آية في قرينتهادراساتدراسات كتابية

كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام

الهدى 1234                                                                                                             أغسطس 2021

عندما أرسل يسوع تلاميذه السبعين للخدمة والكرازة بملكوت الله، أوصاهم قائلًا: «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ.» (متى 10: 16). أراد بتعبيره المجازي هذا، أن يطلب من تلاميذه التحلّي بصفتين أساسيتَيْن، هما: «الحكمة والبساطة». عندما نذكر الحيّة، فأول ما يتبادر إلى ذهننا حيّة السقوط، التي أغوت حواء وآدم، فسقطا في الخطيّة. وهذا قد يكون قولا صادما للبعض أن يقارننا المسيح بالحيّة.
لكن لم يقصد المسيح بهذه المقارنة، المعنى السلبي للحيّة، أي إغواء وخداع الناس، بل هناك سمة إيجابيّة للحيّة، ألا وهي الحكمة والدهاء. يصف كاتب سفر التكوين الحيّة بقوله «وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ ..» (تكوين 3: 1). فمن صفات الحيّة «الحيلة» أي الأسلوب الذكي والحكيم الذي يتمثل، في قدرتها البالغة على سرعة الهروب وتجنُّب الأخطار وعدم الوقوع في الأشراك التي ينصبها لها الإنسان. وقد اتخذ المصريون القدماء الحيّة رمزاً للحكمة. وهكذا على الإنسان المسيحي الوديع والمسالم والمضحي الذي يرسله المسيح للشهادة، أن يكون كالحيّة بحكمته البالغة وذكائه الكبير ليدرك كيفيّة التصرف ويتجنب الأخطار والانزلاقات والانخداع والوقوع في الأشراك التي ينصبها له بعض ذئاب المجتمع. على المسيحي أن يكون حكيماً وحذراً في كل كلمة يقولها، وكل موقف يتخذه، وكل تصرف يتصرفه، حتى لا يسقط في فخاخ بعض المضلِّلين ويصير عثرة في طريق الإيمان ويسيء للمسيح، بل يحافظ على شهادته بأمانة وإخلاص، فتفوح منه رائحة المسيح الذكيّة في كل مكان يتواجد فيه. أيضاً من سمات الحكمة، القدرة على التمييز بين ما هو صالح وما هو طالح، بين ما يبني وما يهدم، بين ما يثير الشقاقات وما يؤدي إلى السلام. وحتى التمييز بين من هو بالحقيقة حمل ومن هو بالحقيقة ذئب.
كما حذر المسيح تلاميذه من الأنبياء الكذبة قائلًا لهم: «اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!» (متى 7: 15). فالحكمة والقدرة على التمييز هي من أكثر الهبات السماويّة التي نحتاجها كمسيحيين نعيش في مجتمع تكثر فيه العدائيّة والسلبيّة.
لقد أدرك الرسول بولس أهميّة أن يمتلك المؤمنون بالمسيح القدرة على التمييز، فصلى من أجل أعضاء كنيسة فيلبي حتى يغدق الله عليهم هذه الهبة السماويّة، قائلًا: «وهذا أصليه أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم حتى تميّزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده (فيلبي 1: 9-11). فالقدرة على التمييز تجعلنا حذرين من خطر تبني الأخطاء في العقيدة والحياة، فنبقى مخلصين وبلا عثرة في إيماننا بالمسيح.
وبما أن الحكمة هي الصفة الايجابيّة الوحيدة التي تمتلكها الحيّة، فهي إذًا لا تكفي للإيفاء بصفات المسيحي لكي يحقّق حياة مسيحيّة متوازنة تحقق إرادة الرب يسوع، لذلك أضاف المسيح صفة ثانيّة يجب أن ترتبط بالحكمة، هي صفة البساطة التي يتحلى بها «الحمام». فما هو المعروف عن الحمام؟
