وجهة نظر

كيف نسمع الأحاديث ونشاهد الأحداث؟

الهدى 1208                                                                                                                        أبريل 2019

كتب د. محمد المخزنجي طبيب الأمراض النفسية والعصبية والكاتب والأديب المصري مقالًا في جريدة «المصري اليوم» في 19/10/2017 سأنقل بعض أجزائه بتصرف واختصار ليناسب المساحة المتاحة للنشر. يقول فيه يصف د. «أوليفر ساكس» أستاذ طب المخ والأعصاب والكاتب العلمي الأدبي الساحر الراحل حالة مريضة أشار إليها برمز «السيدة س».

والسيدة «س» امرأه ذكية في الستينات من عمرها عانت من سكتة دماغية خطيرة أثرت على جزء عميق من النصف الأيمن من كرة المخ، وبرغم احتفاظها بذكائها بعد الإصابة فإنها ظلت تشكو من أن الممرضات لم يضعن لها قطعة الحلوة الصغيرة علي صينية القهوة، وعندما كانوا يقولون لها باستغراب:- «لكن يا سيدة (س) ها هي قطعة الحلوى علي الصينية علي اليسار» تبدو كما أنها لم تفهم ما يقولونه فلا تنظر إلي اليسار، وإذا أداروا رأسها بلطف لتصبح قطعة الحلوى في مجال بصرها، أي في النصف الأيمن من حقلها البصري، تقول:- «ها هي إذن، لم تكن هنا من قبل الأن». لقد فقدت (السيدة س) كليًا فكرة اليسار فيما يتعلق بالعالم وبجسمها على حد السواء. حتى أنها كانت تشكوا أحيانًا من أن حصص الطعام قليلة جدًا وهذا لأنها لا تأكل إلا من النصف الأيمن من الطبق، ولا يخطر ببالها أن الطبق به نصف أخر (الأيسر) أيضًا. وأحيانًا تراها تضع الماكياج علي النصف الأيمن فقط من وجهها، تاركة النصف الأيسر مهملًا تمامًا دون أن تدرك وجود خطأ. لكن السيدة «س» كانت تعرف الخطأ فكريًا واستنتاجيًا لأنها احتفظت بذكائها وابتكرت طرقًا للتعامل مع حالتها لكن كلها لم تقدم حلًا كاملًا جذريًا وذلك لأن جهة اليسار كانت غائبة تمامًا عن وعيها (ليس فقط بصرها).
نشر الطبيب هذه الحالة في كتابه «الرجل الذي حسب زوجته قبعة» وبعد ثلاثين سنة من نشر كتابه هذا تم التمكن من تشخيص الحالة بأنها «متلازمة عصبية نفسية» ناتجة عن إصابة عضوية في الفص الجداري من نصف كرة المخ الأيمن –علي الأغلب- ولها أعراض وظواهر مرضية نفسية مرافقة للأعراض الجسدية. ثم يذكر د.محمد المخزنجي حاله أخري مماثلة ويصفها ثم يصل إلي التشخيص والوصف الذي ذكره الطبيب البريطاني الهندي الأصل «باريش مالهوترا» أستاذ طب الأعصاب بالكلية الملكية بلندن فيستطرد ويقول: {إن مرض عدم الإنتباه النصفي ليس فقداً لإبصار العينين وليس تدميراً لمنطقة لحاء المخ الحسية الأساسية المرتبطة بالإبصار بل هو عملية عدم إدراك لجانب من حيز وجود المريض. وهذا لا ينطبق علي مستوي العالم الملموس والمحسوس فقط بل حتي علي العالم الوجداني. فالعمي النصفي (أي العمي الإدراكي لا العمي البصري) لا يكتفي بجعل نصف العالم المحسوس منعدماً إدراكه، بل أيضاً يُغَيّب حتي الذكريات والأحلام والتخيلات المرتبطة بالجانب الغائب حسياً من وجوده ووجود العالم من حوله. فهذه المتلازمة تقول ان العطب ليس في العينين بل في المخ، في العقل وليس في منطقة إدراك الإبصار بل في منطقة توجيه البصر والإنتباه إلي ما نريد رؤيته}.
