كلمات وكلمات يونيو 2021
الهدى 1232 يونيو 2021
منذ ظهور السيد المسيح على الأرض قبل أكثر من ألفي عام وحتى اليوم أثار جدلًا ضخمًا بين كل من عرفوه وسمعوه وكل الذين سمعوا وقرأوا عنه، والسؤال هو لماذا؟ والإجابة ببساطة لأنَّ تعاليم المسيح منذ ألفي عام وحتى اليوم تقوم بعمل صدمة لفكر الإنسان تجعله إمّا يرفضها بلا مناقشة، أو يهاجمها بضراوة؛ والسؤال هو لماذا؟ والإجابة أنَّه لم يتكلَّم كما تكلَّم الأنبياء والمفكرون من قبله أو في عصره أو في أي عصر.
لقد جاء السيد المسيح بمنظومة تعليميّة غريبة على أذن الإنسان الذي تعوّد على أن يسمع وصايا وأوامر ونصائح عن ما الذى يمكن أن يفعله ليرضي الله، من فرائض وصلوات وذبائح وعطايا، وجميع تلك الوصايا من آدم وحتى اليوم مرورًا بكل الآباء والأنبياء وفى كل الأديان تتلخص في تعبير «افعل ولا تفعل»، ١ + ١ = ٢؛ ومشكلة السيد المسيح أنّه جاء من خارج هذه المنظومة بل قدَّم منظومة مختلفة تمامًا، فكل الأنبياء من آدم وحتى اليوم كانوا يعتمدون على منظومة لاهوتيّة فقهيّة ويصحب هذه المنظومة دستور الله وقوانينه: الوصية – الإنسان. فالله مصدر الوصية والإنسان منفذ الوصية، لكن السيد المسيح صنع انقلابًا في هذه المنظومة، إذ وضع الإنسان بين الله والوصية، فأصبحت المعادلة: الله – الإنسان – الوصية. فالإنسان هنا أهم من الوصية عند الله، وقد وضح ذلك كثيرًا في أقوال السيد المسيح وتعاليمه ودليل احترامه الشديد للإنسان أنَّه جاء كإنسان.
من هذا المنطلق رفض رجال الدين على مدى الزمان فكر المسيح؛ حتى المسيحيين منهم، وذلك لأنّهم يأخذون سلطانهم من الوصية وتنفيذها، وكذلك لأنّهم ببساطة هم الذين يقرأون الوصية للإنسان، وهم الوسطاء بين الله والناس. بل هم الذين يقولون للناس ما الذي يريده الله منهم.
لكنَّ المسيح قلب هذه المنظومة وجعل العلاقة بينه وبين الإنسان الفرد مباشرة، فالإنسان هنا عليه هو مسؤولية تفسير الوصية لنفسه ويتخذ قراراته من نفسه، وليس من خلال رجال الدين. إذن كيف يكون الحال؟ وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان في علاقته بالله من خلال الوصية؟
هذا ما سنتحدث عنه في المرة القادمة. خبرة رعوية
لا شك أنَّ العمل الرعوى يختلف من القرية عن المدينة، ومن المدينة عن العاصمة، أو الثغر (البلاد التي تقع على البحر الأبيض أو الأحمر … إلخ)، هذا التقسيم كان واضحًا في سبعينيات القرن الماضي، وذلك لأنَّ الريف كان محرومًا من الكهرباء، وكان لا يوجد تلفزيون، والراديو يعمل نادرًا ومن خلال البطارية، لأنَّ البطاريات تفقد تأثيرها وعملها بسرعة شديدة، والقرية التي بدأت بها خدمتي لعشر سنين كانت في الريف بلا كهرباء، وعندما زرت نفس القرية لرسامة قساوسة بعد دخول الكهرباء كان الوضع قد تغير تمامًا، كانت هناك أجيال ولدت في عصر الكهرباء، وأجيال ماتت قبل دخول الكهرباء بينما جيل ثالث عاش منتصف عمره تقريبًا في الظلام والنصف الثاني في الكهرباء، والأمر الذي لاحظته أنّه بالرغم من أنّها نفس البلدة ونفس الناس إلا أن وجود الكهرباء صنع فارقًا حضاريًا