مفاعيل القيامة
الهدى 1249 مايو ويونيو 2023
القيامة نقطة تحول وانطلاقة، وهي التي ميَّزت المسيحيَّة، بل هي حجر الزاوية في الإيمان المسيحيّ، من خلالها قد فهمنا التجسد، والآلام، والصلب، والموت، والقيامة، والصعود، بل هي محور رسالة الإنجيل: «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ.» (1كو 15: 1-4).
وبالتالي لو لم تكن قيامة-كما ناقش هذا الأمر الرسول بولس-فنعيش في حياة البطلان من ناحية الإيمان، والكرازة، والشهادة. يقول الرسول بولس: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ.» (1كو 15: 14-15)
كان الإعلان الواضح والقوي حسب الأناجيل: «لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ: وعلامة ذلك هو القبر الفارغ «هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ.» (مت 28: 6). وعبَّر الرسول بولس عن ارتباطنا بهذا الحدث: «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفس 2: 6). وهكذا أصبحت أنشودة القيامة: «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ» (لو 24: 34) وعندما قام أقامنا معه «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ»(أف 2: 6). وهذا دليل على الموقف السامي الفريد الذي نلناه من خلال القيامة.
والسؤال الذي نتعرض له أقامنا مِنْ ماذا؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد للعودة إلى الجماعة البشريّة الأولى التي تقابلت مع المسيح المقام التي سيطر عليها الخوف والحزن والعزلة والخطية، فنجد أنَّ القيامة كحدث روحيّ وتاريخيّ قد كانت ومازالت نقطة تحول وانطلاقة بناء على ما ورد في (مت 28: 1-20؛ يو 20: 1-3). لأنَّها: أقامتنا من الخوف، أقامتنا من الحزن، أقامتنا من العزلة، أقامتنا من الخطية.
أولًا: أقامتنا من الخوف إلى السلام والطمأنينة
كان البشير يوحنا أكثر دقة في وصفه لحال الجماعة البشرية الأولى التي كانت مجتمعة في العلية حيث قال: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ لَهُمْ: «سلاَمٌ لَكُمْ». (يو 20: 19) تعامل المسيح المقام مع هذه الحالة القلقة والمضطربة بتحية رائعة قائلا لهم «سلاَمٌ لَكُمْ» في القيامة أنتشل المسيح البشرية من الخوف، والحيرة، والارتباك. وأدركت البشرية وتذوقت قيمة السلام لأنَّها عاشت محنة الخوف. المسيح الذي وعد بالسلام من قبل «سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.» (يو 14: 27) حقّقه في صورة عملية ملموسة بعد القيامة. وعبَّر عنه الرسول بولس بالقول:» فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (رو 5: 1)، وأعطى لنا الرب يسوع إمكانية صناعة السلام «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ.» (مت 5: 9).
في كل تعاليم المسيح قبل الصليب حاول أن يطمئن سامعيه وتابعيه بأن لا يخافوا، وقد تكلم رسول المحبة عن هذا قائلًا: «لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ.» (1يو 4: 18). في وسط الخوف الله يمنح السلام، والخوف أمر طبيعي وبعضه إيجابي، ولكن حين يتحول الخوف إلى مرض نحتاج إلى «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.» (في 4: 7). نحن نحتاج إلى سلام الله وسط المرض، والألم، والمحن، والفراق ومازال صوت المسيح وكلماته تلمع أمام عيوننا» فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا» (يوحنا 6: 20). «سلاَمٌ لَكُمْ» (يو 20: 19). «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي.» (يو 14: 1)
ثانيًا: أقامتنا من الحزن إلى الفرح والتعزية
القيامة غيرت كل توقعات التلاميذ، وأصبح لديهم أملًا جديدًا، وحياةً جديدةً، وفكرًا جديدًا، فعندما يكون المسيح في الوسط يصبح مصدر التعزية والفرح الحقيقي «فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ.» (يو 20: 20). وهذا ليس جديدًا على المسيح فهو يدعو الناس على الفرح والسعادة، وأولى الكلمات التي علم بها هي «طوبى» وفي طريقه إلى أورشليم طالب بنات أورشليم ألا يبكين قائلًا: « فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ» (لو 23: 28)، وعندما تقابل مع مريم قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ (يو 20: 13).
البكاء والحزن يحني النفس، فعندما كانت مريم تبكي كانت تنظر إلى أسفل، المشاعر البشرية والعواطف أمر طبيعي ولكن عندما تتملكنا فهي قادرة على أن تقتل فينا أي شعاع أمل أو رجاء. لقد حول المسيح مشاعر الألم والحزن التي كانت عند التلاميذ إلى فرح وتعزية، وكأن الأسئلة التي كانت في إرميا: فَمَنْ يُشْفِقُ عَلَيْكِ يَا أُورُشَلِيمُ؟ وَمَنْ يُعَزِّيكِ؟ وَمَنْ يَمِيلُ لِيَسْأَلَ عَنْ سَلاَمَتِكِ؟ (إر 15: 5)
جاءت الإجابة في المسيح، فقد حقَّقها المسيح في حياته، وبعد قيامته، ومن خلال حضوره الروحي أيضًا في الكنيسة. لقد حقَّق المسيح هذه الأمنيات والتساؤلات المسيح يفتقد تلاميذه، يسأل عنهم، يعزيهم، وهذا ما حدث في العلية مع الجماعة البشرية الأولى لقد كان اختبارهم هو «فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ.» (يو 20: 20). «لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (1 كو 5: 7).
ثالثًا: أقامنا من العزلة إلى الإرسالية
اجتمع التلاميذ في «علية» مكان معزول من الناحية المكانية، والنفسية. ليس هذا هو مكان التلاميذ، ولكن مكانهم الحقيقي في الانطلاقة بالإرسالية إلى كل العالم. وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا (مر 16: 15). كان تكليف المسيح للكنيسة: «لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ.» (أع 1: 8). وذلك تحقيقًا لتكليف الكنيسة بعد القيامة «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: «سَلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا.» (يو 20: 21).
هناك فرق بين الوجود في علية وبين الانتشار بإعلان رسالة الإنجيل في كل أورشليم واليهودية والسامرة وحتى أقصى الأرض. القيامة أخرجت التلاميذ من عزلتهم، وتقوقعهم حول ذاتهم، إلى الكرازة والشهادة الحقيقية داخل المجتمع.
رابعًا: أقامتنا من الخطية إلى التبرير
يقول الرسول بولس عن عمل المسيح من خلال القيامة: «الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا، وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا.» (رو 4: 25). ويقول أيضًا: «فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ وَأَنَّهُ دُفِنَ وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ» (1كو 15: 3-4). قام المسيح ليعطي لنا النصرة على الخطية، ويمنحنا إمكانية الانتصار على الشر، وهو الشفيع الوحيد لنا. ويصبح الرجاء الموضوع أمامنا والثقة التي لنا: «يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا.» (يو 2: 1-2).
والأنشودة التي نتغنى بها في ضوء القيامة: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1بط 1: 3-4).
وتبقى القيامة هي معجزة المعجزات للتغير والإيمان: «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ (القيامة) فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.» (يو 20: 20).
قيامة المسيح ما زالت هي نقطة الانطلاقة الحقيقية فهي ليست مجرد حادثة تاريخيّة وحسب، لكنها اختبار روحيّ متجدّد في حياة الكنيسة. وهكذا تمنحنا قيامة المسيح الفرح، والسلام، والتعزية، والتبرير، والنصرة.