الهدى 1223 سبتمبر 2020
كانت الأزمات عبر التاريخ سببًا كبيرًا في تلاحم الناس -حتى المتخاصمين منهم- لعبور الأزمة، ويحضرني مشهد من فيلم «الأرض» من إخراج يوسف شاهين، عندما تعارك عبد الهادي ودياب على من يروي أرضه أولاً، وفيما هما يتعاركان سمعا صراخ سيدة سقطت جاموستها في الساقية.
انتفضا سريعًا وركضا وتعاونا ليُخْرِجَا الجاموسة من الساقية، ودياب يقول: «أنا وراك يا عبد الهادي»، وعبد الهادي يقول: «إيدك معايا يا دياب»! مشهد ما أروعه! هذه أزمة حولت الأيادي المتعاركة إلى أيادي متعاونة.
أما أزمة كورونا فقد كانت أقرب إلى الترمومتر الذي فضح معتقدات وتصرفات كثيرة، وكما يوجد جهاز «كشف الكذب»، فكانت كورونا بمثابة جهاز «فضح الجهل»! هذا الڤيروس الضعيف الذي أحدث هزة عنيفة لمعتقدات وتصرفات خاطئة، تعجز آلاف الكتب والمقالات، وآلاف المحاضرات والعظات عن إصلاحها، إن ڤيروس كورونا عمل على خروج بعض أفكار الجهل من عمق المياه الراكدة (عقولنا) على السطح، سأتحدث عن بعضها:
أولاً: المؤمن منزه عن الألم! وهذا ما ينادي به أصحاب «إنجيل الرخاء»، ومفاده أن «المؤمن» (ولا أعرف مقياس المؤمن بالنسبة لهم) لا يتألم مع المتألمين، ولا يمرض مع المرضى، بل الأكثر من ذلك ينام على ريش نعام، ويُكتَّب في قائمة الأغنياء العظام! جميعنا لمس عن قرب –أثناء هذه الأزمة- إصابة بل ورحيل أحباء كثيرين مشهود لهم من الجميع، تُرى.. هل المؤمن منزه عن الألم والمرض؟ ألم يتألم كثيرًا الرسول بولس أثناء خدمته؟ ألم يمرض ولم يرفع عنه الرب شوكته؟ يقول الرسول بولس: «مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كو12: 8- 10). ألم يجتاز الرب يسوع نفسه في آلام مثلنا؟
ثانيًا: الخرافة هي الحل! بينما تسعى الدول المتحضرة لإيجاد حل لڤيروس كورونا، يبهرنا البعض -بين الحين والآخر- باكتشافات مدهشة، للقضاء على ڤيروس كورونا، كان من بين هذه الاكتشافات التي انتشرت اكتشاف «الشعرة»! حينما يجدها الفرد بين النصوص الكتابية (الدينية) يضعها في كوب ماء ويشربها! هذه الممارسات المخجلة تُلمِّحْ على خرافات أكثر منها بكثير في عقول البعض، يقول نزار قباني: «إذا خسرنا الحرب لا غرابة.. لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة.. بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة.. لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة. السر في مأساتنا.. صراخنا أضخم من أصواتنا، وسيفنا أطول من قاماتنا.. خلاصة القضية توجز في عبارة: لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية!»، وقال المتنبي من قبله: «أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.»
ثالثًا: العشاء الرباني يعطي حصانة من المرض! ذهبنا ببعض الأمور بعيدًا عن جوهرها، وألبسناها ثيابًا ليست ثيابها، كالإدعاء أن سر العشاء الرباني يمنح الشفاء للمريض، ويعطي حصانة للسليم! في أثناء هذه الأزمة سمعنا بأخبار مزعجة عن انتقال ڤيروس كورونا أثناء التناول من شخص مصاب إلى القائم بالتناول مما أدى إلى وفاة الأخير، وغيرها من حالات الوفاة، ونحن لسنا بصدد الحديث الآن عن معاني العشاء الرباني، لكن كل ما في الأمر أود التأكيد على أهمية معرفة المدلول الحقيقي لهذا السر، وليس الذهاب به بعيدًا عما قصده الكتاب، مثل الاستحالة للعناصر أو منحها الشفاء والحصانة.
