فصل الظهور
الهدى 1240-1241 فبراير ومارس 2022
في مقالٍ سابق أشرتُ إلى أهميَّة ليتورجيَّة العبادة الجماعيَّة، وأنَّها ليست عملاً تقليديًّا جافًّا جامدًا، بل هي العبادةُ مُنظَّمةً مُترابطة الفقرات، يشترك فيها المنبر والمقعد، فضلاً عن تنظيم التَّعليم الكتابي في ستَّة فصول كنسيَّة في ثلاث سنوات مُتتالية. ويأتي هذا الشَّهر ضمن «فصل الظُّهور»، الذي مُدَّته ثماني آحاد تبدأ بعد الاحتفال بعيد الميلاد. هو فصل الاحتفال بإعلان الله عن نفسه في المسيح يسوع، الإعلان الكامل والظُّهور التَّام لله. ويبدأ بأحد تذكُّر معموديَّة الرَّب، حيث ظهور الثالوث الأقدس. ويُختَم بأحد التَّجلي..
أمَّا التَّعليم الكتابي فإنَّه محور هامّ في ليتورجيَّة العبادة، الأمر الذي يظهر في ذلك الكمّ الكبير من النُّصوص الكتابيَّة المُحدَّدة للقراءة والوعظ في كلِّ فصل. وهو ما أشير إليه في هذه المُعادلة (م = ع3)، وهي موضوع هذا المقال.
م = ع3
يبدو أنَّ صورة الإنسان المتعبِّد اليوم لم تعُد تستهوي النَّاس، في عصر مُزدحم مليء بالعمل والجدل، الكلُّ فيه مشغول بمشاغل ومشاكل الحياة المتنوِّعة. عالم يمتصُّ كلَّ الوقت والجهد، ويطلب المزيد. فكيف لإنسان هذا العصر أن يجد وقتًا يقضيه في خلوة فرديَّة روحيَّة، أو فرصة عبادة كنسيَّة جماعيَّة، أو رياضة روحيَّة؟ هناك من لا يرون أهميَّة لذلك، وآخرون يحاولون اختصارها في أقلِّ وقت مُمكن، وآخرون يرون فيها هروبًا من المشاكل ومن مسؤوليَّة التَّفكير في الحلول والبدائل، وأنَّها انعزال عن الحياة.
وعليه، فإنَّ مفهوم المسيحيَّة في نظر كثيرين أصبح مُقتصِرًا على مجرَّد مبادئ أخلاقيَّة ساميَّة، وعلى شخصيَّة يسوع الفريدة النَّادرة المُبهِرة. لكن المسيحيَّة وحدة شاملة لكافَّة جوانب الحياة، لا يُمكن أن نفهم جانبًا منها دون الآخر. ويمكن اختصارها وتركيزها في هذه المُعادلة: (م = ع 3). حيث «م» المسيحيَّة، فماذا تكون «ع × ع × ع»؟ يقول كاتب الجامعة: «الخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا» (جامعة 12:4). وهكذا سنعرف أنَّ قوَّة المسيحيَّة تكمن في ذلك النَّسيج المُركَّب من هذه الجوانب الثلاثة المُتداخلة المُتفاعلة، الشَّاملة لكلِّ الحياة، المُكمِّلة لبعضها بعضًا، بحيث يقوِّي كلٌّ منها الآخر، ويؤثِّر فيه ويتأثَّر به. مع ملاحظة أنَّ المعادلة ليست (م = ع + ع + ع)، لأنَّ مُحصِّلة الضَّرب الحسابي أكبر وأقوى من محصِّلة الجمع.
ع الأولى عقيدة
مَن يطالع تاريخ الكنيسة حتى القرون الوسطى، يلاحظ أنَّ قادتها كانوا يهتمّون اهتمامًا كبيرًا بالعقيدة الصَّحيحة، وكان المسيحي الحقيقي هو الذي يؤمن بالعقيدة الصَّحيحة، ويعلن ذلك بشجاعة ووضوح عند معموديَّته لإشهار إيمانه. وكلّ من يخالف تلك العقائد المُتَّفق عليها، يُعتبر هرطوقيًّا، ويُحكم عليه ويُعزل من شركة الكنيسة. كان الجدل الفلسفي سِمة مميِّزة لتلك العصور، فأراد قادة الكنيسة آنذاك أن يحافظوا على وحدة الكنيسة بالتَّشديد على عقيدتها.
لا نقلِّل من شأن ما عملوه حفاظًا على صحَّة الإيمان، ولا نُنكر أهميَّة العقيدة الصَّحيحة، وأهميَّة إيضاح معنى الإيمان المسيحي في عقائد تربطه بالحياة العمليَّة. لكنَّنا نلاحظ أنَّ العقيدة المسيحيَّة أصبحت اليوم عند كثيرين: جدلٌ فكري أكاديمي خالٍ من الحياة وبعيدٌ عن الواقع. وأنَّ المناقشات اللاهوتيَّة والعقائديَّة ليست أكثر من إظهار فروق لفظيَّة بين هذه النَّظريَّة وتلك. ورأى البعض أنَّ الاختلافات العقائديَّة لا طائلَ منها، ولا داعي للنَّظر إليها، لأنَّها تُسبِّب مباحثات غبيَّة وانقسامات كنسيَّة. وبعضٌ ثالث فضَّلوا سلامة علاقات الصَّداقة مع المُختلفين عنهم عقائديًّا على الالتزام بالعقائد الصَّحيحة والشَّهادة الأمينة للمسيح وللكلمة المكتوبة، في سبيل الحفاظ على ما يظنُّونه وحدة. إلاَّ أنَّ الحقيقة أنَّ الكتاب المقدس، أساس كلّ عقيدة صحيحة، هو قصَّة علاقة الله مع الإنسان، وخبر موت وقيامة المسيح، وإعلان هذه البُشرى لخلاص البشريَّة. هذا الإعلان لا يُمكن تجميده في عبارات تُكتب في كتب، بل يجب صياغته في عقائد واضحة تلمس حياة الناس والكنيسة والمجتمع. ولعلَّ أكبر نقد للعقيدة الجامدة المُجردة المُنفصلة عن الحياة، هو ما قيل في (يعقوب 19:2)، فالإيمان من دون أعمال ميِّت، والأعمال من دون إيمان ميِّتة. أمَّا الإيمان الصَّحيح فإنَّه يؤسَّس على عقيدة صحيحة، إيمان عامل بالمحبَّة، وإلاَّ فهو ضعيف وميِّت.
في هذا الشَّأن اهتمَّ بولس في بعض رسائله، مثل روميَّة وأفسُس، أن يعلِّم العقيدة الصَّحيحة في الجُزء الأول من الرِّسالة، كأساس يبني عليه التَّوصيات العمليَّة والسُّلوكيَّة (أفسس 4: 1، روميَّة 12: 1). إنَّ حرف الفاء في هاتين الآيتين: «فأطلب إليكُم..» هو فاء السَّببِيَّة، التي تربط بين القسم اللاهوتي التَّعليمي السَّابق لها، والقسم العملي التَّطبيقي التَّالي لها. فالإيمان الصَّحيح، والسُّلوك الصَّحيح، هو المبني على العقيدة الصَّحيحة.
ع الثانية عمل
يتَّجه بعضٌ إلى التَّفكير في الجانب العملي فقط، بينما يهملون العقيدة، ويقولون: «الدِّين مُعاملة، لا تسألني ما هي عقيدتي، بل ما هو عملي الإنساني». وبالتَّالي أهملوا العقيدة، فاضمحلَّ فكرهم الكتابي، وأصبح الدِّين عندهم هو أن تحبّ قريبك، وهذا يكفي. هذا الاتِّجاه يشدِّد على العمل الخيري فقط، ويتهرَّب من مسؤوليَّة درس كلمة الله، وهو اتِّجاه متطرِّف أيضًا. فهو ردّ فعل للاتِّجاه المُعاكس، المُتطرِّف أيضًا، الذي ظهر في عصور سابقة، مُشدِّدًا فقط على العقيدة. فظهر هذا الاتِّجاه ليحرِّك الكنيسة لتتغلَّب على الجمود الرُّوحي والحياة التَّقليديَّة والعبادة الطَّقسيَّة.
فكما أنَّ الإيمان من دون أعمال صورة غير صحيحة للمسيحيَّة، كذلك العمل الإنساني المسيحي غير المؤسَّس على عقيدة صحيحة، هو أيضًا تصوُّر ممسوخ للمسيحيَّة. لأنَّه يحوِّلها إلى مُجرَّد أعمالِ شَفقةٍ إنسانيَّة، ويُحوِّل الكنيسة إلى مُجرَّد مؤسَّسة اجتماعيَّة. فالأعمال الصَّالحة يجب أن تتولَّد من الإدراك الواعي للعقيدة الصَّحيحة. والدَّعوة لمحبَّة القريب سوف تظلُّ شيئًا غامضًا ومُحيِّرًا وغير مُحدَّد، ما لم نعرف المعنى الحقيقي للمحبَّة المسيحيَّة. مثل هذه الدَّعوة لمحبَّة القريب يمكن أن تُحوِّل المحبَّة إلى قيمة تُستَغلّ ويُساء استخدامها، حين تتحوَّل إلى تدليل وتهاون باسم المحبَّة. ذلك عندما يظنّ الموظَّف أن محبَّة رئيسه له تعني أن يتجاوز له عن تقصيره وإهماله في عمله… وهكذا. فما لم نفهم ما يُعلِّمه الكتاب بوضوح عن المحبَّة، فلن نستطيع أن نطبِّقها التَّطبيق الفعَّال.
نستطيع أن نرى صورة المحبَّة الكاملة في فِكر وحياة المسيح، فهي ليست محبَّة التَّهاون والتَّدليل، بل المحبَّة المُرتبطة بالعدل والحقِّ والتَّأديب، وبالآلام الكفاريَّة للغفران. فالدَّعوة لمحبَّة القريب ستكون جوفاء بلا مضمون، ما لم نفهمها فهمًا صحيحًا كما يقدِّمها الكتاب المقدس. إنَّنا في حاجة إلى عقائد تفسِّر لنا الوصايا والتَّعاليم الكتابيَّة، لأنَّ الأعمال المسيحيَّة لا يمكن أن تمارَس بطريقة فعَّالة ومُثمرة ما لم تؤسَّس على عقيدة واضحة ومفهومة.
ع الثالثة عبادة
إنَّ الإقبال على العبادة الكنسيَّة اليوم أصبح ضعيفًا. لأنَّ بعضًا ينظرون للعبادة على أنَّها من الكماليَّات، لا يستطيع أصحاب البرامج المُزدحمة أن يصرفوا وقتًا فيها. بينما إذا وضعناها في مكانها الصَّحيح، سوف تكون أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه. فهي ليست فقط وسيلة إشباع روحي ونفسي للمُتعبِّد، لكنَّها أيضًا التَّطلُّع بالأمل والرَّجاء إلى المستقبل. وهي ليست هروبًا من الحاضر والواقع، لكنَّها قوة دائمة للحياة اليوميَّة، تعين المُتعبِّد في التَّفكير والتَّقرير السَّليمَيْن. صحيح أنَّ العبادة توجَّه إلى الله، لكنَّها تعكس حضوره في حياة المُتعبِّد.
في العبادة نقدِّم لله المجد والتَّعظيم، لكنَّنا لا نُضيف إليه شيئًا جديدًا يُسرّه ويُرضيه أو يسترضيه، كما نفعل أحيانًا مع مَن هم أعلى منَّا مقامًا. إنَّنا نقدِّم لله العبادة لكي نتأثَّر نحن بحضوره، لأنَّ العبادة هي التَّجاوب معه، وردّ فعلنا لما عمله لأجلنا في المسيح يسوع، وما يزال يعمله فينا ولأجلنا. وهذا لا يقلِّل بأيِّ حالٍ من قيمة ما نقدِّمه للرب، بحُجَّة أنَّه لا يستفيد ممَّا نقدِّمه له من تسبيح وسجود وصلاة وعبادة.
بذلك تكون العبادة نوعًا من التَّدريب (رياضة روحيَّة)، وسواء كان التَّعبُّد فرديًّا شخصيًّا أو جماعيًّا كنسيًّا، يجب أن يُحدث فينا، في كلِّ فرصة تعبُديَّة، ترويضًا للنَّفس، أي تعلُّم عن طريق المُمارسة والتِّكرار الواعي. فالعبادة هي الطَّريقة الوحيدة التي نسلكها فيحدث التَّغيير في شخصيَّاتنا وتوجُّهاتنا وعلاقاتنا. هذا الأمر لا يحدث بسرعة، بل بالتَّدريج والتَّدريب. إنَّ عبادتك هي أسلوبك الذي تتوجَّه به إلى الله ليعمل عمله العجيب في حياتك، فتتحوَّل مُعتقداتك إلى أعمال.
هذه هي المُعادلة الهامَّة للمسيحيَّة (م = ع3): عقيدة نؤمن بها، تُترجَم في عمل أفقي نعمله، وفي عبادة رأسيَّة نتعبَّد فيها للرَّب. هي محصِّلة تفاعل وتكامل هذه العناصر الثلاثة معًا. فليُعطنا الرب نعمة وحكمة وبركة وإرشادًا، حتى نحقِّقها في كلَّ يوم، بل في كلِّ اليوم، بدراسة وعمل وعبادة.