هل التبرير بالإيمان؟
الهدى 1215-1216 نوفمبر وديسمبر 2019
«هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حبقوق 2: 4، راجع أيضًا لوقا 18: 9- 14).
«هوذا منتفخةٌ غير مستقيمةٌ نفسه فيه»، كبرياءٌ وانتفاخ، ثقةٌ في النفس باطلةٌ وكاذبةٌ.
ونجد أنَّ المسيح قال عن ذلك مثلًا: “وقال لقومٍ واثقين بأنفسهم أنهم أبرارٌ ويحتقرون الأخرين هذا المثل”، واثقين بأنفسهم منتفخين، ما هو المثل؟ إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا واحدٌ فريسيّ والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه يشهد لنفسه، وقف يمدح في ذاته اللهم أشكرك، أشكر الله أني صرت هكذا، هكذا يعطي المجد لنفسه، ولو قال أشكر الله أو أشكر المسيح لكنه قال: «اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه، وأما العشار فوقف من بعيدٍ لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء”. الفريسي كان رافعًا رأسه مادًا عنقه لأعلى أما العشار كان خافضًا عينيه شاعرًا بثقل الخطية وعدم الاستحقاق.
شهادة المسيح عن هذا وذاك أن العشار نزل إلى بيته مبررًا دون الفريسي، البار بإيمانه يحيا، وهنا نقطة جوهرية جدًا: هل لأنه مؤمن يُبرر؟ وكيف يتبرر؟ بأي طريقةٍ؟ هل للإنسان دخلٌ في هذا التبرير؟ أليس هو مؤمنٌ؟ الإنسان ينسب لنفسه عملٌ من الأعمال فيقول أنا مؤمنٌ وهكذا. ولكن التبرير يأتي بأن الله يحسب الإيمان برًا، فالتبرير هو حُسبان الإيمان برًا، لا يعتبر للإنسان ولا لأنه مؤمنٌ، التبرير إذًا حسب الله ذلك هكذا. أي حُسب الإيمان برًّا، ”فآمن (إبراهيم) بالرب فحسبه له برًا” (تكوين 15 : 6)، فحسبه أي حسب الإيمان لأنه ماذا يقول الكتاب: “فآمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا” (رومية 4 : 3)، وأيضا “كما آمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا” (غلاطية 3 : 6).
إذًا ليس هناك عملٌ يتبرر به الإنسان، ولكن يتبرر إذا حسب الله إيمانه برًا، ولكن ما الطريقة التي يحسب الله بها المؤمن بارًا؟
هذه هي الطريقة: “ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح”، “بالنعمة أنتم مخلصون”، “لأنكم بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله”، لو أن الله أوقف الخلاص على الأعمال إذًا لكان الأمر انتهى، لا يمكن أن يخلُص أحدٌ لأنه لا يستطيع ولكن الله جعل الخلاص بالإيمان وذلك عن طريق النعمة، أي جعل الخلاص بالإيمان نعمة، آمن تتبرر، لا لأنه يستحق التبرير (الشخص) ولكنها نعمة، فالتبرير نعمة، والخلاص بالإيمان نعمة، فقط آمن تخلص، لو كان اعمل ما كان هناك خلاص، ولكن ماذا يقول الوحي لإيليا: «أبقيتُ لنفسي سبعة آلاف رجلٍ لم يحنوا ركبةً لبعلٍ»، قارن هنا بين النعمة والإيمان وليس بين الأعمال والإيمان، والنعمة جعلت الإيمان طريق الخلاص، النعمة هي المخلصة وليس الإيمان، لم يقل اعمل تخلص بل آمن تخلص، ولم يقل اعمل تتبرر وإنما آمن تتبرر، كونه يقول آمن تتبرر هذه نعمة، ليس الإيمان بل حُسبان الإيمان، من يحسب؟ الله، بأي طريقةٍ؟ نعمة منه، نقطة لاهوتية دقيقة: آمن تخلص، لماذا؟ لأن الله نعمةً منه جعل الإيمان حُسبان للتبرير والخلاص يحسبه للإنسان برًا، وكيف يُحسب برًا وعلى أي أساس؟ أمامنا الناموس، الوصايا العشر، “لأن من حفظ الناموس وإنما عثُر في واحدةٍ فقد صار مجرمًا في الكل”، وإننا نعلم أن “الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس”، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسدٌ ما، فهل الناموس ضد مواعيد الله؟ حاشا، لأنه لو أُعطيَ ناموسٌ قادرٌ أن يُحيي لكان بالحقيقة البرُّ بالناموس.
