الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
كان جالسًا يتكئُ إلى جذع الشجرة المتينة، يعزف بقيثارته الرّقيقة. تضافرت النّغمات في تلك اللّيلة الهادئة المليئة بالنّجوم، فإذا بلحنٍ يخرج منها منسوجًا بخرير مياه النّهر الذي بجانبه. لسعه البرد قليلًا، ولكن مُتعته بالأمر كانت بديهيّة، إذ اختلط البرد بالنيران المتقدة أمامه التي سارعته بملاذ الدفء وسط البرودة. لم يبق إلَّا شيء واحد، تُرى ما هو؟ ظلّ يعزف ويعزف حتى قارب المشهد على الاكتمال، ثم أضاف حفيف الأشجار اللّمسة الأخيرة للمشهد مُكمِّلا الصُّورة.
علا صوت الحفيف حتى بدا مزعجًا مقاطعًا تلك اللّحظة النّاعمة. التفت الرّجل خلفه، ولكنّه لم يجد شيئًا. عاد مرةً أخرى إلى عالمه، ولكن يبدو أن صوت الحفيف لم يحترم خصوصيته، فإذ به يعلو أكثر حتى بدأت الأغصان تتساقط من شدة اهتزازها. وفي لحظة خاطفة، خرج من خلفها ثلاثة لصوص. انتفض من مكانه أمامهم وهم يحاوطوه وفي أيدي اثنين منهم سكاكين أمّا الثالث فكان يحمل عصا غليظة. ظلَّوا يتحركون هنا وهناك في حركة دائريّة فوضويّة، حتى اختلط الرّعب بدمائه، فإذ به يصرخ مستغيثًا. ظلَّ يصرخ أكثر وأكثر، حتى حمل الهواء البارد صوت رغاء ناقة من بعيد، فأشار أحد اللّصوص لرفيقيه، فذهب أحدهم ليكمِّم فمّ الشّاب العازف بيده القذرة، بينما ذهب الآخر ليتفقد صوت النّاقة. ظلَّ الصوت يقترب أكثر وأكثر حتى هتف مراقب النّاقة من بعيد: «إنهم كثيرون!»
وكان آخر صوت سمعه هو ارتطام عصا برأسه أسقطته فاقد الوعيّ.
خاف الرّجل الذي أشار لرفيقيه فقفز إلى جانب رفيقه الذي يكمِّم الشاب، شاهرًا خنجره على رقبته في انتظار ظهور ذاك الذي ضرب رفيقه الأوّل. صعد من وسط الزروع رجل عجوز في يده عصاة وفي الأخرى حبل يربط به ناقته، تلك التي يبدو أن عمرها ليس أقل من عمر صاحبها، فصرخ الرجل المُراقِب: «لماذا أسمع صوت أكثر من ناقة؟»
فإذ هو ساقط على الأرض إثر ضربة واتته من خلفه على رأسه هو الآخر.
ظهر من خلفه عجوز آخر ملابسه تشبه الأوّل، حتى لحيته قد تكون طبق الأصل من لحية رفيقه. ولكن ناقته خذلت ذلك التّشابه. لم يبق سوى اللّص الأخير الذي يكمِّم الشّاب العازف، المتفرِّج كما لو أن هذين العجوزين ملائكة هبطت من السّماء لإنقاذه. التفت اللّص الثّالث مذعورًا، تاركًا الشاب ودافعًا إيَّاه إلى العجوزين، شاهرًا أمامه خنجره الصّغير. ثم صرخ اللّص بالسؤال ثالثًا: «ما زال هناك أكثر من ناقـ…»
لم يكمل سؤاله، إذ تكوَّم جسده حالًا فوق صاحبه، إثر ظهور رجل بالغ وناقته، ولكنّه أصغر سنًا من رفيقيه السّابقين.
بالكاد التقط الشاب أنفاسه أخيرًا، ثم شكر الرّجال الثلاثة، وطلب استضافتهم في كوخه الصغير. نظر الثلاثة نظرة فاحصة إلى السّماء ثم قال أحدهم: «يبدو أنها ستمطر.»
قال الشّاب متعجبًا: «كيف تمطر والسّماء صافية هكذا؟»
ردَّ الرجل الثّاني: «يبدو أن الغيمة على وشك الظهور.»
لاحقه الشاب: «كيف تعرفون هذه الأمور؟»
أجابه الرجل الثّالث، الذي مازال يتفحصّ السماء: «ولماذا لا نعرف؟ إنه عملنا. يبدو أنه لا مفرّ من قبول دعوتك أيها الشّاب، لا نستطيع أن نكمل رحلتنا في هذا الجوّ.»
جرَّ الثلاثة نوقهم متحركين مع الشّاب الذي ما زال مندهشًا مما يُقال، نظر إليهم وكأنه في متحف تماثيل بشريّة متحرِّكة. اقترب أحدهم منه وأمسك يد الشّاب.
سار الاثنين معًا في تلك الليلة التي تلألأت فيها النّجوم الغارقة في اللّيل الهادئ، فإذ بعينيّ الشّاب تلمح السّماء المرسومة بتلك المصابيح البديعة منتظرًا تحقق نبوءتهم. خرج صّوت من أفواه الرجال الثلاثة، فإذ بهم يدندنون لحنًا غريبًا أثناء سيرهم، قطع الدندنة أحدهم سائلًا الشّاب على خلفية اللّحن في فم الباقيَيْنِ: «قل لي يا هذا، لماذا كنت تجلس في هذه المنطقة الخطرة في ذلك الوقت؟»
ردَّ الشّاب الذي مازال مأخوذًا: «الخلوة.»
تعجَّب العجوز: «عفوًا، أعتقد أنني لم أفهم مقصدك.»
بدا على وجه الشّاب الارتياح، وأردف: «لقد كنت في خلوة بيني وبين الله، فاخترت هذا المكان لأنه يشعرني أن الله يتلامس معي.»
«ولكن هذا المكان خطر.» ردّ العجوز من فوره.
أجاب الشّاب: «لا أكترث كثيرًا للخطر، فالله يرعاني. هذا إيماني، وهذا ما حدث بالفعل، لقد أرسلكم الله لحمايتي.»
قال العجوز: «يبدو لي أن هذا ليس إيمانًا، أعتقد أنك تجرِّب الله.»
عاجله الشّاب بالرَّد: «ماذا تقول؟ بل إنّه حتمًا الإيمان والثّقة في الرّب.»
علا صوت دندنة العجوزين الآخرين ثم توقَّف العجوز المصاحب الشّاب، وأفلت يده من يد الشّاب، قائلًا: «بالفعل، كان يمكن أن نعبر من أي مكان آخر، ولكن حتى وإن كانت إرادة الرب إنقاذك من خلالنا، فما ذاك إلَّا إحسان رغم الحماقة!»
تعجَّب الشّاب من جرأة العجوز، وقال: «أعتقد أنك تنعتني بالأحمق!»
لاحقه العجوز: «هذا بديهي، لا تعوِّل على نفسك كثيرًا. كان عليك الانتباه أن الرّب وضع العقل أيضًا في داخلنا.»
الشّاب: «حسنا، حدثني عن منطقك وسأحدثك عن إيماني.»
العجوز: «تتحدث وكأنهما منفصلين!»
الشّاب: «يبدو لي هذا، فالإيمان ضدّ العقل.»
العجوز: «ما دليلك؟»
الشّاب: «أعتقد أن العقل لا يتخطى المحسوس، أو البرهان بعملياته الحسابيّة، أما الإيمان فهو إلغاء العقل والسموّ فوقه بالإيمان.»
العجوز: «يبدو وكأنك تقول لي ارم نفسك من أعلى قمة هذا الجبل هناك، دون وعيّ بنتيجة السّقوط. حسنًا إنني لا أتفق معك.»
اشتدَّ هبوب الرّياح الباردة عليهم، حتى اختلط صوت الرّعد برغاء النّاقات الثلاث التي كانت تصرخ آنذاك من قسوة الرّيح، حتى صوت الدندنة ابتُلِع في صوت الطبيعة. حاولا الاختباء في إحدى الكهوف في طريقهم، ولكن كان من الصعب إدخال ركائبهم إليها، فإذ بكلمات الشّاب تخرج في ضجر مُعاند للرّيح: «كفى دندنةً، لا تقلقوا، لم يتبق كثير حتى نصل المنزل.»
ردّ أحد العجائز الثلاثة: «أين كان عقلك وأنت تبتعد عن منزلك كل هذه المسافة في هذا التوقيت؟»
لاحقه الشاب، قائلًا من خلف عباءته التي غطَّى بها وجهه: «يبدو لي أن عقلي هذا الذي تسخر منه، هو من لاقاكم حتى يجد لكم مأوى لتلك اللّيلة!»
فردّ العجوز في سخرية: «أصِبت، فالله يستخدم حتى الحماقة في تتميم مشيئته.»
غيَّمت سحابة فوقهم ثم بدأت تندفق المياه على رؤوسهم، يبدو أنها ليلة حظهم!
«هيا أيها الفنانون أسرعوا بالدخول، لقد وصلنا.» هكذا صاح الشّاب من بعيد في العجوزين.
دخل الشّاب الكوخ الصغير مضيفًا العجائز الثلاثة بعد أن أدخلوا نوقهم إلى الحظيرة المجاورة. أوقد الشّاب المدفأة فشق اللّون النّحاسيّ عتمة الكوخ. بدأ في إعداد الطّعام، ثم وضع قدر الحساء في النيران، فإذ بالعجوز الأوّل -بعد أن حاول تجفيف وجهه ويده- يلتقط قيثارة الشّاب ويبدأ عزف لحنه الذي اختلط ولون النيران الدافئ. اندهش الشّاب من أصابع العجوز الذّهبية، التي تتحرك في رشاقة ملحوظة على القيثارة. تلك الأصابع التي تبدو وكأنها أصغر سنًا من صاحبها. تمايل العجوزان الآخران برأسهما يمينًا ويسارًا على نغمات اللّحن، يبدو أنّه لحنهما الخاص، الذي لا يعرفه سواهم. اهتزَّ الغطاء فوق قدر الحساء، مُشيرًا إلى نضوج الطّعام. فوضعه الشّاب على المنضدة القديمة، ثم جلس الجميع يأكلون الطّعام الطيّب.
سأله الشّاب: «إذًا، بما تصف الإيمان؟»
سكت العجوزان المدندنان، مُفسحَيْن المجال للحديث، وردَّ العازف: «قبل الإجابة على سؤالك، عليّ أن أعترف أنك طاهٍ ماهر، كما عليّ أن أسألك مَا مصدر العقل؟»
ردَّ الشّاب من فوره: «الرّبُّ.»
قال العجوز: «وماذا عن مصدر الإيمان؟»
فأردف الشّاب: «أعتقد أنّه الرّب أيضًا.»
ابتسم العجوز، وقال: «إذا كان هناك تناقض بين الاثنين، فحتمًا هناك تناقض في المصدر ذاته.»
قفز الشاب رادً: «حاشا!»
عاود العجوزان الدندنة مرة أخرى، ثم رد العجوز: «بالصواب أجبت. ليسا متناقضين، ولكن ماذا أعني بقولي أن الإيمان فوق العقل وليس ضدّه. تخيل يا صديقي الشّاب ونحن جالسون في هذا الكوخ في دفء موجات الهواء التي تنبع من مدفأتك الصغيرة هذه، إذا قلت لك أن هناك زرافة اقتحمت هذا المكان الآن هل ستصدقني؟»
ردَّ الشاب: «بالطبع لا.»
فألحّ عليه العجوز بالسّؤال: «إذا كان سقف هذا الكوخ الفقير مرتفع أكثر من هذا، هل هناك استحالة منطقيّة في وجود زرافة الآن في هذا الكوخ؟»
فردّ الشاب: «بالطبع لا.»
أكمل العجوز: «ولكنّه مع ذلك يبقى من غير المعقول. هناك فرق بين اللامنطقيّ واللامعقول.»
حكَّ الشّاب رأسه، فاستطرد العجوز: «اسمعني جيدًا يا صديقي الصّغير، إنّ اللامنطقي يعني -كما قال آرسطو- أنّه لا يوجد شيء وعكسه في الوقت ذاته والعلاقة نفسها. لا يمكن أن أقول أنّ هناك مربعًا مستديرًا، أو أقول أنّ العزبَ متزوجٌ، أو أنني ابن أبي وأبوه في الوقت ذاته! قد أكون أبًا لابنٍ، وابنًا لأبٍ، ولكن يستحيل أن أكون في العلاقتين ذاتهما مع الشخص ذاته في الوقت ذاته.»
ردّ الشاب: «وماذا عن اللامعقول؟»
استطرد العجوز مع دندنة صاحبيه: «اللامعقول ليس شيئًا ضدّ العقل، ولكنه فوق العقل. فمثلًا لو قلت أن رئيس البلاد الملك أغسطس قيصر قرَّر استيراد بعض الزرافات من الغابات الكائنة على أطراف بلاد الشّرق، وأثناء نقلهم برِيَّا وعند اقترابهم من النّهر في الخارج، هربت الزرافات ودخلت إحداها المدينة. عندها إذا قلت لك أن هناك زرافة اقتحمت جلستنا هذه، هل ستصدق؟»
ابتسم الشاب: «بالطّبع.»
«هل تعلم لماذا؟» سأل العجوز.
ردّ الشّاب: «لأنني أدركت القصّة.»
توقَّف العجوز الثّاني عن الدندنة وترك اللّحن للأول والثّالث، ثم ربت على كتفه قائلًا: «بالضبط.»
عندها توقَّف الثّالث عن الدندنة، وسلَّم الرّاية للثّاني والأوّل، وقال: «لقد أدركت القصّة حول الأمر، لقد أدركت معلومات أكثر عن اللامعقول، فاكتملت المعلومات واتّضحت الصورة، فأصبح اللامعقول معقولًا.»
ردّ الشاب: «ولكن أعتقد أن هناك شيء مشترك بين اللامعقول واللامنطقيّ، وهو الجهل.»
ردّ الأول: «بالطبع، ولكن مع اختلاف المنهجيّة، فجهلي بالشيء اللامعقول يدلّ على أن هذا الشيء يمكن فهمه إذا توافرت به المعلومات اللّازمة، أمّا اللامنطقيّ فلا يُفهم، لا لأنّه يحتاج إلى معلومات لازمة، بل لأنّه شيئًا لا يُفهم من الأصل. الرّب هو خالق المنطق، وبالتّالي هو إله منطقيّ، قد يكون غير معقولٍ، ولكنه ليس غير منطقيٍّ.»
«هل يمكن التوقف عن الدندنة وإخباري بحدث فعلي يوضح الأمر؟» قال الشّاب.
توقَّف الجميع عن الدندنة وأخذوا يهمهموا بينهم بلغة يبدو أنها تخصهم، ثم التفت العجوز الأوّل للشّاب قائلًا:
في ليلة الحدث، كنّا كعادتنا نُطالع النّجوم الغارقة في بحر سماء ليل الأسرار. نرى هنا وهناك، نتوق إلى إلحاح النّفس العميق، متحدين مع الصّرخة المدوِّية لإحتياج البشرية الأعظم «أين المخلِّص؟» نريد إنقاذًا من فسادنا، من أساطيرنا اللاهية، الباحثة عن سدّ احتياج الهوَّة الفارغة بداخلنا. نحن علماء فَلك الشّرق في هذا العصر، عندنا في بلاد فارس وثائق قديمة وسجلات من السّبي البابليّ لليهود كدانيال وحزقيال الذين ذكروا فيها وصفًا للمسيّا المنتظر، وها هي النبوءات تتحقق. إنّ حركة النّجوم لها دورات تزامنيّة بمعدلات ثابتة، كما تعطي بعض الإشارات التي يمكن من خلالها التّكهُن ببعض الأحداث المستقبليّة. في تلك الليلة رأينا نجما ساطعًا يُعلن عن حدث مستقبليٍّ مجيدٍ.
لقد استخدمه الرّبّ في السّماء، باعتباره لغتنا العقليّة ليقودنا إلى حدثٍ فوق العقلِ، وبالفعل ما رأيناه لم يكن معقولًا. حثّنا الشّغف الممزوج بالإلحاح الوجودي العميق إلى التّعلّق بنجمنا، ليرسوا بنا على شاطئ هذا المولود العجيب. لقد التقى المحدود واللامحدود، اتحدَّ الطبيعيّ مع الذي فوق الطبيعيّ في انسجام متناغم يعزف أرقى الألحان على الطّريق بين العقل والإيمان.
تتبَّعنا عقلنا حتى وصلنا فرأينا تلك المعجزة. إنّه طفل صغير، ليس نصف إله، ولا نصف إنسان كأساطير اليونان، لكنّه إنسانًا كاملًا، وإلهًا كاملًا، جاء في ملء الزّمان. يا له من حدث غير معقولٍ، لقد تقابل الماديّ والرّوحيّ في تلك الظاهرة العجيبة، ظاهرة التّجسّد. كنَّا سائرين في الطريق نحن ونوقنا على موجة أمل الوصول، وعندما وصلنا حسبنا شاطئه قصرًا، قبل أن تدهس أقدامنا طين بيتٍ فقيرٍ. لقد حملتنا المعرفة على أجنحة العقل، مُحلّقةً بنا في سماء مهنتنا الفلكيّة، ثم ألقتنا عند الباب. هذا أقصى ما يمكن أن يدركه العقل، الوقوف عند الباب، ولكن الدّخول من الباب حتمًا يحتاج لخطوة إيمان. لذلك قفزت الهدايا من أيدينا لنُقدِّمها، ولكن السّجود كان أعظم ما قدَّمنا. كان هذا الحدث هو نقطة تحوُّل في حياتنا، جعلتنا ننسج بقلوبنا قبل أيدينا لحننا البهيج.
قال العجوز كلماته الأخيرة ثم بدأ الجميع يدندنون لحنهم الخاصّ.