واضحًا، فالذين ولدوا في عصر الكهرباء لم يكن يتحدثون عن أهمية الكهرباء ومدى روعتها وجمالها وقوتها والحضارة التي صنعتها ذلك لأنّهم لم يعشوا في الظلام، والذين ماتوا قبل دخول الكهرباء لم يتحدثوا عن الكهرباء لأنّهم لم يختبروا تأثيرها، أما الجيل الذى عاش منتصف عمره في الظلام والمنتصف الثاني في عصر الكهرباء كان دائمًا يتحدث عن فترة الظلام التي عاش فيها، والفارق الحادث بينها وبين عصر الكهرباء. ولقد كتبت ملاحظاتي، وكانت إحداها المهمة والأصيلة في هذا الأمر، أنَّ الحياة بدون كهرباء خسارة كبيرة، لكن من المستحيل أن أحس بها وبامتيازاتها لأني لم أختبرها. وبتطبيق هذا الفكر على العلاقة مع السيد المسيح، والخبرة الإيمانية اكتشفت أنّ الخبرة الإيمانية ليست صورة طبق الأصل عند كل شخص، هناك فارقًا ضخمًا جدًا بين من لم يرَ قط من ناحية، وبين من رأى قبل وبعد من ناحية أخرى، وبين من رأى بعد فقط من ناحية أخيرة، وبتطبيق هذه العلاقة مع السيد والخبرة الإيمانية معه اكتشفت شيئًا عجيبًا، أنَّ الذين ولدوا في عائلات مسيحيّة كانوا أضعف كثيرًا في علاقاتهم ومعرفتهم بالمسيح ممن ولدوا في أسر غير مسيحية وعاشوا ما قبل وما بعد، بل أقوى من الذين سمعوا عن المسيحية لكنهم لم يختبروها إطلاقًا.
حكاية لاهوتية
كان الحديث عن ما ومَن هو الله، سأل التلاميذ بوذا قائلين: كلِّمنا عن الله؟!
قال: عاد المكتشف الجغرافي الرحالة إلى شعبه وقد وجدهم في منتهى الشغف لسماعه عن ما اكتشفه في رحلته، كانت المعضلة عند المكتشف الرحالة كيف يضع مشاعره وأحاسيسه المملوءة بالعاطفة في كلمات، بدأ بالقول إنّه اكتشف نوعًا مختلفًا من الزهور؛ سألوه كيف يكون مختلفًا عن ما تعرفه؟! صمت. لا إجابة، بالطبع من المستحيل أن يصف لهم شيئًا لم يروه، لأنّه عندما رأى هذه الزهور كان في الخلفية صوت تدفق مياه مع صوت ريح خفيف لا يمكن وصفه كذلك، الغابة في الليل مع القمر الذي يتخلل الأشجار، وكيف يعبر عن كل ذلك خاصة أنّه كان وهو في وسط هذا الجمال يخشى الحيوانات المفترسة، وهذه الأحاسيس المختلفة لم تجعله يستمتع استمتاعًا كاملًا وبشفافية بهذا المنظر الخلاب.
أجاب الأستاذ: إن الذي يريد أن يعرف حقًا عليه أن يختبر الموقف بنفسه، فلا يمكن أن أنقل خبرتي الداخلية، أي تفاعلي مع ما رأيت من جمال وأنا في ذات الوقت كنت أرتعد من الخوف، وهذه الأمور لا يمكن قياسها على الجميع، فكل واحدٍ منا له خلفيته النفسية والعائلية، له قدراته من شجاعة وجبن، من علم وجهل، من فن وموسيقى … إلخ. وهذه كلها تؤثر في رؤيته لذلك اذهب كفرد وانظر بنفسك.
قال الأستاذ: من هنا نكتشف لماذا رفض بوذا أن يغرق في الشرح والتفسير عن الله، ربما خشيّ أن يقوم تلاميذه من العلماء بشرح كل واحد منهم إله مختلف عن الآخر ويحاول فرضه على الآخرين مستشهدًا بما قاله بوذا.
سأل طالب: وهل هذا سبب ظاهرة الأديان والطوائف الكثيرة المختلفة في رؤيتها عن الله؟ وهل هي أيضًا سبب ظاهرة الطوائف والملل والنحل في كل طائفة؟؟ أخذ الأستاذ في تجميع كتبه وحمل حقيبته وسمع طالب يقول: وهل حال البوذيين أفضل من حالنا؟!
شاهر لوقا
تعرفت على شاهر منذ أكثر من عشرين عاماً، وكانت البداية في تسعينيات القرن الماضي عندما كنت مديراً لكلية اللاهوت وكلفني مجمع القاهرة برئاسة مجلس كنيسة شبرا، ولأن أيام الأحاد كانت أجازة في الكلية ـ كما تعلمون ـ فكنت أقوم بالوعظ صباحًا ومساءً، أى كنت تقريبًا راعيًا من الخارج للكنيسة، ولقد استمتعت فعلاً برعاية الكنيسة في هاتين السنتين، وقد كان شاهر شابًا يافعًا يعد بخادمٍ متميز قادر على التعبير عن نفسه، ثم التقيت به في عضوية عدة لجان، وسافرنا معًا أكثر من مرة إلى بيروت وقبرص إما للجان أو مؤتمرات، وفي العشر سنوات الأخيرة نضج شاهر نضوجًا رائعًا وكان نموذجًا حتى للقسوس الشبان أو الذين تخرجوا حديثًا من الكلية، آخر مؤتمر سافرت معه خارج البلاد كان منوطًا بمقارنة الأديان وكان قادة هذا المؤتمر من الكبار المحترمين العرب من خارج مصر، وشاهر من مصر، ومعه فريق خدمته الرائع والذي تعرفت عليهم وصرنا قريبين لبعضنا البعض، كان هناك شخص على ما أذكر من الأردن أو بيروت وكان منوط به وبي أن نقدم محاضرات مقارنة الأديان، وفي أول يوم قدَّم محاضرتين وثاني يوم كان علىّ تقديم محاضرتين، لكن بعد الانتهاء من محاضراتي طلبوا مني أن أستكمل بمحاضراتي باقي المؤتمر، وكان قرارًا شجاعًا جدًا لم أكن أتخيله، لكن هكذا كان شاهر، عندما يقتنع برأي أو بشخص وظلّ معظم أعضاء المؤتمر على اتصال بى حتى اليوم، بعد ذلك تشاركنا معًا في أمور أخرى لأن مكتبينا كانا في مبنى السنودس فكنا نلتقي يوميًا تقريبًا في الشهرين الآخيرين، وذلك لأننا استطعنا في مجلس الأعلام أن يتوفر لنا تحقيق أحد الأحلام الكبرى لكنيستنا (المطبعة)، وأخذ يشاركنا في ترتيب المكان والإجراءات التي يجب إتباعها وأعطانا الكثير من جهده ووقته. لقد خسرت أخًا وصديقًا ومحبًا وأحد خدام كنيستنا الإنجيلية المشيخية المتميزين والذين يصعب تعويضهم.
تعزياتي وتعزيات مجلس الإعلام وتحرير والهدى للزوجة الخادمة سوزي وللابنين شريف وميرنا وربما هنا أريد أن اعتذر عن عدم تعازىّ لكل أسر من تركونا بسبب جائحة الكورونا وأعترف إني لم أستطع. وذلك لأني اكتشفت وأنا في هذا السن لا أستطيع أن أكتم أو أكبت مشاعري بعد أن كنت من أكثر الناس قدرة على ذلك، وكان الأصدقاء والأقرباء يحسدونني على ذلك، لكن يبدو أن هناك تغيرات عاطفية تحدث بعد سن السبعين وخشيت أن أنهار أمامهم واتسبب في انهيارهم أكثر بدلًا من تعزيتهم وهكذا فضلت الانزواء.
أرجو أن تعذروني بمقدار قربي بكم ومحبتي لكم ومحبتكم لي.
مختارات
«لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين،
وإن لم نكره ما ليس نحن، فلن يمكننا أن نحب ما هو نحن …
وإننا لا نعرف من نكون إلا عندما نعرف من ليس نحن، وذلك
لا يتم غالبًا إلا عندما نعرف نحن ضد من»
صموئيل هانتجتون
«إذا أردت اختبار معدن رجل امنحه سلطة»
إبراهام لنكولن