فإذا أخطأ في واحدةٍ قد صار مجرمًا في الكل، كيف يتبرر الإنسان إذًا من هذا الخطأ وهذه الجريمة؟ عن طريق الإيمان نعمةً من الله، لذلك يقول المسيح: “لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمِّل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكل” الناموس يجب أن يُكمِّل كل أحكامه، كل وصاياه تتم لا يُكسر منها واحدة.
نتذكر هنا العصائب، “وكلم الرب موسى قائلًا كلم بني إسرائيل وقل لهم أن يصنعوا لهم أهدابًا في أذيال ثيابهم ويجعلوا على هدب الثوب عصابةً من اسمانجوني فتكون لهم هدبًا فترونها وتذكرون كل وصايا الرب” فالعصابة اسمانجونية جميلة تربط كل الأهداب في ثوب اليهودي الإسرائيلي، معناه أن كل الوصايا واحدةً مرتبطةً بعضها مع البعض لو سقطت واحدة سقطت كلها، وكان اليهودي يعرِّض العصائب ويطيل الأهداب رياءً وكذبًا. يقول لهم الناس: سيدي سيدي، معلمي، ربوني، ويقدمون لهم الإكرام مخطئين وصائرين مجرمين.
لا يوجد واحدٌ في العالم أكمل الناموس، ويعترف بذلك القرآن فيقول إن كل بني آدم عند ولادته ينخسه الشيطان إلا عيسى بن مريم لأنه مولودٌ ليس من الجسد، «المولود من الجسد جسدٌ هو والمولود من الروح هو روح»، ثم أن الرسول يقول: «لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص».
إذًا بر الناموس عمله المسيح كاملًا لا نقطةٌ ولا حرفٌ، صار الكل في المسيح، تم كل أحكام الناموس في المسيح لذلك رفض يوحنا أن يعمد المسيح لأن يوحنا كان يعلم أن المسيح بار ولكن المسيح رد عليه بقوله: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بر، حينئذٍ سمح له».
“لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن” فالله يحسب للمؤمنين بر المسيح لأن المسيح أكمل كل بر الناموس، إذًا التبرير هو حسبان الإيمان بالمسيح برًا لذلك يقول المرنم: “طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غشٌ”. أي شيء لك لم تأخذه – ليس فيك أصلًا – أعطيَ لك وأنت أخذت، لا يوجد للإنسان أي برٍّ والإيمان لا يعطيه البر إلا عن طريق الحسبان، إذًا فالخلاص نعمة، فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال وإلا فليست النعمة بعد نعمة، وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلا فالعمل لا يكون بعد عملًا، أي أن أعمالنا لا تُحسب أبدًا فإما النعمة أو الأعمال يأتي في الوسط الإيمان وقد وضعه الله مقابل الأعمال فلم يقل بالنعمة أنتم مخلصون بالأعمال، لا بل بالإيمان وإلا فليست النعمة بعد نعمة، “بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله”، مخلصون بالإيمان والإيمان يُحسب برًا، البر الذي عمله المسيح يُحسب للمؤمنين برًا بالإيمان بيسوع المسيح، التبرير إذا يُحسب للمؤمن بالمسيح، كل بر المسيح تم في إكمال الناموس وكل بر الناموس يُحسب للمؤمن لأن المسيح أكمل كل بر الناموس.
واضح إذا أنه إذا كان البر بالناموس فإن “من حفظ الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل” أما إذا كان البر بالأعمال فمكتوب: “الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهمٍ طالبٍ الله، الكل قد زاغوا معًا فسدوا ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد”.
أما بالإيمان يقول يُحسب برًا لذلك يقول عن إبراهيم: “فآمن بالرب فحسبه له برًا” هذه هي طريقة التبرير، فالرسول يقول: “أما البار فبالإيمان يحيا وإن ارتد لا تُسرُّ به نفسي”، وأيضا يقول: “ولكن أن ليس أحدٌ يتبرر بالناموس عند الله فظاهرٌ لأن البار بالإيمان يحيا ولكن الناموس ليس من الإيمان بل الإنسان الذي يفعلها يحيا بها” لو عمل كل الناموس ولكن أخطأ في واحدة فقد صار مجرما في الكل، لا توجد فائدة، والرسول يُظهر لنا أن هذا هو الإنجيل، هو الوعد والبشارة، وعد الأبرار: “والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرر الأمم سبق فبشر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع الأمم” لأن جميع الذين هم من إيمان إبراهيم يتباركون مع إبراهيم المؤمن (غلاطية 3 : 8 و 9) وأيضا “لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولًا ثم اليوناني” لأن اليهودي الذي عنده الناموس محتاجٌ إلى الإيمان أما بالنسبة للناموس فالذي يفعلها سيحيا بها، ولكن لم يفعلها أحد ولذا كلهم تحت اللعنة، تحت الناموس.
فالوعد أنه بنسل إبراهيم تتبارك جميع قبائل الأمم موجودٌ قبل أن يأتي الناموس ب 430 سنة “وإنما أقول هذا أن الناموس الذي صار بعد أربعمائة وثلاثين سنة لا ينسخ عهدًا قد سبق فتمكن من الله نحو المسيح حتى يبطل الموعد”، “لأن فيه معلنٌ بر الله بإيمانٍ لإيمانٍ كما هو مكتوبٌ أما البار فبالإيمان يحيا”، “هوذا منتفخةٌ غير مستقيمةٌ نفسه فيه والبار بالإيمان يحيا” فإذا آمن المؤمن بالمسيح إيمانًا حقيقيًا صادقًا يُحسب له إيمانه برًا كما هو مكتوب، هذا هو الوعد لإبراهيم: “أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”، والوعد موجودٌ في نسل المرأة قبل إبراهيم بفترة طويلة: “فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونةٌ أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك وأضع عداوةً بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه”.
نسل المرأة هو المسيح، ومَن نسل إبراهيم؟ المسيح، إذًا الوعد كله من أول كلمة إلى آخر كلمة هو الوعد بالمسيح، نسل المرأة ونسل إبراهيم هو المسيح، توجد آيةٌ صريحة تقول إن نسل إبراهيم هو المسيح: “وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحدٍ وفي نسلك الذي هو المسيح” (غلاطية 3 : 16)، كلامٌ واضحٌ وصريح ليس إسحق ولا إسماعيل “لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبدٌ ولا حرٌّ، ليس ذكرٌ وأنثى، لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة” فالمسيح والذين له هم نسل إبراهيم الذين لهم المواعيد وفي غير ذلك لا موعد ولا ميعاد.
في الرسالة إلى أهل رومية الأصحاح السادس عشر والآية العشرين: “وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا. نعمة ربنا يسوع المسيح معكم آمين”، هذان هما العدوان نسل المرأة الذي هو المسيح ونسل الحية الذي هو الشيطان، وهذا واضح كل الوضوح في سفر الرؤيا (رؤيا 12 : 1- 9) نجد صورة تمثيلية تتمثل المرأة فيها متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها أكليلٌ، ملكٌ عظيمٌ، وهي حبلى وهي تصرخ متوجعة، فهي صورةٍ تمثيلية لهذه المرأة التي نسلها يسحق رأس الحية، وتمثلت الرؤيا أمام يوحنا وهو في الروح في يوم الرب، فهي حبلى لكي يأتي النسل، ويمثّل الشيطان في تنينٍ أحمر ملوثٌ بالدم قاتل له سبعة رؤوس عليها سبعة تيجان، ملك العالم لم يقدر أن يفعل شيئًا، ثم تظهر حربٌ في السماء، ميخائيل وملائكته، التنين الذي هو الحية القديمة “فطُرح التنين العظيم الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته”، صورة تمثيلية، فالنصرة أخيرًا تكون للمرأة ونسلها مهما كانت قوات الشر، “وأنا أقول أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها”، لأن كل من وُلد من الله يغلب العالم وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا”.
“من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله، هذا هو الذي أتى بماءٍ ودمٍ يسوع المسيح، لا بالماء فقط بل بالماء والدم، والروح هو الذي يشهد له لأن الروح هو الحق” (1يوحنا 5 : 4 – 6)، مع أن يوحنا كان شاهدًا ومعاينًا ولكن كتب، الروح هو الذي يشهد ونرى ذلك في (يوحنا 19 : 34 و 35) “لكن واحد من العسكر طعن جنبه بحربةٍ وللوقت خرج دمٌ وماء، والذي عاين شهد وشهادته حقٌّ وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم”.
لا ننظر إلى شهادة يوحنا بل شهادة الروح القدس في المؤمن: “طوبى للذين آمنوا ولم يروا” وهذا هو الإيمان لا بالماء فقط بل بالماء والدم حسب نبوة زكريا: “وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون اليَّ الذي طعنوه وينوحون عليه كنائحٍ على وحيدٍ له ويكونون في مرارةٍ كمن هو في مرارةٍ على بكره” (زكريا 12 : 10). وينظرون اليَّ (أنا الذي طعنوه) وينوحون عليه، “هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عينٍ والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض” نعم آمين.
عظة قدَّمها القس غبريال رزق الله مساء يوم الأثنين 26 /3/1973.