رابعًا: الصورة الوحيدة للعبادة داخل جدران الكنيسة! بالتأكيد عرف الجميع أهمية شركة المؤمنين والعبادة الجمهورية الكنسية، وذلك حين أُغلِقَتْ الكنائس للاحتياطات الاحترازية والوقاية من ڤيروس كورونا، نعم.. العبادة الكنسية هامة، لكنها ليست الصورة الوحيدة للعبادة، فقد جاء في دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر مادة 61: «العبادة في صورتها الخارجية ثلاثة أنواع: جمهورية، وفردية، وعائلية.»
العبادة الفردية: جاء في مادة 63 من دستور الكنيسة: «في العبادة الفردية تنفرد نفس المؤمن مع الله، وهذا هام للنمو في النعمة وتحقيق القداسة في الخلق والحياة…»
العبادة العائلية: جاء في مادة 64: «العبادة العائلية جوهرية لإنماء الديانة البيتية، ويجب المحافظة بأمانة على ممارستها اليومية في كل بيت مسيحي…»
العبادة الجمهورية: وقد نظمها دستور الكنيسة في المواد 65 – 79، وعن يوم الرب جاء في مادة 65: «في تدبير الإنجيل عيَّن الله اليوم الأول من الأسبوع ليكون يوم الراحة المسيحي، أي يوم الرب، ليُحفظ مقدَّسًا ومخصَّصًا لعبادته تعالى، وهو يوم الأحد.»
خامسًا: الشماتة حينما أصاب ڤيروس كورونا بعض الدول، أسماه البعض «انتقام»، وعندما أصابنا عادوا وأسموه «ابتلاء»! وأنا متأكد أنه بعد عبور الأزمة التي سحقت الجميع، سيلجأون إلى إحصاء الأعداد، للتأكيد على أن مصابيهم أكثر من مصابينا، وموتاهم أكثر من موتانا! أصحاب هذه النزعة العنصرية الحيوانية ألا يدركون أن «كلنا إنسان»!
سادسًا: الإصابة بڤيروس كورونا عار لا يُمحى! كثيرون طالهم ڤيروس كورونا، لكنهم تستروا على هذه الجريمة النكراء لأنها عار وفضيحة من وجهة نظرهم! بل الأغرب من ذلك، أهالي قرية مصرية بأكملها تثور رافضة دفن طبيبة –من نفس قريتهم- توفيت بسبب هذا الڤيروس! وهنا لا يفوتني أن أرفع القبعة لكل الأطباء الأبطال الجيش الأبيض الذين لم يتنصلوا من هذه المهمة الخطيرة، ووقفوا في مواجهة الخطر.
سابعًا: عدم المشاركة في المناسبات –في هذه الأيام- عدم تقدير! الدول المتقدمة النشيطة قبل النامية الكسولة أكدت على أهمية عدم الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، وذلك للحد من انتشار الڤيروس، ولكن ما يثير العجب أن يعاتبك البعض لأنك لم تشارك في واجب العزاء في بلدة أخرى مثلاً، أو يعتب عليك أحدهم لأنك لم تزره في منزله منذ فترة طويلة! ولكن ذي العقل المستنير يرفع عنك الحرج، ويقدِّر حجم الخطر.
ثامنًا: كورونا فترة أجازة مفتوحة! لا أتحدث عن العمال الذين تأثرت حالتهم المادية بسبب أزمة ڤيروس كورونا، لكني أتحدث عن بعض الطلاب الذين تخلصوا من عبء الدراسة، وكأنهم حصلوا على عفو رئاسي! وكذلك بعض الموظفين الذين سُرُّوا بتقليل عدد ساعات العمل، وكأنهم حصلوا على تقليل مدة للأشغال الشاقة! وحقا صدق نزار قباني حينما قال: «أكثر الكتب مبيعًا بيننا، كتب الطبخ وتفسير الأحلام، وهذا دليل على أننا شعوب تأكل وتنام!»
كل هذه الأفكار البالية وغيرها، استطاع هذا الڤيروس الضعيف أن يُحدِّث لها هزة عنيفة، مما أدى إلى اقتلاعها من جذورها لدى كثيرين، وبعض منها لدى آخرين، لكنها لم تحرك ساكنًا لدى آخرين، إلا أنه وفي كل الأحوال ساعد ڤيروس كورونا على خروج كل هذا على السطح من بِرْكَةْ المياه الراكدة.