ويستكمل د.محمد المخزنجي مقاله فيقول }متلازمة غريبة مؤلمة وعسيرة العلاج، وان كان لا ييأس العلم في محاولاته لإيجاد طرق للتغلب علي مظاهرها المؤلمة نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا للمصابين بها، ولعل طرق العلاج كلها في بُعديها النفسي والجسدي تصب في مجري واحد نحو هدف مشترك إلا وهو جذب انتباه المريض نحو الجانب الذي غيبه المرض بعد إصابة الفص الجداري من نصف المخ{،اكتفي بهذا القدر من هذا المقال الطويل لعل ما سبق يكفي للانتقال إلي إجابة سؤال أثق أنه قد قفز لذهنك عزيزي القارئ، ما حاجة قارئ «مجلة الهدى» في المجتمعات الكنسية لهذه الجرعة الطبية التي قد تهم فقط المتخصصين ؟؟!! وفي محاولة للإجابة اسمح لي -وباختصار شديد- بما يلي:-
بالطبع ليس هذا استعراض لمقال أعجبني لكنه استجابة لملاحظات وأفكار تدافعت إلى ذهني أثناء قراءته مثل:
لماذا تقع عيوننا -أحيانًا كثيرة- فقط علي البقع السوداء القليلة في أثواب الأخرين دون باقي الثوب الأبيض الجميل؟؟ فنبدأ في الانتقاد والتجريح تحت لافتة التصحيح والإصلاح.
لماذا في استماعنا لاحاديث أو رؤيتنا لمشاهد في مجتمعاتنا الكنسية نقتطع منها فقط ما نريده ليحقق لنا أهدافنا ورغباتنا الأنانية في الإيذاء والإساءة والتشويه للأخرين متجاهلين المساحة الأكبر من المشهد والحديث والتي تمثل السياق العام لما نجتزئه وتقدم له المعني الصحيح الإيجابي الذي نسعي عمدًا لتجاهله؟؟!!.
لماذا كثيرًا ما نترك حياتنا نهبًا للتذمر والشكوى وأحاسيس المرارة والنظرة التشاؤمية الدائمة بسبب رؤيتنا الناقصة عن قصد وعمد فقط لنحقق ما يُشبع رغباتنا ولنؤكد وجهات نظرنا الخاطئة؟؟!!
وأخيرًا عزيزي القارئ وكما رأينا في نهاية المقال أن كل طرق العلاج «تصب في هدف واحد وهو جذب انتباه المريض نحو الجانب الذي غيبه المرض» وحيث ان التساؤلات السابقة لا تعبر عن إصابة هؤلاء عضويًا في الفص الجداري من نصف كرة المخ الأيمن يكون السؤال الطبيعي، ما هو مرض هؤلاء الذين يجعلهم بإرادة وقصد النظر فقط إلى جانب واحد. أعتقد أن المرض هو ان كل واحد ينظر لما هو لنفسه فقط وبالتالي يكون العلاج الحقيقي هو ما كتبه الرسول بولس لكنيسة فيلبي كما جاء في رسالته إلى الكنيسة الإصحاح الثاني والأعداد 2-4. ولإرشادهم لحسن الفهم وصحة التطبيق يقدم في الأعداد 5-11 النموذج الأمثل «فكر المسيح يسوع».
ختامًا التمس عزيزي القارئ منك قراءة بل دراسة النصوص الكتابية السابقة لتملك مبكرًا الوقاية من هذا المرض.

القس محسن منير

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية الراعي الأسبق للكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط الأمين العام الأسبق لمجلس المؤسسات التعليمية في سنودس النيل باحث وكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى