لماذا أنا إنجيلي مشيخي؟
الهدى 1223 سبتمبر 2020
يُوجد في مِصر العديد من المذاهب الإنجيلية، ويَصل عدد المذاهب الرسمية إلى حوالي 18 مذهب تقريبًا. ولقد تنقلتُ عبر هذه المذاهب سواء بشكل عملي أو بشكل فكري، فلقد خَدمَت مع أكثر من مذهب، وتجولت فكريًا من خلال القراءة والاطلاع على هذه المذاهب الإنجيلية المتنوعة. وأخيرًا استرحت أن أكون عضوًا وخادمًا في الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمِصر.
وغرض هذا المقال القصير أن أضع أمام القارئ أهم الملامح المُميزة للكنيسة المشيخية، وذلك مِن خلال دراستي وخبرتي الشخصية، حتى يَبرز للقارئ المشيخي عظمة وجمال كنيسته، ويجعله يتمسك بها أكثر وأكثر، وهذا ليس على سبيل الطائفية والتعصب بل على سبيل الانتماء والولاء للكنيسة المشيخية.
بالطبع هناك العديد والعديد مِن السمات التي تُميز كنيستنا المشيخية سواء اللاهوتية أو العملية، ولكن سأكتفي في هذا المقال بعرض ستة سمات أساسية تتميز بها الكنيسة المشيخية، ثلاث سمات لاهوتية، وثلاث سمات عملية. ولنبدأ بالثلاثة اللاهوتية، وهم كالتالي:
أولًا: تفرد مكانة الرّب يسوع
الرّب يسوع المسيح هو ربّ لكل مؤمن حقيقي، قرر أن يتبع الله المُعلن في كلمة الله المكتوبة والمُتجسدة، لذا فهو ربّ الكنيسة ورئيسها وسيدها. ومنذ أن نشأت حركة الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر وهي تبنت شعار Solus Christus «المسيح وحده» أي أنه لا يوجد ربّ أو مُخلص سوى الرّب يسوع المسيح شخصيًا.
وجاء هذا الشعار استنادًا على ما قاله بطرس الرسول في سفر الأعمال والإصحاح الرابع «12 وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» فهو الطريق الوحيد إلى الله كما أعلن هو عن نفسه لتوما والتلاميذ قائلًا «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.» يو14: 6. فلا يوجد في الكنيسة المشيخية أي شخص أو عقيدة أو فريضة أو ممارسة يُمكن أن تؤدي بالإنسان للخلاص مِن حالة الخطية، والانطلاق في علاقة حية وحرّة مع الله إلا مِن خلال الرّب يسوع، وهذا ببساطة لأنه هو مصدر وصانع الخلاص. وهذا ما يُميز كنيستنا المشيخية أنها تُكرم وتُمجد الرّب وتضعه في مكانته الفريدة والمُتفردة.
ثانيًا: تفرد دور الكتاب المقدس
يُقر دستور كنيستنا الإنجيلية بأن «الكتاب المُقدس معصوم للإيمان والأعمال»، وهذا يعني أن الكتاب المُقدس هو السلطة الحاكمة لنا، وهو المصدر الأساسي والوحيد لتكوين منظومتنا الإيمانية ومنظومتنا القيمية. فالمصدر الأساسي والرئيسي في كنيستنا الإنجيلية المشيخية لبناء الإيمان والقيم هو الكتاب المقدس. فنحن نحترم الفكر وندرس التاريخ والفلسفة، ونتَعرّف على الكتابات المسيحية المُختلفة على مر العصور، وحتى كتابات الأديان الأخرى، ولكن عندما نأتي لمصدر التشريع الإيماني والقيمي، لا نذهب لغير الكتاب المقدس.
فالكتاب المقدس له مكانة كبيرة وفريدة داخل كنيستنا الإنجيلية، فهذه هي صيحة الإصلاح الشهيرة Sola Scriptura «الكتاب المقدس وحده» التي نادى بها آباء الإصلاح الأوائل، واستمرت هذه الصيحة لتُصبح صيحة كل المُصلحين على مدى خمسمائة عام، ولاتزال حتى الآن.
وهنا أريد أن أضع أمامكم ما قاله الرسول بطرس في رسالته الثانية والإصحاح الأول «19 وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ»، فالكلمة النبوية هي المصباح الذي في ضوئه نفهم خبراتنا الروحية، ونصيغ عقائدنا اللاهوتية، ونبني منظومتنا الأخلاقية.
ثالثًا: تفرد دور النعمة الإلهية
تؤكد كنيستنا الإنجيلية على أن الإنسان لا يستطيع أن يُقبل إلى الله مِن تلقاء ذاته، ولكن الإنسان يُقبل إلى الله بفضل عمل النعمة في قلبه. فالله مِن خلال روحه يقود ويُرشد ويُلهم الإنسان ليتحرك مِن حالة عجزه وفساده ليتجه إلى لله، وبالتالي هو الذي يقوده إلى التوبة والرجوع إليه، وهذه هي نعمة الله التي تقبل الخطاة والبعيدين عنه والرافضين له.
وهذا ما يؤكده الرسول بولس في رسالته إلى أفسس والاصحاح الثاني: «8 لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. 9 لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.» فكنيستنا المشيخية تعطي كل المجد لله في مسألة خلاص الإنسان، ولا يوجد أي مجال لافتخار الإنسان بإيمانه، أو شعوره بالأفضلية على أيٍ مِن أقرانه، حيث أن الخلاص عمل نعمة خالص لا مكان فيه لأعمال الإنسان واجتهاداته. وهذا ما أكد عليه الإصلاح الإنجيلي تحت شعار Sola gratia «بالنعمة وحدها».
وسننتقل الآن لنعرض أبرز ثلاث سمات عملية في كنيستنا المشيخية:
أولًا: احترام وإعمال العقل
فالكنيسة المشيخية تحترم الدراسة الأكاديمية، فهي تمتلك أكبر معهد أكاديمي مسيحي في الشرق الأوسط، وهو كلية اللاهوت الإنجيلية. وجميع القسوس المُتفرغين لخدمة الكنيسة، هم خريجو هذه الكلية العريقة، فهي ترى أنه لا يُمكن لأحد أن يتفرغ للخدمة دون أن يكون مؤهلًا روحيًا وأكاديميًا أيضًا.
والكنيسة أيضًا تتعامل بعقلانية مع الكتاب المقدس، فهي تتبنى أدوات ومنهجيات منطقية وعلمية في تفسير النص المقدس. فقسوسها وكُتابها ومُفسريها، دائمًا ما يرجعون للخلفية الحضارية والتاريخية والجغرافية للنص، وأيضًا يرجعون للأصول اللغوية. فهم يتعاملون مع النص بمنهجية علمية عقلانية.
كما أن الكنيسة تُعطي المساحة للنقد الذاتي البناء، فنجد دائمًا حِراك لاهوتي وفكري في الكنيسة، وذلك نتيجة لتفعيل مبدأ «الإصلاح الدائم» فالإصلاح عملية ديناميكية مُستمرة، لابد وأن يدفع الكنيسة إلى الأمام، مهما تأثرت بتأثيرات الركود والجمود.
ثانيًا: احترام التنظيم والإدارة
تستند الكنيسة على ما قاله الرسول بولس: «ليكن كُل شيء بلياقة وحسب ترتيب» (1كورنثوس 14: 40)، وهذا ما أكده اللاهوتي المُصلح جون كالفن قائلًا: «لا يوجد خطر أعظم من أن يصنع أي شيء بعدم ترتيب». فالكنيسة المشيخية لا تُدار بشكل عشوائي أو فوضوي، بل تُدار بمنهجية مُحددة تتخذُ الديمقراطية أساسًا لها.
تؤمن الكنيسة بأن رأسها الروحي واحد وهو المسيح، وعمليًا القائد الحقيقي لها هو الشعب، لذلك يُوجد لكل كنيسة محلية مجلس مُنتخب مِن الشعب يتولى إدارتها. وكل كنيسة تنتمي إلى مجمع، وكل المجامع تخضع للسنودس. ولكي يتم هذا كله بشكل واضح وانسيابي، يوجد دستور للكنيسة يُحدد عقائدها ونظام عبادتها واللوائح الإدارية الخاصة بها.
ثالثًا: الانفتاح على المجتمع
لا تعرف الكنيسة الإنجيلية الانعزال أو الاغتراب عَن السياق التي تعيش فيه، فمنذ نشأتها في مِصر وهي تبني المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية والتنموية، حتى تتواصل بفاعلية مع المجتمع، فالخدمة المجتمعية عندها مثل الخدمة الروحية بالضبط. فهي تؤمن بالإنسان وخدمته، كطاعة الله وتحقيق لرسالة الإنجيل.
وهي أيضًا كنيسة مِضيافة، تستضيف الكل وتُرحب حتى بالمختلفين معها في العقيدة أو الدين، في المناسبات والفاعليات المُختلفة. فهي تؤمن بحتمية الحوار بين الثقافات المختلفة -كضرورة لبناء السلام المُجتمعي- دون أن تخشى هذا، بل على العكس، ترى أن ذلك جزءً أصيلًا من رسالتها، فهي تؤمن بالتعددية والعيش المشترك وقبول الآخر.
في النهاية أريد أن أقول لكل شخص إنجيلي مشيخي: «أفتخر بكنيستك» فهي بالفعل تقود إلى الفخر والاعتزاز. حتى وإن مَرت الكنيسة بفترات مِن الضعف والفتور، فهذا لا يعني أبدًا أن نتخلى عنها أو نخجل منها، فهي لها الفضل كُل الفضل على نشأتنا وتربيتنا الروحية والإيمانية، فهي الكنيسة التي تعرفنا على المسيح مُخلصًا فيها، وتتلمذنا عند قدمي يسوع مِن خلالها، واقتربنا مِن كلمة الله بسببها. ولكن أريد أن أترك لكم قول الرّب يسوع: «إن فَسَدَ المِلح فبماذا يُملح؟» فإذا فقدت الكنيسة المشيخية هويتها التي تُميزها، فلم تُصبح مشيخية بَعد، وستفقد رسالتها. لذا علينا بالنهضة الروحية واللاهوتية والأخلاقية، والإدارية حتى تنتعش كنيستنا ومِن ثمَّ رسالة الإنجيل.