الكورونا، وبالطبع شعوبنا العربية على إطلاقها في معظمها أو الغالبية المطلقة منها ليست لديها فكرة عن علوم الفلك، لذلك كان تمرير الأمر سهلًا، لكنه عندما حاول الإجابة على سؤال الكورونا: هل هي من الله؟ وكيف؟ فشل، لأنه تحدث عن أنه ربما يكون الله قد سمح بها، والمتعارف عليه إن الذي يسمح بتسهيل أى جريمة مثل فتح خزينة بنك أو منزل أو متجر للسارقين يُعتبر في حكم العدالة الأرضية مشاركًا ويُحكم عليه بالسجن، فكيف يسمح الله بالإجرام وبالكورونا…. إلخ، وقد ثبت أن فيروس الكورونا ما هو إلا تطور بيولوجي ميكروبي كأي تطور يقبله عقل الإنسانعلى الرغم من ضرره، أما المرنمون فقد فقدوا تأثيرهم وهؤلاء هم الضحية الحقيقية لإغلاق الكنائس، ولن يعودوا بعد فتحها كما كانوا قبلها ولا الكنائس ستعود كما كانت، لأن هذه الفترة دعت قيادات الكنائس وروادها لتقييم الموقف، ولاحظوا أنه لا فرق كبير بين الفتح والغلق وأنهم يستطيعون أن يفعلوا كل شيء من منازلهم، وهذا أفضل لأنّه لن يناقشهم أحد أو يفرض أحدهم نفسه عليهم إذا كانوا لا يريدون سماعه.
أما الذين وجدوها فرصة للظهور والشهرة، أولئك الذين يتحدثون عن علامات الأزمنة الأخيرة وتفسير الوحش الخارج من الأرض والآخَر الخارج من البحر ونهاية الأيام، هؤلاء لا أعيرهم أي اهتمام، لأنه تمضي الأيام والأعوام ولن يتحقق ما يقولونه كما حدث عشرات المرات من قبل إنها مجرد استثارة لمشاعر الناس.
خبرة رعوية
في السبعينيات من القرن الماضي كنت أخدم في إحدى القرى التابعة لمجمع ملوى، وكان عندما يأتي الصيف يموت عددًا كبيرًا من الأطفال بداء «الإسهال الشديد» وكنت في زياراتي في البيوت أرى الطفل وقد وصل إلى حالة يرثى لها «جلد على عظم» بالضبط الصورة التي ترونها لأطفال المجاعات في التلفزيون وربما تذكرون المصور العالمي الذى ذهب إلى جنوب السودان أثناء الحرب الأهلية هناك، والتي كانت نتيجتها المجاعة والتقط صورة لطفل حوالى أربع أو خمس سنوات تركته أمه وهربت أو ماتت، وخلفه يقف على الأرض نسر أو صقر من الجوارح التي تتغذى على الجثث والجيّف منتظرًا موته، وكان الطفل يحتضر والصقر الجارح ينتظر قريبًا منه ليفترسه بعد موته، وقد تأثرت جدًا بهذه الصورة الرهيبة وما زلت فهي متجسمة في ذاكرتي حتى اليوم، وقد حصل المصور على جائزة أفضل صورة التقطت في ذلك العام، لكن ظل ضمير المصور يؤنبه حتى انتحر أخيرًا. هذا المنظر ذكرّنى بالأطفال الذين كانوا يموتون بسبب الإسهال الشديد في موسم الصيف في القرية التى خدمت بها، المهم أن تبرير المرض كان عند الأمهات والآباء – في ذلك الوقت – أنه أكيد سقط على الأرض من على المصطبة أو الفرن الذى كان ينام عليه، وقد لبسه الجان أو الشياطين ولذلك حتمًا سيموت، أيضًا ظهر مع هذه الظاهرة رجال دين يصلون لأجل هؤلاء الأطفال بادعاء إخراج الشياطين أو الجان من أجسادهم لأنهم سبب المرض. بالطبع كان الأطفال يموتون بأعداد كبيرة، وكنت في ذلك الوقت في العشرينيات ورددت على أسماعهم أن إخراج الجان أو الشيطان من جسد الأطفال ما هي إلا عملية نصب وسوف يكتشف العلم العلاج وكان يتكرر ذلك السيناريو كل عام وفي كل القرى، أي كان شبه الوباء تمامًا فلا علاج له، ولم يتم شفاء أحد إلى أن أكتشف دواء عبارة عن مسحوق من ملح وسكر بنسب دقيقة جدًا، أطلقت عليه وزارة الصحة المصرية يومها « مسحوق معالجة الجفاف « وكان يُباع في الصيدليات جرعات مغلفة، كل جرعة تذاب في كوب ماء يشربها