سر النجاح في قصة نحميا
الهدى 1218 فبراير 2020
تعتبر قصّة نحميا من القصّص المشجعة على مر التاريخ وقد دونّها روح الله لكي تعطي لنا رجاءً وأملاً مستمرًا للبناء والتشييد، أستخدم الرب نحميا في عملية البناء ويمكن أن يستخدمنا نحن في إعادة كل ما انهدم في حياتنا، وسط الخراب الروحيّ والمعنويّ في الحياة والنفوس الله قادر على أن يبني.
ونحن نعيد قراءة قصّة نحميا نقف عند سر النجاح لديه ويُبنى على ثلاثة مبادئ أساسيّة، وهي:
الأول: ارتباط الإنسان بالمكان،
الثاني: ارتباط البناء الروحيّ بالبناء الماديّ،
الثالث: ارتباط الشعب معًا بقضية واحدة،
هذه المبادئ الثلاثة هي صلب قصّة نحميا الذي وضع أمامه الهدف: «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارً» (نحميا 2: 17).
المبدأ الأول: ارتباط الإنسان بالمكان
نرى نحميا وهو متغرّب عن الوطن مهموم به فهو يسأل ويستفسر: «فَسَأَلْتُهُمْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَجَوْا، الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ، وَعَنْ أُورُشَلِيمَ» (نحميا 1: 2). يسأل عن الناس والبشر وعن الوطن أورشليم. وهو في السبيّ وفي مكان متميز (شوشن القصر) ومكانه رفيعة (ساقي الملك) مشغول بالوطن الأم، فمازال الوطن بقضايا وأزماته ومشكلاته في قلبه ووجدانه.
ما عرفه من إجابة سؤاله كان صادمًا: فَقَالُوا: «إِنَّ الْبَاقِينَ الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ هُنَاكَ فِي الْبِلاَدِ، هُمْ فِي شَرّ عَظِيمٍ وَعَارٍ. وَسُورُ أُورُشَلِيمَ مُنْهَدِمٌ، وَأَبْوَابُهَا مَحْرُوقَةٌ بِالنَّار» (نحميا 1: 3) عرف أنَّ الفساد الأخلاقيّ مستشري: «في شر عظيم وعار» نتيجة للخطية والبعد عن الله، وعرف أن المدينة شملها الدمار المعماريّ، «أسوار أورشليم منهدمة (ضياع الحماية والخصوصيّة)، والأبواب محروقة بالنار».
الحل هي الصلاة فلما سمع صُدِمَ ولما صُدِمَ صلى فالأزمة قادته للصلاة وليس العكس ومعظم سفر نحميا مليء بالصلوات، فكان موقفه: «فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ» (نحميا 1: 4). ومن هنا نرى شخصًا واحدً مهمومًا بقضايا وطنه وأهله يصنع تغييرً ملموسًا.
وليس غريبًا أن سفر نحميا يركز على البناء المعماريّ ويركز أيضًا على البناء الروحيّ في ارتباط الشعب وعودتهم بشوق مرة أخرى لكلمة الله. فالأصحاحات الأولى من 1- 7 تركز على البناء الماديّ، ومن إصحاحات 8- 13 يضع نحميا ركيزة هامة في مفهوم العمل الروحيّ الناجح وهو العودة إلى كلمة الله بشرحها وبيانها للناس وفهمها.
ومن هنا يأتي النجاح الروحيّ للنهضة الحقيقية التي ترتكز على الكلمة المقدّسة وحياة الصلاة. نحميا وهو غريب مشغول بوطنه، واليهود الذين بقوا في السبيّ هم متغربون في أوطانهم، قضية الانتماء والولاء جعلت من نحميا بناءً عظيمًا.
المبدأ الثاني: ارتباط البناء الروحيّ بالبناء الماديّ
الأخبار المحزنة الذي سمعها نحميا في الأصحاح الأول وصفت الحالة الصعبة والقاسية من ناحية الشعب: في خزي عظيم عار، ومن ناحية المدينة: الأسوار منهدمة والأبواب محروقة بالنار. لا أحد ينكر أن هذا الموقف قاتم ومظلم، الذين بقوا في شر عظيم وعار، فلم يستوعبوا الدرس بعد؟ ولم يسألوا لماذا حدث هذا؟ وتعودوا على مشهد الأسوار المنهدمة ولم تحركهم أية مشاعر ناحية ذلك، بل ظلوا في خطاياهم وشرورهم، فقدوا القيادة وكذلك المعنى للحياة. أصبحوا غرباء في بلادهم، بينما نحميا الغريب في السبي في قلب بلاده.
الذي أقلق نحميا ليست المباني المنهدمة أو الأبواب المحروقة ولكن الذي ابكاه وأوجع قلبه هو أن الشعب ضل الطريق فتفرق، الذي أقلقه هو أن الشعب في شر عظيم وعار. وإذا كان الأصحاح الأول يوصف لنا أن الأمر مر وقاسٍ نوح وبكاء، لكن تخبرنا باقي قصّة نحميا أن الأمور عادت إلى مجراها الطبيعي الصحيح فالأسوار تُبنى والنفوس أيضًا. نجد بناء يتواصل، كل جماعة تقوم بدورها، ونلاحظ تعاون وشركة توبة ورجوع.
البناء الروحيّ هو التركيز على كلمة الله في صدقها وكمالها، نحميا يصلي «أَعْطِ النَّجَاحَ الْيَوْمَ لِعَبْدِكَ» (نحميا 1: 11)، «إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي.» (نحميا 2: 20) وفي نفس الوقت ينشر ثقافة البناء، فلم يقف فقط عند وصف الحالة وتشخيصها ولكنه بدأ في العمل بنفسه، وقد نجحت دعوته في إحداث بناء روحيّ وماديّ عظيمين.
المبدأ الثالث: ارتباط الجميع بقضية واحدة
الأمر الذي نراه في قصّة نحميا أن هناك قائد فاهم وواع حرك مشاعر وطاقات الجماعة، فظهرت جماعة تترابط معًا وتتعاون في وحدة وتنوع رغم كل المعارضات والكلام السلبيّ لذي ظهر من: سنبلط الحورونيّ وطوبيا العبد العمونيّ، وجشم العربيّ.
لكن تركيز الشعب البناء في قضية البناء في صورها المتعددة وحدَّ كل فئات الشعب في عملية البناء كل فرد وجماعة شارك في عملية البناء إلى أن اتصل السور معًا في وقت قياسي، في نفس الوقت الشعب يصغي إلى الشريعة. ارتباط الجماعة معًا سواء في البناء الروحيّ أو الماديّ ساعد على انجاز المهمة والمسؤولية، إنَّ في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف. الكنيسة والدولة في احتياج إلى مشروعات توحد الكيان وتستثمر الطاقات والإمكانيات.
في قصّة نحميا:
نجد ارتباط الإنسان بالمكان في ولاء وانتماء بعد المسافة لم يبعد القلب عن المكان، بل تبين أن المكان في القلب. وهو نموذج متميز لواء ارتباط الشخص بكنيسته وبوطنه في وقت عز في الولاء والانتماء. كما لاحظنا أن هناك ارتباط بين النجاح المعماري والنجاح الروحيّ، فلا نستغرق في البناء الماديّ في المشروعات الكنسيّة على حساب الخدمة الروحيّة فالاثنان يسيران معًا لكي يمكن أن نرمم كل ما منهدم في حياتنا. وأخيرًا نرى في نحميا الإنجاز عندما يلتف الجماعة معًا حول قضية واحدة كمشروع واحد.
ليساعدنا الرب أن نرتبط بأماكننا (كنيستنا ووطننا)، نبني فيه روحيًا وماديًا وحضاريًا، نلتف معًا كجماعة شاهدة حول قضية واحدة لكي ننجز فيها، وفي كل الظروف والأحول: «إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي.» (نحميا 2: 20).