الحمام من الطيور التي يذكرها الكتاب المقدس في إشارتها إلى قيم السلام والرجاء والمصالحة. فيخبرنا سفر التكوين عن دور الحمامة الإيجابي في الإعلان عن انتهاء عهد الطوفان، طوفان الدينونة والموت، الذي أرسله الله على البشريّة بسبب تعاظم شرورهم. فيقول: فلما نقصت المياه عن وجه الأرض فتح نوح طاقة الفلك وأرسل الحمامة فرجعت إلى الفلك لأن المياه لم تنقص بشكل كافٍ بعد عن وجه الأرض، ثم بعد سبعة أيام أرسلها ثانيّة من الفلك فعادت عند المساء حاملة في فمها ورقة زيتون خضراء معلنة بدايّة حقبة جديدة من النعمة التي يميزها السلام والرجاء والمصالحة للبشريّة جمعاء (تكوين 8: 9-12).
وعندما نزل الروح القدس على المسيح أثناء المعموديّة، فقد نزل بهيئة جسميّة مثل حمامة لتعلن أن المسيح يفتتح عهداً جديداً من الرجاء والسلام والمصالحة مع الله (لوقا 3: 22). وبالتالي يربط الكتاب المقدس بين طير الحمام وسمات السلام والمصالحة والرجاء التي تكون جزءاً أساسياً في مفهوم البساطة. فالإنسان البسيط هو الذي يدعو للسلام والرجاء والمصالحة. تستخدم كلمة «بسيط» باللغة اليونانيّة الأصليّة لوصف النبيذ الصافي النظيف والنقي غير المغشوش وغير المختلط بالماء. وهكذا، فإن صفة البساطة في شخصيّة المسيحي تشير إلى أنه بالإضافة إلى كونه كالحيّة يملك الحيلة والذكاء، فهو أيضاً كالحمامة إنسان نظيف غير ملوث ونقي في نوعيّة فكره وحياته ومواقفه، يوحي بالرجاء ويعمل من أجل السلام والمصالحة بين الناس. يضيف الرسول بولس بُعداً آخر لتفسير صفتَي الحكمة والبساطة في شخصيّة المسيحي، فيقول لأعضاء كنيسة روميّة: «.. أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا حُكَمَاءَ لِلْخَيْرِ وَبُسَطَاءَ لِلشَّرِّ.» (روميّة 16: 19). وبالتالي، فهو يدعونا أن نستخدم حكمتنا من أجل عمل الخير وأن نتحلى بالبساطة والنَّقاء والمسالمة في زمن الشر.
وصف القس «مارتن لوثر كينغ»، الذي لعب دوراً بارزاً في إرساء الحقوق الإنسانيّة للعرق الأسود أميركا، شخصيّة الإنسان المسيحي قائلًا إنه يمتلك: tough mind – tender heart «ذهنًا صلبًا وقلبًا حنونًا». هذا الوصف يعبّر إلى حدٍّ بعيد عن شخصيّة المسيحي. فالإنسان المسيحي بحاجة لوجود هاتين السِّمتَيْن معاً في شخصيته. فالذهن الصَّلب وحده بدون القلب الحنون، يجعل من الإنسان المسيحي إنساناً بارداً لا يشفق ولا يرحم. والقلب الحنون وحده بدون الذهن الصَّلب، يجعل من الإنسان المسيحي إنساناً عاطفياً بدون هدف ولا رؤيّة. وقد لخَّص الرسول بولس صفات وشخصيّة المؤمنين بالمسيح وسط المجتمع الذي يعيشون فيه، فقال لأعضاء كنيسة فيلبي: «اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَد اًللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ. مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الْحَيَاةِ ..» (فيلبي 2: 14-18).
وبالتالي فإذا أعدنا ترتيب كلمات بولس هذه نرى أنها تركز على صفتي الحكمة والبساطة. فهو يقول لنا وسط هذا الجيل المعوج والملتوي، نحن أولاد الله، مدعوون لأن نتمسَّك بكلمة الحياة (الإنجيل)، وأن نكون بلا لوم (أي حكماء)، وبلا عيب (أي أنقياء وبسطاء)، لأنَّ هاتَيْن الصفتَيْن تجعلنا نضيء ونشع كأنوار في العالم.

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى