الهدى 1239 يناير 2022
ارتبط الميلاد بالفرح والتسبيح والأناشيد، وقد إنفرد لبشير لوقا بذكر أربع تسبيحات خاصة بالميلاد، وهي:
1- تسبيحة مريم العذراء (لوقا 1: 46- 55)
2- تسبيحة زكريا (لوقا 1: 68- 79)
3- تسبيحة الملائكة (لوقا 2: 14)
4- تسبيحة سمعان البار (لوقا 2: 29- 32)
تسابيح وأناشيد الميلاد تعبر عن الفرح والإيمان، وسلطان وسيادة الله، ومحورها عمل الله الخلاصي في المسيح يسوع، وقد عبرت عن ذلك مريم بالقول: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» (لوقا 1: 46- 47)، وأيضًا زكريا الكاهن بالقول: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ.» (لوقا 1: 68- 69). والملائكة تنشد بالقول: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.» (لوقا 2: 14). والقراءة الأدق لترنيمة الملائكة هي: «المجد لله في الأعالي، والسلام على الأرض للناس الذين سُرَّ بهم.». وسمعان البار يقول «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ, لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ،» (لوقا 2: 29- 30).
تسبيحة مريم العذراء لوقا 1: 46- 55
مدخل البشير لوقا في قصة الميلاد مختلف عن مدخل البشير متى عن الميلاد فحين تكلّم الملاك ليوسف في متى 1: 18- 23 تكلّم الملاك لمريم في لوقا 1: 26- 38 والمدخلان متكاملان حيث تمت الإشارة بوضوح شديد إلى الروح القدس ورسالة الخلاص.
أين قالت مريم التسبيحة ومع من؟
قالت مريم التسبيحة في بيت أليصابات، ومع أليصابات، ومن هنا نرى حالة السند والتشجيع تنتج تسابيحًا قالت لها أليصابات: «وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ.» (لوقا 1: 42- 45). بعد هذا الكلام مباشرة «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» (لوقا 1: 46- 47).
وقد علَّق أحد الشرَّاح عن هذا الموقف مشيرًا إلى ردود فعل أليصابات حيث صرخت بصوت عظيم إلى رد فعل مريم حين قالت وبهدوء دون انفعال، وبالرغم من اختلاف الشخصيتين لكن كان لديهما قدرة على التفاهم والانسجام. فلتتعلم النسوة من مريم وأليصابات أن كلمات التشجيع الحقيقية دون المجاملة والنفاق لها تأثير كبير على نفوس الآخرين، فكفى الكلام السلبي الذي ثبت فشله، ولنتعلم أن نكون إيجابيين.
مضمون تسبيحة مريم:
تضمنت تسبيحة مريم عدة أمور هامة، وهي أن لديها مفهومًا واضحًا عن الله، وأن الخلاص مبني على نعمته، والتسبيحة هو ثورية بها روح الثورة، ثم ارتباط وثيق بالكلمة المكتوبة ومعرفة واضحة بالعهد. وهي في هذه التسبيحة تعود بنا إلى ذكرى تسبيحة حنة 1صموئيل 2: 1- 10 ولكن كما تمت الإشارة أن تسبيحة مريم كانت بعد دعم وتشجيع من أليصابات نجد تسبيحة حنة بعد مشكلات من فننة «وَكَانَتْ ضَرَّتُهَا تُغِيظُهَا أَيْضًا غَيْظًا لأَجْلِ الْمُرَاغَمَةِ، لأَنَّ الرَّبَّ أَغْلَقَ رَحِمَهَا.» (1صموئيل 1: 6). وكلمة من أجل المراغمة أي تضع أنفها في الأرض، وهي كناية على كسر النفس والذل. وعالي الكاهن»فَقَالَ لَهَا عَالِي: حَتَّى مَتَى تَسْكَرِينَ؟ انْزِعِي خَمْرَكِ عَنْكِ.» (1صموئيل 1: 14). ولكن ألقانة كان سندًا لها، وتتضمن تسبيحة مريم الآتي:
1- مفهوم واضح عن الله: تستخدم مريم في تسبيحتها عدة أسماء لله: الرب، القدير، القدوس، الرحيم حين سبحت «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. لوقا 1: 46- 50. علمت مريم أن الرب هو القدير القدوس الرحيم في كل أعماله فهو يجمع بين القدرة والرحمة، وهي تستدعي كلام الله لإبراهيم: «وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلًا» (تكوين 17: 1). وفي قدرته «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» لوقا 1: 37. وهو نفس المفهوم الذي ظهر في حوارها في عرس قانا الجليل عندما قالت: «وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ.» (يوحنا 2: 3). وفي الوقت نفسه قالت للخدام: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ.» (يوحنا 2: 5)، هذه الثقة تكمن في معرفتها لقدرة الله كما أختبرته في الميلاد.
2- الخلاص مبني على النعمة: قالت مريم «تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» لوقا 1: 37 الخلاص عمل إلهي، وهو ليس فكرة بعيدة عنّا، ولكنها لنا، تقول مريم: «مُخَلِّصِي.» وضعت مريم نفسها مع كل الجنس البشري الخاطئ المحتاج لخلاص الله. وهي قد اختبرت من قبل نعمة الله حين قال لها الملاك: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ» لوقا 1: 28 فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. لوقا 1: 30 وهي تذكرنا دائمًا وأبدًا «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ.» (أفسس 2: 8). وايضًا بالحديث عن هدف ميلاد المسيح «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ.» (متى 1: 21). وكفايته للخلاص: «ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟ فَقَالاَ: آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ.» (أعمال 16: 30- 31). وما أعلنته وتعلنه الكنيسة باستمرار أن المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ».» (أعمال 4: 12).
3- التسبيحة بها روح الثورة فهي تسبيحة ثورية: تحدثت مريم عن عمل الله الخلاصي في التاريخ وهو المخلص الشخصي لها في الوقت الذي كان يعتمد فيه الإنسان على الأعمال تعتمد مريم على عمل الله وليس الأعمال البشرية في الخلاص. وهي تتحدث عن عمل الله الثوري في السياسة بالقول «أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ.» لوقا 1: 52 نلاحظ التضاد بين أنزل ورفع، والأعزاء والمتضعين. وعمل الله الثوري في الاقتصاد بالقول: «أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ.» لوقا 1: 53 نلاحظ التضاد بين أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين. عمل الله في تسبيحة مريم يشمل كل مجالات الحياة الروحية والسياسية والاقتصادية وهو فاعل رئيسي في كل شيْ. وهذا ما يعطي لنا الثقة والطمأنينة.
4- الارتباط بالكلمة والعهد: أثبتت التسبيحة أن مريم على دراية بكلمة الله حفظًا وفهمًا وقد استخدمت هذه الكلمة في تسبيحتها وهي مع تيموثاوس تشترك بالقول: «وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.» (2تيموثاوس 3: 15). فهي كانت مشبعة بكلمة الله ويمكن رصد ذلك فيما يلي فحين قالت: تعظم نفسي الرب (مزمور 103: 3ن 47)، وتبتهج روحي بالله مخلصي (1صموئيل 1: 11، مزمور 35: 18)، لأنه نظر إلى اتضاع أمته (مزمور 22: 3؛ 89: 18؛ 99: 3؛ 103: 1)، منذ الآن جميع الأجيال تطوبني (مزمور 44: 3؛ 89: 1)، لأن القدير (مزمور 89: 10، أيوب 12: 19)، صنع بي عظائم واسمه قدوس (2صموئيل 22: 28) ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه (مزمور 103: 5؛ 107: 9، 51)، وصنع قوة بذراعه (مزمور 98: 3). كما أنها تعود إلى العهد مع إبراهيم بالقول: «عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ» (لوقا 1: 54- 55). وهي تعود إلى ما يُسمى بلاهوت العهد مع إبراهيم، حين قال الله له: «وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ.» (تكوين 12: 3). ثم نفس الكلام في تكوين 22 بالقول: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي».» (تكوين 22: 18). تحقق هذا في المسيح حين قال بولس الرسول: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،» (أفسس 1: 3).
في قصة الميلاد نجد تسبيحات كثيرة ولكن تسبيحة مريم تسبيحة متميزة كباقي التسبيحيات وهي أعلنت لنا أمورًا كثيرة ففي المكان والمناخ الذي تمت فيه التسبيحة رأينا بعد التكامل بين مريم وأليصابات وفي نفس الوقت عرفنا أن المناخ الإيجابي يولد تسابيح. ومضمون التسبيحة يعلمنا أن يكون هناك تصور واضح عن الله، وأن عمله الخلاصي مبني على النعمة، والتسبيحة بها روح ثورية تشمل كل نواحي الحياة، ومعرفة مريم بالكلمة والعهد. ومنها كنوز وعبر لنا هنا والآن.