مقالات

كورونا ونبوة حبقوق

الهدى 1220                                                                                                                                  أبريل 2020

لاحظت في الآونة الأخيرة -بسبب أزمة فيروس كورونا- كثرة تداول ما جاء في (حبقوق 3: 5): «قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى»، وذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، والفضائيات المسيحية، كل هذا لأجل طمأنة الناس التي تعيش في حالة من الخوف والهلع بسبب فيروس كورونا.

وهنا تجدر الإشارة إلى التفريق بين «النَصْ الموعوظ»، و«النَصْ المكتوب»، فما ترسَّب في عقول الكثيرين من السمع، أكثر بكثير مما تعلموه من القراءة، فتكوَّن إنجيلٌ آخر يمكن تسميته بـ «الإنجيل الموعوظ»! وهناك تباين واضح بينهما، يظهر هذا التباين فيما يلي:

  1. الإنجيل المكتوب هو الأصل، بينما الإنجيل الموعوظ هو محاولة الشرح للمكتوب.
  2.  الإنجيل المكتوب ثابت عبر الزمان، بينما الإنجيل الموعوظ متغير، ويختلف من واحد لآخر، كلٌ بحسب هواه، وابتداعه (أقول ابتداعه، وليس إبداعه!).
  3. الإنجيل المكتوب واحد، وهو الكتاب المقدس، بينما الإنجيل الموعوظ له قنوات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الوعظ المنبري، الفضائيات، كتب التفاسير والتأملات المتعددة الاتجاهات، كلمات الترانيم، وغيرها.
  4. في الإنجيل المكتوب يؤخذ النص بقرينته، بينما في الإنجيل الموعوظ يؤخذ النص بخبرته! فهو يعتمد على الخبرة الشخصية للمفسر في كثير من المرات، بينما الاختبارات في حقيقتها لا تُعلَّمْ ولا تُعمَّمْ، وهذا ما يقود بدوره للتباين التالي:
  5. في الإنجيل المكتوب التفسير التاريخي/ الروحي هو البوصلة لمعرفة الطريق السليم من وراء النص، بينما في الإنجيل الموعوظ التفسير الرمزي هو كالريح المتضاربة التي أتاهت السفينة بعيداً عن مرساها!

لذا وجبَّ علينا الرجوع للمكتوب وليس الموعوظ، الرجوع إلى الأصل وليس الشرح، الرجوع للثابت وليس المتغير، لعلنا نصحح ما تواتر من أخطاء، ونعيد قراءة ما اعتدنا عليه لعلنا نفهم المعنى الحقيقي من ورائهِ.

إذًا.. ماذا قصد حبقوق من قوله: «قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى»؟
ظن حبقوق في بداية السفر أن الله قد ترك شعبه للأمم المحيطة -و خصوصًا بابل- لتفعل (هذه الأمم) ما تشاء بشعب الله، فيقول في (حب1: 2): «حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟»، ولكن في (حب2: 1) نقطة التحول: «عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي وَمَاذَا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ»، فاستطاع حبقوق أن يرى –بعدها- الصورة واضحة، بعيدًا عن أي تشويش في عقله من ناحية الله، وأدرك غضب الله على شر الأمم، وهذه الآية –في قرينتها- مقصود منها، عقاب الله بالوبأ على الأمة الكلدانية التي ضايقت شعب الله، فإن كان زمان الضيقة قد طال على شعب الله، فإن الدينونة ستأتي على أعدئهم بهذه الصورة، فالقول: «قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ» لا يعني –هنا- «فارق الوبأ شعب الله»/ «ذهب من»، وإنما «طال الوبأ المعتدي»/ «ذهب إلى»، كذلك المقصود من القول: «وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى» لا يعني –هنا- «خرجت من»، وإنما «خرجت إلى».

للتأكيد على ذلك جاء في (حبقوق 3: 6 – 8): «وَقَفَ وَقَاسَ الأَرْضَ. نَظَرَ فَرَجَفَ الأُمَمُ وَدُكَّتِ الْجِبَالُ الدَّهْرِيَّةُ وَخَسَفَتْ آكَامُ الْقِدَمِ. مَسَالِكُ الأَزَلِ لَهُ. رَأَيْتُ خِيَامَ كُوشَانَ تَحْتَ بَلِيَّةٍ. رَجَفَتْ شُقَقُ أَرْضِ مِدْيَانَ. هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ حَمِيَ يَا رَبُّ هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ غَضَبُكَ أَوْ عَلَى الْبَحْرِ سَخَطُكَ حَتَّى أَنَّكَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ مَرْكَبَاتِكَ مَرْكَبَاتِ الْخَلاَصِ؟»

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان كذلك، ألا يكون الله هنا هو مصدر الشر والألم؟ إن الله –الخير المطلق- لا يريد الألم، ولا يسر به، ولكن كان هذا حصاد طبيعي/ تلقائي نتيجة الشر والظلم، ولعل هذا ما يتشابه إلى حد كبير مع ما جاء في (عاموس 3: 6): «هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَالرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟»، ففي نبوتي حبقوق وعاموس هناك ظلم وشر سبقا ووقعا قبل كلماتهما اللاتي نطقا بها، فهناك شر يحدث بإرادة الإنسان وليس الله، لكن الله يستطيع أن يوظفه بسلطانه للخير، للأسف عندما يريد الناس أن يبرروا فشلهم في مرات، ويصبِّرُوا أنفسهم على الألم في مرات أخرى، يقولون «هذه إرادة الله»، مع أن الله بريء من كل خطأ ومن كل شر بشري، ولعل قصة يوسف أوضح دليل على ذلك، فهل ما فعلوه أخوة يوسف كان بإرادة الله، أي: كان الله يريده؟! حاشا، فهو كلي الصلاح، لكن سمح لهم، احترامًا لحريتهم المسئولة، لكنه استطاع أن يوظف كل الخيوط في الأحداث، الخشنة والحريرية، السوداء والبيضاء لينسج بها قطعة نسيج بديعة الجمال، قال عنها يوسف: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تكوين 50: 20)، يقول د/ ماهر صموئيل: «ليس كل ما يحدث بإرادة الله، لكن كل ما يحدث تحت سلطان الله.».

كل هذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الله هو سيد التاريخ، في المجلد الأول من «أسس الدين المسيحي»، وتحديدًا في الفقرة الرابعة والتي تحت عنوان «طبيعة العناية»، من الفصل السادس عشر من الكتاب الأول يقول ﭼون كالڤن: «إذًا، ليَعِ قرائي بادئ ذي بدء، أن العناية لا تعني أن الله يراقب خاملاً من السماء ما يجري على الأرض، بل قابض على المفاتيح يتحكم في كل الأحداث. لذا، فالأمر يمتّ إلى يديه بقدر ما يمتّ إلى عينيه.»، كل هذه الحقائق تعطي النفس ارتواء وسط صحراء شمسها مُحرِقَة، ورمالها مُغرِقة، ليلها دامس، وبردها قارس!

د. القس مدحت موريس

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
نائب رئيس مجلس الإعلام والنشر في سنودس النيل الإنجيلي
رئيس لجنة الإعلام والنشر في مجمع المنيا
كاتب وله عدد من المؤلفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى