مِيلاَد الْمَسِيح: دعوة للحديث عن هُوية الله!
الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
“إنَّ الحديث عن ميلاد/تجسّد المسيح هو دعوة للحديث عن ذات الله، فالتجسّد في المقام الأول دعوة إلى معرفة الله الثّالوث (الآب والابن والروح القدس) والشّركة معه.”
لماذا تجسّد الله؟ في الاحتفال بميلاد المسيح اعتدّنا البحث عن إجابة هذا التساؤل من خلال قصص الميلاد وحديث التجسّد. وشغل هذا السؤال كثيرين عبر التّاريخ وتعددّت الإجابات والنّظريات المختلفة عن هذا التساؤل! وفي جوهرها تعلقت أكثر بالجانب الإنساني، وكانت الإجابات الغالبة تتجه إلى أربع أهداف: استكمال الخلق، الفداء، النموذج، المعايشة. الأمر الأول: استكمال الخلق. فيرى البعض أنَّ ميلاد المسيح هو نتيجة طبيعيّة لفكرة استكمال الخلق، فتجسّد الله كتتمّيم لما خلقه، فالتجسّد في فكر الله منذ البدء. الأمر الثّاني: الفداء. هو احتياج الإنسان إلى الخلاص من الخطيّة، فكان تجسّد الله هو الحل الوحيد لمشكلة الخطيّة واسترداد البشريّة السّاقطة، وتتنوع النّظريات في مفهوم الفداء. الأمر الثالث: النّموذج. ففي ميلاد المسيح واتحاده بالإنسان قدّم للإنسانية النّموذج لإنسان الله، كيفَ ينبغي أنّ يحيا الإنسان في ملكوت الله. الأمر الرابع: هو المعايشة. فتجسد الله، واختباره لما يختبره الإنسان من تجارب وألم، وكيفَ ينتصر، وكيفَ يعيش كان هدف مهم للتجسّد. فشارك الله الإنسان في إنسانيته، وبالتالي شارك الإنسان في انتصار الله. ويغلب على بعض هذه الأسباب الميل البشريّ، وكأن كل التجسّد في طرف واحد دون الآخر. ولكن المنظور الأعمق للتجسّد نجد فيه الله ذاته، وهنا نسأل: هل كان الله يحتاج للتجسّد؟ هل يحتاج الإنسان إلى أن يتجسّد الله من أجل الله؟ وكلمة الاحتياج هنا لا تعني ضعف أو نقص ما لدى الله، حاشا! بل تعني أن الله ما زال يريد أن يخبرنا شيئًا ما عنه وهو كان في فكره منذ البدء، وينبغي أن يخبرنا إياه، وتعني أن الإنسان ما زال يحتاج من الله أنّ يخبره شيئًا ما عنه. فالإنسان ينقصه شيء عن ذات الله، والله ما زال يريد أنّ يخبر الإنسان هذا الأمر الأخير عنه. وهذا الشيء سيؤثر على علاقة الإنسان بالله. ومثال لهذا فكرة الوحي: فتدرج الإعلان الإلهيّ، يخبرنا إنَّ الله ما زال يريد أن يقول شيئًا ما عن ذاته وخطته. فلو لَم يُولد المسيح لما كُنا عرفنا ذات الله بحق كما اليوم، لكان لدينا صورة غير مكتملة وغامضة أو قد تكون مغلوطة بعض الشيء عن الإله الذي نعبده! فبإمكان الإنسان عبر التاريخ أنّ يستنتج ويصيغ صورة ما ترضيه مما لم يُعلن له. فعند الحديث عن التجسّد نحنُ مدعوون للحديث عن ذات الله، ووضعت أساسين لهذا المقال: الأساس الأول، الرغبة في معرفة الله، التي هي جوهر الوصايا الكتابيّة. الأساس الثاني، التجسّد هو الطريق الذي صنعه الله لنعرفه عن قرب.
أوّلًا: الرغبة في معرفة الله
إنَّ الرغبة في المعرفة وُضعت في قلب الإنسان من الله منذ البدء، ونراها تتجذر في سفر التكوين من بداية الخلق. رغبة الإنسان في معرفة الخليقة ومعرفة ذاته ومعرفة الله! فلم يرفض الله أن يرغب الإنسان في المعرفة؛ ولكن رفض طريقته وهدفه في إشباع رغبته في المعرفة. والعهد القديم يوضح رحلة بحث الإنسان عن تحقيق رغبته، وتوجيه الله لرغبة الإنسان. ويمكن وضع التوراة تحت عنوان: كيفَ يعرف الإنسان الله ويحيا في طريقه. فعندما يتعلق الأمر بذلك الجانب من الحياة الذي نسميه الآن الدين، فإن الله هو موضوع السّعي. في كل أنحاء العهد القديم، وخاصة في الأدب النبوي، معرفة الله هي هدف ديني نهائي (هوشع 4: 1، 6: 6؛ أمثال 2: 5)، وطلب الله هو وسيلة مناسبة لوصف كيف يصل الفرد إلى هناك. اُطْلُبُوا الرَّبَّ فَتَحْيَوْا. (عاموس 5: 6) فيجسّد المزمور 119 كيف يمكن أن يكون البحث عن توراة الله في حد ذاته ذو معنى دينيّ مرتبط بالبحث عن الله. Prof. Shalom E. Holtz, Seeking Torah, Seeking God: Psalm 119, The torah)). فهدف مركزيّ في الكتاب المقدس هو معرفة الله، لأن معرفته هي الطريق لمعرفة مشيئته ومعرفة ذاتنا. فقدّم العهد القديم كثيرًا لدفعنا لمعرفة الله، وفي كل جزء نجد الدّعوة الأولى هي: الرغبة في معرفة الله. وأعلن الله في العهد القديم أنّه ما زال يريد أن يُعرِّفنا أكثر إلى ذاته. فليسَ أعظم من أن ندرك الخالق من الخالق نفسه! فمعرفه الله ومشيئته هي دعوة كلمة الله لنا الأولى، وهي رغبة الإنسان الصالحة على الأرض. وفي كثير من الأوقات بحث الإنسان عن الخليقة وعن ذاته، وترك الرغبة في معرفة الله التي هي الأساس للجميع. وأعتقد أنَّ الخطأ الأول الذي وقع فيه اليهود هو أنهم انتظروا ما يظنون أنّه يعنيهم فقط، وهو الخلاص من العبوديّة والمُلك في العالم. ولكن ماذا عن الرغبة في معرفة الله ذاته، وقبول خطته، هو وليسَ التي رأيناها نحن! ومن هنا نقول إنَّ التجسّد هو خطوة نحو معرفة الله، ورغبة ينبغي أن تتملك الإنسان: البحث عن فهم ومعرفة الله بشكل أعمق. فيقول هيرمان بافينك: “التجسّد هو المعجزة المركزية، إنها أعجوبة كل العجائب عندما يدخل الإله في اتصال مباشر مع الإنسان.” وهذا الاتصال قوامه الأوّل معرفة ذات الله عن قرب، ومن هنا عند الحديث عن التجسّد لا يمكن أن نتغاضى عن الحديث عن رغبتنا الأمينة في معرفة الله. فما نحتاجه عند الحديث ميلاد المسيح، هو رغبة شعب الله في معرفة ذات الله كما أُعلن لنا.
ثانيًا: التجسّد الطريق الأعظم الذي صنعه الله لنعرفه
إنَّ قضية التجسّد في المقام الأول معنية بذات الله، ومدى فهم الإنسان لله! في مقال بعنوان: اليهودية ليسَ بها مكان للذين خانوا جذورهم. فيه يعلق الكاتب حول قضيّة رغبة رجل يهوديّ أن يدفن في مقبرة يهوديّة، بعد أن كان قد تحول إلى المسيحيّة. فيخبرنا أنَّ اليهوديَّ يهوديٌّ، ولا مجال إلى إلصاق شيء آخر باليهوديّة، فلا يستطيع أحد أنّ يتحرر من نسل يعقوب، مثل مَن يدعون الإيمان باليهوديّة المسيحيّة. فيعتبر اليهود المعتقدات المسيحيّة عن الله وثنيّة، فكرة التجسّد والوسيط، والإيمان بهذا يعتبر خيانة لليهودية. ((Rabbi J. Immanuel Schochet, Judaism has no Place for those who betray their roots. فالمنظور اليهوديّ الذي كان يعتبر المنظور الجوهريّ عن الله، المشكلة الأولى لديه (وهي مشكلة كل من لا يؤمن بالمسيح) هي قبول وفهم ذات الله في الإيمان المسيحيّ، فيرفضها رفضًا قاطعًا. فعند الحديث عن ميلاد المسيح، البدء بالحديث عن الفداء والخطية والاسترداد، لا يمثل أرضيّة مشتركة مع الآخر، فهو حديث من نقطة نهاية. ولكن ما ينبغي أن نبدأ به عند الحديث عن التجسّد للآخر وفي احتفالاتنا وفي كنائسنا هو فهم طبيعة ذات الله، مَن هو الله! بمعنى إعادة تعريف للإله الذي نومن به في إطار تجسد المسيح، الذي يشكل نقطة فارقة للبشريّة في فهم ذات الله.
من هنا ينبغي رؤية التجسّد في المقام الأول على أنّه اكتمال الإعلان عن الله، لتوضيح ذات الله للبشريّة. فعندما ندرك ذات الله الثالوث، بإمكاننا أن ندرك التجسّد بحق. فيقول في رسالة العبرانيين (1: 1 – 3) عن الغرض من التجسّد: “اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي.” فكلمنا الله سابقًا عن ذاته وخطته بالآباء والأنبياء، وفي يسوع المسيح كلمنا عن ذاته وخطته بشكل كامل وأكثر وضوحًا. فالتجسّد في المقام الأول هو: كشف الله عن ذاته للإنسان، هذا الكشف احتاجه الإنسان لفهم ذات الله بصورة أعمق وأقرب. ليعرف هويته، وكيفَ يعبده ويكون معه في شركة. فيؤكد المؤلف على استمراريّة العهدين القديم والجديد، فالمسيح لا ينفصل عن الماضي اليهوديّ العظيم، فهو يأتي لتحقيق ذلك. ودونه يكون إعلان العهد القديم جزئيًا وإعداديًا وغير كامل. لقد تكلم الله في أوقات مختلفة وبوسائل مختلفة، لقد استخدم طرقًا عديدة ومتنوعة. ولكن في المسيح تكلّم بشكل كامل، حاسم، نهائي. لقد صور حزقيال مجد الله، لكن المسيح عكسه. لقد شرح إشعياء طبيعة الله على أنها قدوسه وبارّة ورحيمة، ولكن المسيح أظهرها. لقد وصف إرميا قوة الله (3)، لكن المسيح أظهرها. (Raymond Brown, The Message of Hebrews, 15, 16.) فجاء المسيح ليخبرنا عن ذات الله. فالإيمان المسيحيّ المعلن في العهد الجديد والمتجذّر في العهد القديم هو إيمان بإله واحد، فلا مجال للتعدديّة بعدة آلهة. فكل قوانين وإقرارات الإيمان عبر التّاريخ تُعلن وتبدأ نومن بإله واحد! ولكن مفهومنا وتعريفنا عن هذا الإله يختلف عن المفهوم العادي، وظهر لنا بوضوح هوية الإله الواحد في التجسّد “جوهر واحد ثلاثة أقانيم”.
قال ق. أثناسيوس: “إنّه يكون أكثر تقوى وحق أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه الآب، عن أن نسميه من خلال أعماله فقط وندعوه غير المخلوق.” فالمدخل إلى معرفة الله يكون من خلال الابن، فمن خلال الخلق نتحدث عن الله من خلال عبارات غامضة وذلك للمسافة بين الخالق والمخلوق، ولكن معرفة ذات الله بحق تكون أكثر قربًا من خلال تجسد المسيح. (توماس ف. تورانس، الإيمان بالثالوث، 68 _ 69). فالطّريق الذي اختاره الله ليعلن ذاته لنا بشكل كامل وأكثر وضوحًا هو من خلال تجسده، ففي التجسّد أصبح بإمكان البشريّة أن تخطو خطوة أكثر قربًا لذات الله. فليس لدينا إمكانية الوصول بشكل كامل إلى الثالوث خارج ما أعلنه الله لنا عندما أرسل ابنه وأعطانا روحه القدوس. فيتم إعلان الثّالوث بمجيء الله نفسه إلى تاريخ البشريّة: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.” (يوحنا 3: 16)؛ “وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا.” (رومية 5: 5). الثالوث هو سر الإيمان بالمعنى الدّقيق للكلمة، وهو أحد الأسرار المخفيّة في الله، والتي لا يمكن معرفتها أبدًا إلّا إذا كشفها الله: فجوهر وجود الثالوث الأقدس هو سر لا يمكن الوصول إليه بالعقل وحده، أو حتى بإيمان إسرائيل قبل تجسد ابن الله وإرسال الروح القدس. أوّلًا، إن معرفة المؤمن للثالوث تقوم على الوحي، وفي الأحداث التاريخيّة التي ترتبط بها الكلمات، وهذه الأحداث هي تجسّد ابن الله وحياته. حالتنا الإنسانية، وكذلك إرسال الروح القدس إلى الكنيسة في يوم الخمسين. ثانيًا، في هذه الأحداث يأتي الله نفسه. إن الله ليس فقط مصدر هذه الأحداث، بل هو أيضًا يبذل نفسه فيها. في أحداث الخلاص، لا يعطي الله الثالوث شيئًا ما فحسب؛ بل هو يبذل نفسه: الله الآب يرسل ابنه ويسكب روحه القدوس. هذان الجانبان (الله يظهر في أحداث تاريخيّة، وفيها يبذل نفسه حقًا للمؤمنين) هما في مركز إعلان الرب. فالثالوث: يشكل سمة أساسيّة ومميزة للإيمان الإنجيليّ، الذي يميزه عن سائر أشكال المعرفة والخبرة الدينية. (Gilles Emery, The Trinity, 1-2)
ميلاد المسيح هو الطريق المنير لمعرفة الله الحقّه، من هنا تبدأ معرفتنا الحقيقية عن ذاتنا وعن خلاصنا. المسيح يُعبّر بقوة عن هذه الحقيقة في تجسّده، الدعوة إلى معرفة الله هي أساس كل شيء: فكان يُطالب قبل كل شيء بمعرفة الله، وبفهم الله، بإعطاء المجد لله، بالبحث عما يُرضي الله.