الطفل فيشفي، بل كانت الدولة تقوم بتوزيعه مجانًا في الوحدات الصحية، وهكذا أنقذ العلم الأطفال الذين كانوا يموتون لغياب العلاج، وهو ما يتكرر اليوم مع الكورونا وسينتهى الأمر باكتشاف المصل أو اللقاح، لكن من الواضح أن الذين لديهم موهبة إخراج الشياطين لم يجرأوا هذه المرة أن يدعوا أن الكورونا هو أحد أجناس إبليس الذي يسكن في جسد الضحية، كما كان في سبعينات القرن الماضي، بالطبع ربما لأن العالم قد تغير أو لأن كثير من القيادات الدينية أصيبوا بالكورونا.
وهنا أتمنى أن تكون لكل الرعاة في كل أرجاء الجمهورية ومن كل الطوائف القدرة على إيصال رسالة الإنجيل دون خرافات مهما كان الثمن.
حكاية لاهوتية
كان الحوار يدور حول «هل من أهمية لكل مؤمن بالمسيحية أن يدرس ويتعمق في اللاهوت؟»
قال أحد التلاميذ: لأ بالطبع يكفي المسيحي العادي أن يؤمن بالأساسيات، قال آخر: العكس على الإنسان الذي يؤمن أن يتعمق وبشدة في علوم التفسير واللاهوت قال ثالث: كلما قلل الإنسان من دراسة اللاهوت كلما كان الإنسان أكثر روحانية، فكلما ملأ جعبته بالترانيم والآيات والهتافات والعبادة فهذا يكفيه، قال رابع: العكس هو الصحيح كلما دخل في المعضلات كلما زاد ثقله كمؤمن.
قال أخير: يعنى المهم في نوعية الفكر الذي يدرسه ويستوعبه الدارس، أحيانًا يتعرض دارس لمواقف تجعله يبدو أمام الناس فارغًا، بينما آخر يبدو ممتلئًا.
قال الأستاذ أحكي لكم قصة من التراث:
كان جحا متعودًا أن يبيع بضائع في المدينة يحملها من بلدته في الريف على ظهر حماره إلى سوق المدينة وكان عليه هو والحمار عبور نهر تغطي مياهه في موسم التحاريق _موسم غلق مياه الس العالي_ مجرد الحمولة المتدلية من الناحيتين بينما يركب جحا على ظهر الحمار. ويمد قدميه بطول رقبة الحمار حتى لا يبتل حذاءه.
في إحدى المرات قام بتحميل الحمار بحمولة ضخمة من السكر وإذ بالحمار يعبر الترعة بطيئًا ثم تزداد سرعته كلما اقترب من الضفة الأخرى وحين خروجه من الناحية الأخرى، أخذ الحمار يجرى بسرعة يحرك ذيله وأذنيه وينهق بشدة فرحًا، لأن حمولة السكر ذابت منه كمية لا بأس بها في المياه وعاد جحا خائب الرجاء إلى حدٍ ما.
في الأسبوع التالي قام بتحميل الحمار بالقطن، وعندما نزل الحمار في الترعة بدأ نشيطًا لكنه سرعان ما أبطأ في سيره، وكاد يسقط أكثر من مرة، لكن مهارة جحا في القيادة ساعدته ثم نزوله من على الحمار بعد خلع حذاءه وسيره بجوار الحمار رافعًا ثيابه على كتفه ساعدت على خروجه والحمل والحمار من الضفة الأخرى بسلام وكان الحمار ينهق تعبًا واحتجاجًا وعرقه يتصبب على جسده. في ذلك اليوم جنى جحا كثيرًا من المال.
صمت الأستاذ وبدأ يجمع أوراقه وسط جلبة التلاميذ مع بعضهم البعض، لكن التقطت أذناه وهو يقترب من الباب مسرعًا في الخروج صوت أحد التلاميذ النبهاء يصرخ بصوت عالٍ قائلًا:
يعني الكلام والعبرة ع الحمولة يا دكتور !!
وهنا لم يستطع الأستاذ أن يمنع ضحكته المجلجلة.
مختارات
إنكم لتبتهجون حين تسنون القوانين
ولكنكم يزيد ابتهاجكم حين تخرجون عليها
كالصبية يلعبون على شاطئ المحيط..
فيقيمون في مثابرة من الرمال بروجًا…
ثم يقوضون اركانها ضاحكين.

                     جبران خليل جبران

د. القس إكرام لمعي

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
رئيس مجلس الإعلام والنشر
كاتب ومفكر وله العديد من المؤلفات والكتابات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى