لماذا الصليب؟
الهدى 1208 أبريل 2019
لقد عرف التاريخ الصليب كأداة تعذيب وإعدام، حيث كان في الحضارات القديمة يُعتبر الصليب أداة إعدام، وأن الإنسان المصلوب لابد وأنه قد أذنب ذنباً لا يستحق لأجله الحياة، ولا مفر من إعدامه، فالمصلوب قديماً ملعوناً، من الله والبشر.
وقد عرف اليهود قديماً عقوبة إعدام المذنب بتعليقه على خشبه، وسجل لنا العهد القديم هذا الفكر قائلاً: «وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ» (تثنية 21: 22-23).
وعرف الرومان أيضًا الصليب كوسيلة تعذيب وإعدام، إذ كانوا يعدمون المذنبين العبيد فقط بالموت صلباً، لأن الروماني لا يُصلب، فهو أرقى وأشرف من أن يُصلب حتى لو كان مجرماً، لقد كانت كلمة الصليب قبل أن يأتي المسيح لعالمنا ويموت مصلوباً لأجلنا، لا تعني إلا أداة تعذيب وإعدام.
إذاً فإن «كلمة الصليب» في ذاتها تستحضر للذاكرة الإنسانية مشاهد الموت والقتل، وهذا ما كانت تعنيه كلمة الصليب عند اليهود واليونانيين، لذلك فإنَّ الرسول بولس لم يكن يقصد بكلماته هذه «صليب من خشب» أيًا كان نوع الخشب المستخدم في صنعه، ولم تكن كلمة الصليب بهذا المعنى لتصبح عثرة لليهود، أو اليونانيين.
وهنا يأتي السؤال: ما الذي كان يقصده بولس بقوله: «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ»؛ هل كان يقصد الصليب الخشب؟ أم كـان يقصد المسيح المصلوب؟ وما هو القصـد بقوله: أن كلمة الصليب.. قوة الله؟!
من الواضح والطبيعي أن الرسول بولس لم يكن يقصد خشبة الصليب، لكن قصده الأساسي بقوله «كلمة الصليب»، «شخص المصلوب ذاته»، «رسالة الصليب»، إنه شخص المسيح المصلوب الذي عُلق على خشبة، وآمن به تلاميذه، ونادوا بأنه هو المسيح المنتظر، الذي جاء ليخلص البشرية من خطيتها ويفتح طريقاً للخاطئ ليعود لله، كانت هذه الرسالة هي العثرة أمام أفكار اليهود، وأذهان وعلم وحكمة اليونانيين.
كما أن كلمة «قوة» تأتي في اللغة اليونانية من الأصل «ديناموس» والتي تأتي منها كلمة «دينامو» ومن المعروف أن الدينامو هو مولد الطاقة، والصليب بهذا المعنى هو مصدر ومولد الطاقة لحياتنا المسيحية.
كذلك كلمـة «ديناموس» اليونانيـة والتي تُترجم قــوة، هي ذات الكلمة التي تأتي منها كلمـة «ديناميت»؛ وجميعنا يعرف ما للديناميت من قوة، وهنا يستخدم الرسول بولس، ذات الكلمة اليونانية «ديناموس»، فيقول: «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ»، فالصليب قوة للخلاص من الخطية وأثارها وفي ذات الوقت مولد للطاقة وحافز للاستمرار والنمو في الحياة المسيحية.
وفي الصليب قوة الله التي أظهرها لنا شخص المصلوب، نرى قوة الله المخلِّصة، المُغيرة، فقد سامحنا بجميع خطايانا، هذا ما يؤكده لنا بولس حينما يقول: «وَإِذْ كُنْتُمْ امْوَاتاً فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، احْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَـايَــا» (كولوسي 2: 13، 14)، ووهب لنا الحياة الأبدية، لأنه: «كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ» (رومية 5: 18)؛ محا الصك الذي كان علينا: «إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ» (كولوسي 2: 14). كما أنَّه في الصليب صالحنا مع الله: «وَأَنْ يُصَـالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِـلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي 1: 20)، لأن «اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 19).
ليتنا ونحن نفكر في المسيح المصلوب، أن نترنم مع بولس الذي اكتشف قوة الله المعلنة في الصليب، فلا نعد نرى في المصلوب، أو الصليب الهزيمة والضعف، وننساق وراء المنطق البشري للقوة، بل لنرى في الصليب قوة الله، القوة المخلِّصة، القوة المانحة لنا حياة، القوة الدافعة لنا بأن نحيا القداسة التي تُرضي الله، القوة الرافعة لنا فوق الأزمات والضيقات، وأننا مع المسيح المصلوب ننضم لجيش الغالبين، المنتصرين، في كل مكان زمان.